أخطر حالة تمر بها المجتمعات؛ هي تلك التي تنحرف فيها رؤية النخب الثقافية عن سياقها وواقعها؛ لأن الرؤية دائماً ما تنطلق من وعي يؤسس لمشاريع تدخل فيها الثقافة من أجل بناء الإنسان. والانحراف عن مسارات الوعي يمثل إشكالية كبرى تقدم حالة من الضبابية واللاوضوح لصور من التخندقات والاقطاعيات الثقافية القابعة في غرورها ورغباتها الضيقة، والتي لن تضيف سوى أشكال أخرى للمأساة.
ومثل هذا الخطر يتجلى بوضوح في الحالة العراقية اليوم، صحيح أن بوادره لمعت منذ الانقسام النخبوي بعد عام 2003 حين بُرِّزت أزمة مايعرف بـ (مثقفو الداخل والخارج)، لكن الانتعاش الأهم له كان بعد احتلال تنظيم داعش الارهابي التكفيري لمدن عراقية تمثل عمقاً مذهبياً معيناً، وما رافق ذلك الاحتلال من تداعيات ألقت بظلالها الرمادية على كافة مفاصل البلد ومنها المفصل الثقافي. لقد تجاوز المثقف في العراق وظيفته في البحث والتحليل وصياغة الأسئلة، واكتفى بوضع الإجابات والمبررات الجاهزة لهذا الحدث يميناً أو يساراً، وهو ما أحدث شرخاً كبيراً في جدار الدور الثقافي. ولعل مفهوم (الدور الثقافي) يمثل إشكالية بحد ذاته، يقول (وليام شيكسبير): "العالم كله مسرح والرجال والنساء فيه مجرد ممثلين في دراما الحياة، ينطقون ما حفظوه من أقوال، ويؤدون ما وزع عليهم من أدوار".
ويناقش (أ.س أحمد جابر الصعب) هذه المقولة الشكسبيرية معتقداً أن مفردة (الدور) "استعيرت من الدراما المسرحية لتعني المهمة الموكولة للفرد لأدائها في الموقع الذي يشغله في العالم الذي يعيش فيه. وهذا يتضمن مسألة تطبيقية غاية في الأهمية هي: ان (الدور) مستقل عن (الفرد) الذي يؤديه. وهذا يعني ان في الإنسان الواحد مكونين هما: الفرد بأبعاده العقلية والجسمية والاجتماعية والنفسية وما ينجم عنها من سلوك، والدور الذي يحتم عليه ان يؤدي متطلباته وما يترتب أو يتوجب عليه من سلوك".
ووفق هذه الرؤية فإننا سنكون إزاء نمطين أو شكلين من الثقافة يتصارعان بين ثقافة المثقف الشخصية، وثقافة تتعلق بدوره الذي عليه أن يؤديه للارتقاء بواقع مجتمعه، وهنا أكيداً تكمن الإشكالية السلوكية للمثقف.
والسؤال هنا: لو أردنا أن نفسر سلوك المثقفين العراقيين في أحرج المراحل التي يمر بها العراق، هل سنجزم بأننا فعلاً نعيش إشكالية السلوك الثقافي؟
الغريب في التجربة العراقية أن أكثر المثقفين يكتبون ويُنظِّرون للمثقف العضوي الذي بشر به الماركسي الايطالي (أنطونيو غرامشي) ولخص وظيفته الأساسية في تحقيق تصور للعالم والأحداث في نطاق الطبقة والفئة التي ينتمي لها المثقف عضوياً فضلاً عن تحقيقه للتجانس في الوعي، وكذلك في الممارسة النقدية للنشاط الفكري الذي يقوم به.
كما حدد غرامشي نمطاً آخر مقابل نمط المثقف العضوي أسماه بـ (المثقف التقليدي)، ومثقفو هذا النمط يعتبرهم معتمدين على الرؤية التاريخية التي يراها زائلة، ممثلاً لهم برجال الكنيسة الذين رآهم احتكروا الإيديولوجية الدينية والعلوم والفلسفة.
