قد يكون لمنطق القوة تأثيرات سلبية في حال تم اعتماده وفق الأفكار التي تضر بفطرة الإنسان، لكنه في ذات الوقت يمكن أن يكون ذا تأثيرات إيجابية، حين يتحول فعل القوة إلى مسارات ذهنية تفكيرية متفائلة بالمستقبل، إذ أن مجرد التفكير بالمستقبل يمنح الإنسان طاقة شعورية هائلة بالقوة الإيجابية. إن التفكير بالمستقبل، والتفاؤل بحدوثه يعدان من بدايات تحقيقه، ويمكن لنا الاستشهاد بكبار العلماء الذين قدموا عطاءاتهم العلمية للبشرية حيث أن مشاريعهم بدأت بالحلم والتفاؤل قبل أن تتحول إلى حقائق مذهلة وشاخصة.
وحتى في موروثاتنا الدينية والعقائدية، ثمة حث على التدبر والتفكر، وكذلك على التفاؤل، جاء في كتاب الله العظيم: "قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد / آل عمران الآية15"
وفي السيرة النبوية الشريفة، كان الرسول (ص) يحث على التفكير الإيجابي والحث على التفاؤل، وأنه كان يتنبأ بانتصار دعوته رغم كل الصعوبات التي واجهها، وكان ينهى عن التفكير السلبي الباعث على التشاؤم، فنراه يقول مثلاً : "يَسِّروا ولاتُعَسِّروا وبَشِّروا ولاتُنَفِّروا"، ويقول كذلك: "والله ليُتِمَّن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
وحتى لو واجهت الإنسان مشاكل قوية، فعليه عدم مقابلتها بالويل والثبور والعويل، بل يجب أن تأخذ المواجهة باستيعابها والثبات وعدم الاهتزاز إزاءها، ثم الاصرار على الوصول إلى الحل. ولعل أبرز مشاكلنا اليوم تتعلق بفرض منطق القوة السلبي الذي يجنح إلى الاضطهاد والافراط في الأنانية، ومظاهر الانحراف والابتعاد عن القيم الأخلاقية التي هي نتاج جذور الأفكار المنحرفة والمتطرفة، والتي أنتجت بدورها فرداً مأزوماً على مستوى الذات والتعاطي مع الآخر، لكن هذا لايعني الركون إلى اليأس، بل يجب التفاؤل والتفكير بمستقبل الجهد الذي سيبذل من أجل تعديل هذه الجذور، وإعادة إنتاجها بصور جديدة واشتراطات مستقبلية وحضارية تبعد الإنسان عن أزمته الكبرى التي تشظيه عبر تطرف الفكر يميناً وشمالاً، والتي جعلته يعاني من انفصام الشخصية Personality Multiple، أو من الأمراض التي تصيب مدركاته الذهنية والتي تعرف بالشيزوفرينا Schizophernia.
يقول الإمام محمد الشيرازي: "المتفائلون هم الذين حلّوا لغز المستقبل، واستطاعوا أن يقهروا تحدياته، وأن يقفوا عند إيجابياته ليستثمروها. لذا على الناس كي يعيشوا حياة ناجحة، أن يؤمنوا بحقيقة ثابتة، هي أن المجتمع يتغير، وأن العالم يتغير، وأن يتعلموا باستمرار كيف يتكيفون مع هذه التغييرات الحادثة، فلو استطاع الإنسان أن يواجه تحديات المستقبل بحكمة وخطة، لاستطاع أن يعيش حياة رغيدة في الدنيا، وحياة سعيدة في الآخرة"1
والتفاؤل الذي يمثل وجهاً آخراً للقوة، لاينبغي أن يكون مفرطاً لايأخذ بنظر الاعتبار الواقع وتحدياته، بل يجب أن يكون هناك حالة من التلازمية بينه وبين الواقع؛ للوصول إلى حالة من التكاملية بينهما، فالتفاؤل لوحده من دون جهد يبذل لن ينتج شيئاً ذا فائدة، وكذا بالنسبية لقضية الركون إلى الواقع في حال سلبيته سيجعل من الانزواء والتقوقع آفة نتيجة الانفصال المر بين القيمتين، يحتاج الإنسان إلى التفكير بالأبعاد المستقبلية والتفاؤل بها وبنتائجها، معززاً ذلك باكتساب مزيد من المعارف المقترنة بالأخلاقيات البعيدة عن أشكال الهيمنة والأنانية كما نشاهد مثلاً في البلدان التي تقدمت في مجال العلوم والتقنيات والمعارف، وكان هاجسها هو النفوذ والسيطرة على العالم من دون مراعاة للجوانب الأخلاقية والانسانية وهذا هو ماتتجلى به العولمة السلبية التي فرضت على الإنسانية تخمة من اللامعنى، الأمر الذي ينذر بمستقبل قاتم للبشرية كما توقع الصحفي الأمريكي (روبرت كابلان)؛ وذلك بسبب تنامي طموح الهيمنة النرجسية للقوى التي عززت من نفوذها من البوابة العولمية التي فصلت المعارف عن الأخلاق؛ لذا لابد لنا من تجسير يربط المعارف بالقيم، والثقافة بالعولمة ويحدث تقارباً منطقياً.
ولايخفى إن القوة السلبية التي سببتها عولمة الاتصالات والتكنلوجيا أصبحت من المحرضات الرئيسة لتبرير العنف والكراهية بعد طلائهما بألوان ثقافية براقة وجذابة، وقد يتسع الحديث هنا للاستشهاد بعشرات الصور الثقافية والفكرية المعاصرة، والتي تؤكد هذا النمط المُقنّع من العلاقات بين المفاهيم، فالإنسان الحاضر في هذه الصور إنسان هيكلي تُحركه محددات مبرمجة عولمياً محدثة شيئاً من التجريدية العشوائية لشكل الإنسان وصورته المتلاشية في الثقافة، في ظل سيادة العرقي على الأخلاقي عبر تحركه في عتمة عقلية هائلة.
لن يحدث التقارب بين المفاهيم عموماً، وبين الثقافة والعولمة على وجه الخصوص؛ مالم نميز الإنساني من نقيضه اللاإنساني، وذلك لن يتم إلا بنبذ الاختلاف المؤدي إلى التشرذم بعد تشخيص جذوره ومسبباته التي قادت البشرية لكوارثها طيلة الفترات الزمنية السابقة، لا بتركه وفق منطق إهمال الماضي الذي للآن يزيد من مساحات الخدر على الخريطة الفكرية اليوم. لابد من اعتماد المقاييس الناضجة والعقلانية في إبراز صورة الإنسان في شكل ثقافي واضح متحرر من العقد والأزمات التي تحيط به من خلال العودة إلى الفطرة السليمة التي تحرره من الوحش الذي دخله من نافذة العولمة، وجعلته أسيراً لها ولإشكالياتها التعقيدية بحيث ضرب بعرض الجدار كل المكونات التي تشركه مع الآخر حضارياً وإنسانياً، ومع المزيد من التفاؤل والواقعية والتفكير بالمستقبل المُتخيل؛ يمكن أن نقدم وجهاً ناصعاً للقوة الإيجابية التي لابد تنتصر على نظيرتها السلبية.
اضف تعليق