بدأ مفهوم القوة يتخذ معنىً مغايراً عن الذي كان سائداً في عصور سابقة، خصوصاً بعد الهيمنة شبه المطلقة لعالم التكنلوجيا والاتصالات على الذهنية الانسانية، وصار شيئاً فشيئاً يقلب المفاهيم إلى أضدادها حيث يصير الوضوح غموضاً والربح خسارة. لقد دخلت السطوة المعرفية على خط التصارع بين منطقي القوة والأخلاق، ولم تعد القوة مقتصرة على قوة العضلات الجسمانية، أو في من يدير دفة الصراع الطبقي، بل صارت القوة عند من يدير دفة الصراع على المعارف لصالحه؛ لأن المعرفة كما يرى الدكتور (رشاد الحاج صالح) تخفي بداخلها ثنائية سلطوية بين السياسة والاجتماع، يقول في مقال له: "الأساطير والفلسفات والأيديولوجيات والأفكار السياسية عن الديمقراطية والعلمانية والملكية، وحتى العلوم الحديثة، ظهرت في إطار الصراع على امتلاك التحدث باسم المعرفة الحقيقية. فالمعرفة لم تكن في أي يوم من الأيام، بريئة أو حيادية أو موضوعية، تبحث عن الحقيقة لمجرد الحقيقة، بل إن الحقيقة نفسها لم تكن مفهوماً محايداً، لأن كل فئة كانت تريد أن تفرض الحقيقة التي تناسبها وتنسجم مع مصالحها، إدراكاً من الجميع أن المعرفة هي الغلاف الإيديولوجي والأخلاقي لصراعات المصالح والنفوذ.
والأمثلة على الصراعات المعرفية كثيرة. فالصراع الذي دار في أوربا خلال العصور الوسطى، بين الكنيسة التي تقول بدوران الشمس حول الأرض آنذاك، وغاليليو الذي كان يقول بدوران الأرض حول الشمس، لم يكن صراعاً معرفياً محضاً بل كان في جوهره صراعاً سياسياً، لأن كل طرف كان يريد أن يفرض سلطته على المجتمع بغض النظر عن مضمون ما يقول، ولأن الكنيسة كانت ترفض أن يأخذ العلم الحديث مكانتها السياسية الرفيعة".
إن التصريح بعدم تبرئة المعرفة من انعكاسات الصراع على امتلاك زمام القوة واحتفاظ البعض بها معلناً عن نفسه سادن الحقيقة الأول ومالكها الأوحد؛ يجعلنا ندور في فلك التساؤل عن الأدوار غير الأخلاقية التي لعبها مفكرون وفلاسفة وأدباء في تغذية هذا الصراع سلبياً، الأمر الذي جعل الفرد الانساني واقعاً في شراك المتاهات الفكرية، إذ أن هؤلاء المشتغلين بحقول المعرفة المختلفة إنما يريدون ممارسة قوة الهيمنة على متلقيهم وحتى وإن كانت هذه القوة تنتج لهم التشظي (المقصود)؛ لأهداف وغايات غير إنسانية.
ولنأخذ مثلاً أنموذجاً بسيطاً يتمثل في إحدى عبارات (فريدريك نيتشة) التي تتعلق في موضوعة الغريزة والشهوانية فيقول: "إن استئصال النزوات والشهوات فقط لاتقاء حماقتها أو النتائج المغضبة لحماقتها يبدو لنا اليوم مجرد شكل صارخ من الحماقة"2
وهنا يتغاضى (نيتشة) ممارساً قوة الهيمنة على ذهنية المتلقي لغايات تتعلق بفلسفته هو، عن الحالة الوسطية التي يمكن خلالها السيطرة على (حماقة) الغريزة والشهوانيات من دون التطرف في قمعها كما عبر هو بأحادية، أو الاسراف في استخدامها لدرجة تذهب بالفطرة الانسانية إلى الهباء.
وهذه الوسطية تكمن في القيم الدينية التي نظمت السلوكيات سواء مع حالة الغريزة أو غيرها، وهو مالايحبه (نيتشة) ومريدوه، فتتجلى هنا هيمنة القوة قامعةً أي حضور أخلاقي يوصف بأنه حماقة!
إن مشكلة فلاسفة الغرب، وفي محاولة منهم لفرض منطقهم بالقوة على حساب الحقائق؛ عادة ماينظرون إلى قضية الأخلاق من الوجه الذي يتماهى مع فرض منطقهم بشيء من التسطيح وعدم التفصيل أو الدخول في العمق، تاركين أنصارهم أسرى المتاهات والتخبطات الفلسفية التي أفضت وتفضي بهم إلى ضباب حضاري وقيمي كثيف، كما تنبأ لهذه الكثافة الضبابية العالم الألماني (أريك فرام) القائل: "العالم الغربي في طريق مسدود، لقد حصل على الكثير من الأمور الاقتصادية، وفقد أي معنى وهدف في الحياة، المجتمع الغربي مثل أي مجتمع آخر في الماضي، لابد من أن يفقد حيويته وقوته الداخلية".
كم أن هناك تداخلاً غريباً يحاول الماركسيون فرضه بقوة أيضاً يتمثل في أن الأخلاق صنيعةُ الأقوياء التي من خلالها يستطيعون من خلالها استعباد الضعفاء على حد قولهم، متناسين أن فرض هذه الرؤية ماهو إلا استعباد آخرين للدخول في المنطق المادي، وهم بذلك يتوافقون مع ماذهب إليه (نيتشة) من أن الرحمة والعطف من أخلاق العبيد الرعاع، وأنها مجرد حيل للضعفاء يضحكون بها على الأقوياء، وأن الحياة هي خلاصة لهذا الصراع بين الأقوياء بمنطق هيمنة القوة، والضعفاء بمنطق قيم الأخلاق والرحمة والعدالة الانسانية، وهذه الأفكار الغربية هي عين ماانطبقت عليه مقولة العالم الألماني (فرام) أعلاه.
نحن هنا لاندعو لتغليب طرف على آخر في صراع القوة والأخلاق، بل نعتقد أن على طرفي هذا الصراع الإفادة من بعضهما البعض فلا تسلط لهذا على ذاك، يقول الإمام علي (عليه السلام) "لاتكن ليِّناً فتعصر ولا قوياً فتُكسر" فالأخلاقيات بحاجة لقوة تديم زخمها الانساني، وكذا بالنسبة للقوة التي ينبغي لها أن تحضر مدافعة عن القيم الأخلاقية وليس العكس.
اضف تعليق