سلوك النخبة الثقافية العراقية بعد حزيران 2014 كان بعيداً عن النظرة الرومانسية للمثقف العضوي وحقيقة دوره، فقد أخذ هذا السلوك شكلاً علمانياً بثوب طائفي فضفاض، بدا متحاملاً على الدين على اعتبار أن التنظيم الارهابي يمثل شكلاً من أشكال الإسلام، لكنهم النخب تغض الطرف على أنه شكل منحرف لا ينتمي للجوهر الحقيقي للإسلام فمارسوا عملية خلط للأوراق، قبل أن تتحول الممارسة إلى شكل آخر بدا أكثر غرابة حينما قام المثقفون بتبرير الجرائم التي يقوم بها التكفيريون، بسبب ارتباك التجربة السياسية العراقية بعد 2003 فانطبقت على سلوكهم مقولة (حق يراد به باطل) فهم أكيداً ليسوا مع داعش أو جرائمها، لكنهم استثمروا تلك الجرائم من أجل إسقاط تجربة ما بعد صدام حسين بنسختها (الشيعية) من باب (عدو عدوي صديقي).
نمط آخر من النخب كشف عن قناعه المذهبي المتخفي فيه معتقداً أن الأمور حسمت لصالح السواد التكفيري لدرجة اعتبار (خليفة) المسلمين المعاصر (أبو بكر البغدادي) بأنه (المهدي المنتظر) والمنقذ للبشرية، وذلك عبر كتابات وتنظيرات، وحتى رسائل عبر (ماسنجر) الفيسبوك، ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، تحاول إقناع الزملاء الآخرين بضرورة الإيمان بواقعية التجربة الوهابية الجديدة ، بل أن مثقفاً اتصل بشاعر اسمه (عمر) معتقداً بأنه (سُنّي) قائلاً له أن الأمور استتبت في صلاح الدين والموصل والأنبار وطالبه بالصمود ريثما يصل التنظيم الذي كان هذا المثقف أحد جنوده على مستوى الممارسة العسكرية والتنظير!!
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن مثل هذه المواقف(النخبوية) أصبحت متاحة بفعل انتشار الميديا، وشبكات التواصل الاجتماعي؛ فإن مساحة التذمر المجتمعي منها ستزداد، وستزيد من العزلة التي فرضها المثقف على نفسه بفعل اضطراباته وتشظيه بين ثقافته الخاصة وثقافة الدور الذي يؤديه.
بل أن أكثر النخب تصدر مواقفها متماهية مع مواقف أخرى حتى من دون قناعة داخلية بها، وهنا أخطر حالات الإشكالية المتعلقة بسلوك المثقفين؛ كونها جاءت بناء على (النخبة عاوزة كده)!.
ويمكن ملاحظة هذه الجزئية بقراءة بسيطة لمواقف بعض الناشطين تجاه قضية تفجير تنظيم داعش الارهابي لمنارة الحدباء التاريخية في الموصل، فالحدث وإن عكس وحشية غير مستغربة من فكر منحرف تجاه الحضارة ومكوناتها، إلا أن المبالغة بهذا الحدث لدرجة اتهام المحتفلين بانهيار الجماعات المتطرفة وانتصار الجهود الوطنية بأنهم يحتفلون بسقوط المنارة ويقدمون خدمة مجانية للتنظيم الإجرامي؛ عكس حالة التصدع الداخلي لدى هؤلاء، وهم حتى الأمس القريب كانوا يتجنبون إدانة جرائم التكفيريين بشكل صريح عندما تستهدف الإنسان، منطلقين بتنظيرات تعكس نظرة بعين واحدة قاصرة قد تُصنّفهم مستقبلاً ضمن فئة المثقفين التقليديين الغرامشية بعد أن تتكشف كل الأقنعة، ويفرض الوعي حضوره لدى الناس البسطاء.
اضف تعليق