بمجرد أن تنتقص من قيمة دينية، أو رمز ديني، أو تترفع على ممارسات شعبية تنطلق من معتقدات من المفروض أن المدنية تكفل احترامها، وحتى ولو كان انتقاصك مسايرة للموضة؛ فإنك ستحصل وبسهولة على لقب المتمدن، وتكون عضواً في احد أقسام "المدنية" التي صارت إلى أقسام منها اليسارية والشيوعية والليبرالية، والتي قد تُختزل يعنوان العلمانية.
العالم اليوم في الحقيقة واقع بين نمطين لاثالث لهما: نمط يحاول التقنّع بالدين؛ ليسوق مشاريع سياسية عبر مخاطبة البسطاء في ممارسات تعتبر هوية ثابتة، ونمط آخر يقف بالضد ليس من المتقنّع بالدين طبعاً فقد يكون صديقه في مشروع ما!، بل من الدين ذاته وممارساته، من خلال التموضع في خندق عولمي كاذب، يتيح له التماهي مع المتقنّع أيضاً للحصول على غايات ومشاريع تتعلق بالسياسة أو الأدلجة. هذان النمطان يبتعدان بمسافات شاسعة عن الهم الإنساني، وهذه هي المشكلة الحقيقة التي يعاني منها الوجود البشري اليوم، فبين التديّن المقنّع، والعولمة الكاذبة متمظهرةً بسلوكيات الإيديولوجيا المتخبطة؛ غابت أو تلاشت ملامح الخيار الثالث الوسطي.
الغريب أن الاتهامات التي ساقها مناهضو الدين والتديّن كتسويق الأباطيل والخرافات على سبيل المثال لاالحصر؛ بدأ هؤلاء المناهضون بتسويقها عملياً حتى صار العالم عبارة عن حفلة لتسويق المتناقضات، فثمة خرافات ناتجة عن اعتقادات فلسفية وفكرية واهية تم إبطالُها من أزمنة خلت، عادت للظهور بمنتهى سذاجة من يروج لها، الأمر الذي يعيدنا إلى بعض الممارسات الخاطئة لرجال الكنائس في أوروبا، والتي تسببت فيما بعد باندلاع الثورة الفرنسية الكبرى، حتى صرنا أمام واقع يقدم لنا علمانية تبشيرية بأثواب كهنة كذابين!
ويمثل اعتبار الدين على أنه (ظاهرة اجتماعية) أكبر السقطات الفكرية هؤلاء الكهنة؛ ذلك لأنهم لم يلتفتوا إلى المرات الكثيرة التي فشلت رؤاهم فيها من خلال تفسير المعطيات الدينية وفق الأطر النسبية للقوانين الوضعية. ولانعرف في الحقيقة ماسر هذا الاصرار على الانقياد غير المشروط لأفكار بينها وبين تمثلات الدين بون شاسع، حتى من قبل الذين يعتبرون أنفسهم ناطقين رسميين باسم الفكر الديني ومعاصرته، وكأن المعاصرة والتجديد يتمثل في التنصل عن القيم؛ لإرضاء مناهج هي أصلاً متناقضة ومفتقدة للواقعية، كما في قضية (الأشكلة) التي طرحها (محمد اركون) في كتابه (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل..نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي) حيث يشدد على أن المهمة الرئيسة للباحث هي في أشكلة النظم المعرفية التي تنتج المعنى. لابأس بوضع الأنظمة الفكرية على المحك النقدي، لكن ليس على أساس المساواة بين ماهو سماوي وماهو وضعي بذريعة الحيادية وفي الحقيقة الأمر هي ليست حيادية بقدر ماهي محاولات لخلط الأوراق من أجل الوصول إلى اللامعنى عبر المقارنة بين مضامين الكتب السماوية وفق تصورات المستشرقين.
في الحقيقة، إن الغموض الذي يلف مفهوم العلمنة ليس بالجديد، فضلاً عن ارتدائه القميص الراديكالي كنسقِ أثار ومازال يثير الحساسيات المجتمعية تجاه هذا النمط الفكري (التجميعي) ، حتى صار المجتمع في واد ومتبنو هذا الفكر في واد آخر، كما يحصل في تجربتنا العراقية. إنَّ الانتكاس الذي حصل في الليبرالية العراقية، جاء نتيجة التصورات المبنية على افتراضات مخيالية - إذا جاز لنا الوصف -، ولا تعكس واقعية ولو بنسبة قليلة، وهو ذات الانتكاس الذي تعرضت له حركات مماثلة، فالماركسيون في العراق، بُنِيت تصوراتهم على مايتوافق مع النسخة السوفيتية. أما القوميون، فإن تصوراتهم المنحازة لمنطق تعنصر من بوابة اللغة، جعلتهم سابحين في وهم التاريخ برومانسية حالمة هائلة، فصاروا أسرى الغشاوة التي تمنع النظر عن الواقع وتحولاته ومتناقضاته، مصدقين بيت صفي الدين الحلي : " سَلي الرماحَ العوالي عن مواضينا / واستشهدي البيضَ هل خاب الرجا فينا "، فكانت معاني هذه الكلمات الشاعرة بديلاً عن أية رؤية تحليلية، حتى نزلت عليهم الصاعقة
الحزيرانية وهو ماجعل الشاعر أحمد مطر يسخر من أحاديتهم وانقيادهم للغرب بصور عديدة بقوله : " سَلوا بيوتَ الغواني عن مخازينا / واستشهدوا الغرب هل خاب الرجا فينا ".
أعتقد أننا أمام نكتة سمجة، ونمطية بائسة، وتخندقات لاعلاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بتقديم أنموذج فكري يعول عليه في بناء المستقبل وازدهار الحضارة.
والأكيد أن على علم الاجتماع اليوم مسؤولية كبيرة تتمثل في دراسة هذه الأنماط المتناقضة، وأهمها ظاهرة استيراد الأفكار من الخارج وتسويقها كمسلمات في الداخل، دون النظر إلى خصوصيات الداخل، والتفكير بنسبة قبوله لهذا الوافد الغريب من الأفكار. وثمة مسؤولية أخرى، تقع على عاتق الفلسفة في دراسة ذات الظاهرة. لقد شبعنا من التحليلات التي انشغلت في إثبات أو نفي المقدس بين الإيمان أو التشكيك، نحتاج إلى نمط جديد من الأفكار يدرس الظواهر المعاصرة، ويفلسف التداخل الهجين بين المتناقضات، ويقدم نتاجاً مضيئاً يعتمد على حداثة تنويرية تراها الدكتورة (رواء محمود حسين) في كتابها (الحداثة المقلوبة)، على أنها تستند أبعاد النص المقدس، والشعور الذي يمتد عميقاً داخل ذات الإنسان، والعقل، والواقع، والسلوك.
اضف تعليق