نماذج التنمية لاتزال غير قادرة على تحقيق اصلاح مؤسسي قادر على زيادة نصيب الفقراء في هيكل السلطة في المجتمع، بالإضافة الى ان المشروعات الصغيرة والمتناهية في الصغرة والتي تعد قواعد التنمية، تمتاز بارتفاع معدل فشلها، وهذا لا يرجع الى عدم توفر البيئة القانونية والتنظيمية والمالية والمعرفية الملائمة وحسب...
التأخر الاقتصادي يمثل صفة من صفات اقتصادات الدول النامية، والكثير من الدول والمؤسسات والباحثين والمختصين في هذا الصدد، بحثوا هذه المشكلة التي تعد من القضايا المعقدة والمشاكل المتجذرة في اقتصادات هذه الدول. ووضع الاقتصاديون أسباب عديدة لهذا التأخر، منها سياسية واخرى اقتصادية واخرى اجتماعية، وحاولوا مثلما حاولت هذه الدول ولفترات طويلة حل هذه المشاكل، وهي في ذلك في مد وجزر تارة تتقدم خطوات وتارة تتراجع خطوات، وبالذات اقتصادات الدول العربية.
ونحن الان في ندخل في مرحلة من النظام العالمي الاقتصادي القائم على التكنولوجيا الرقمية من اقتصاد رقمي وعملات الكترونية وتعامل مالي رقمي على مستوى العالم، تبدو الفجوة متفاقمة ومتزايدة، باستثناء بعض دول المنطقة مثل قطر والامارات، الا انها هي الاخرى تعاني من مشاكل التأخر الاقتصادي وان نجحت في تحقيق خطوات مهمة باتجاه الامام في العديد من الانشطة الاقتصادية.
كما إن اهم نقطة للانطلاق واللحاق بركب الدول المتقدمة، وهي البحث والتطوير الا ان الدول العربية لاتزال متأخرة في هذا الصدد، استطاعت الدول المتقدمة أن توجد آليات وتعتمد على وسائل تمكنها من توفير الميزانيات اللازمة للإنفاق على البحث العلمي وتنويع مصادره، إضافة إلى الإنفاق عليه بسخاء من ميزانياتها، بينما في البلدان العربية تواجه المؤسسات البحثية والجامعية الكثير والكثير من المعوقات والتحديات، ومن أهمها انخفاض مستويات التمويل، وتدني إسهام القطاع الخاص في شؤون التعليم العالي والبحث العلمي، إذ إن نسبة تمويل البحث العلمي تكاد لا تصل إلى 1% في الموازنات العامة، اما العراق فيخصص بحسب بيانات البنك الدولي مايقارب 0,04% للعام 2017 للبحث والتطوير، في حين تنفق دولة صغيرة مثل جورجيا مايقارب الـ 0,30% وتنفق سنغافورة 2,16% من اجمالي الناتج المحلي الاجمالي.
وتبدو المشكلة أكثر تعقيداً كلما كان توصيفنا لها غير دقيق، اذ لاتكمن المشكلة فقط في التردي على المستوى الاقتصادي والتعليمي والصحي والخدمي التي باتت تشكل احدى عوائق التقدم الاقتصادي، سيما ونحن الان صرنا ضمن مايعرف بإقتصاد المعرفة ومجتمع المعرفة والابتكار. ان المشكلة الكامنة اليوم لاتتعلق بتخلف النظام السياسي وتدهور النظام التعليمي وحسب، بل تتمحور حول الاتكالية والكسل الاجتماعي الذي تعيشه مجتمعات هذه الدول، وهو ماجعلها متأخرة في مجال مايعرف بإقتصاد الابداع والافكار الجديدة، فهناك دول عديدة كانت ولاتزال تعاني من ذات العوامل السياسية والاجتماعية للدول العربية، بل وان اقتصاداتها تعاني ذات العجز والمشاكل الهيكلية، الا انها استطاعت ان تجعل من اقتصاداتها نموذج فريد يُشار له بالبنان كالهند وماليزيا وسنغافوره والبرازيل ورواندا وغيرها.
فعلى الرغم من احراز هذه الدول لنمو اقتصادي في مجال نواتجها المحلية الاجمالية، وان كانت ريعية في الغالب او تتسم بضعف تنوعها الاقتصادي، اذ ان اعادة تحقيق معدل نمو عالي من الناتج المحلي الاجمالي، لن يكون كافي لوحده في محاربة الفقر المستشري في مجتمعاتها، اذ ينبغي ان يرافق ذلك مجموعة من المبادرات في توفير فرص العمل التي توظف بشكل كامل كل القدرات الانسانية وتعالج مجالات الفقر غير المرتبطة بالدخل كالتهميش والاستبعاد .
فنماذج التنمية لاتزال غير قادرة على تحقيق اصلاح مؤسسي قادر على زيادة نصيب الفقراء في هيكل السلطة في المجتمع. بالاضافة الى ان المشروعات الصغيرة والمتناهية في الصغرة والتي تعد قواعد التنمية، تمتاز بارتفاع معدل فشلها، وهذا لايرجع الى عدم توفر البيئة القانونية والتنظيمية والمالية والمعرفية الملائمة وحسب، وانما يعود ايضا الى ذهنية الفرد العربي في المقارعة والمجازفة والاتكالية في ايجاد فرص العمل، وبالتالي يتحتم علينا دراسة هذا الفشل من جهة اجتماعية نفسية، ومعالجتها عبر التأثير في عقلية ومسار وعي الفرد العربي في عدم الاتكالية والقدرة على المبادرة والثقة في النفس واستمرار المحاولة مهما كان الطريق صعب.
ويتطلب ذلك تفعيل حقوق المواطنة والحقوق السياسية وزيادة تمكين الشباب والنساء، عبر تجاوز منعطفات العادات والتقاليد المجتمعية كالقيم القبلية المتخلفة واتجاهات البعض من المؤسسات الاجتماعية والدينية التي تحد من سلطة حرية التفكير والتعبير عن الرأي والرأي الاخر. من خلال تنمية المجتمع المدني ووضع قوانين من شأنها حماية وتطوير الثقافات والمبادرات التي تدعو الى تحقيق الاصلاح الاجتماعي المؤسسي بدءاً من الفرد والأسرة وصولاً الى باقي مؤسسات الدولة عبر شبكة من العلاقات المتينة والراسخة كما هو موجود في الدول المتقدمة، شرط ان تكون نابعة من الواقع الاجتماعي وتمتاز بالاصالة حتى نتجنب وقوعنا في الفشل كما هو الحال في السابق، وكذلك اعادة تنظيم وتشكيل المجتمع بالشكل الذي يجعله انتاجي مغامر بدل واقعه الحالي الاتكالي الخاضع.
اضف تعليق