عادة فكرة صراع الحضارات للظهور مجدداً بعد فترة من الانزواء، وكانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 وتداعياتها أهم أسباب العودة القوية.
اليوم تتصاعد الأصوات ــ حتى مع سخونة الأحداث العنفية ــ بضرورة إيجاد بديل أو معادل موضوعي لفكرة صراع الحضارات، أو تصادم الثقافات والهويات، من خلال مشروع يؤسس لما يُعرف بـ (العقد الثقافي) وهو وجه من وجوه الصلح الحضاري والثقافي خصوصاً في زمن ملتهب بالأحداث والصراعات التي صارت للهويات والثقافات حضور كبير فيها، والحالة الثقافية باتت تمثل أهم إشكاليات هذا الزمن الصِداميِّ، خصوصاً مع احتكارها من قبل العولمة التي جعلتها أسيرة لمنطقها. لكن السؤال هل يستطيع هذا الزمن تأصيل هذا التصالح وفق رؤية موحدة؟ وهل تستطيع الثقافة أن تتوحد وشرطها هو (تجاوز السائد)؟
ويرى (آلان تورين) أن ثمة إشكالية في مقاربة لفظة "العقد" مع لفظة "الثقافة"؛ كونه يرى أنَّ اللفظين متناقضان، ومع ذلك إذا أردنا لهذا العقد أن يتشكل ــ بحسب تورين ــ لابد من التركيز على الاختلافات وأهمها تلك التي تؤدي لعالم العنف والكراهية والحروب.
يبدو (آلان تورين) متشائماً حتى مع اجتهاده في إخفاء التشاؤم، فهو يرى صعوبة بين شمولية العقد الثقافي من جهة، وبين الهوية والخصوصيات الثقافية، أي أنه قد يجدها فكرة مثالية؛ لتداخلها بين ماهو اجتماعي أو ديني فيقول: "لطالما ظهرت الثقافات كأنها موجودة فوق، في السماء، أو تحت على الأرض، أي في المحصلة عند منتصف الطريق بين الاجتماعي والإلهي. وقد أكتٌشف السياسي وعُرِّفَ بأنه قادر على تحديد مفهوم لمجتمع تلتقي فيه ثقافات مختلفة ومتنافسة. لو كان الحل السياسي هو المجدي لانتهى النقاش، وأُقفل مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمواطن عام 1789، ولا نتفى سبب إعادة فتحه اليوم، لكن لماذا يُفتح النقاش من جديد؟".
ومن خلال كلام تورين يبدو أن سبب تشاؤمه يكمن في عدم قدرة المؤسسات السياسية على ترسيخ حالة المواطنة التي يتمتع بها أفراد دون غيرهم، فالمواطنة لاتعني أن تعيش في مكان يعيش فيه آخرون بينما تعاني من التباين معهم على صعيد العمل والحقوق.
فنجاح فكرة العقد الثقافي مرتبط بإمكانية توفير ديموقراطية سياسية واجتماعية تمهد للديموقراطية الثقافية التي تكفل للجميع المساهمة في صنع المستقبل ، المستقبل الذي يعطي الحق لكل فرد أن تكون له إجابته الخاصة المحترمة حتى مع اختلافها مع إجابة الفرد الآخر، لكن ذلك يجري في إطار من الشمولية المرنة، والتواصل الذي يؤمن بأن الثقافة ليست حالة ثابتة وانما متغيرة ، لابمعنى مغايرة السائد، بل بمعنى المشاركة الفاعلة في الحداثة العالمية وتداعياتها مع التأكيد على الحفاظ على الخصوصية ، وضرورة الإيمان بالحق الثقافي لكل فرد.
حقوق الانسان وغياب التفاوت بين الثقافات
إن فكرة التفاوت بين الثقافات، وتفوق هذه على تلك لم تعد مقبولة في ظل التطورات الحاصلة، والتقارب الكبير الذي جاء بفعل هيمنة الميديا ووسائل التواصل العالمي التي قلّصت كثيراً من مساحات التفاوت الثقافي والحضاري، فضلاً عن الحضور المؤثر للحداثة حتى مع الاختلاف على تعريفها وعلى موقعها، فلكل ثقافة اليوم حضورها وكرامتها وبصمتها التي تميزها.
لكن لاينبغي التعاطي مع غياب التفاوت بشكل يقترب من المتخيل ويبتعد عن الواقعي، لابد من تعزيز تقارب الثقافات، وعدم الاكتفاء بالدور الصغير الذي تمنحه السياسة، فهذا الدور ليس بإمكانه صنع أرضية خصبة لحوار الثقافات، هناك فجوة بين الطموح في تأدية الرسالة الحضارية وبين الممارسات التي تترجم هذا الطموح، مع التأكيد على أهمية عدم انقياد الممارسات لمشاريع تفوح منها رائحة الأدلجة. إذن يجب البحث عن عامل مشترك يكون بمثابة دستور ينظم شكل العلاقة بين الثقافات المختلفة ويلغي التنافر فيما بينها، وقد يكون هذا العامل هو حقوق الانسان، لكن (هالة الباجي) لاتراه عاملاً مشتركاً؛ لأن "حقوق الانسان والحقوق الثقافية على تناقض فيما بينهما. إن المبدأ الذي يؤسس لحقوق الانسان هو تحرير الانسان من الحتميات الثقافية أو ما يسمى بالأفكار المسبقة. تظهر حقوق الانسان عندما يمّحي التمايز الثقافي وعندما ينتفي حق الأسبقية الثقافية".
وهنا تشير إلى أن أهم مبادىء حقوق الانسان هي أن الناس أحرار متساوون في الحقوق بغض النظر عن متبنياتهم، بينما تركز الحقوق الثقافية على الأصول والخصوصيات الثقافية.
ونحن نعتقد أن التركيز على الأصول، والاهتمام بالخصوصيات ليس بذلك العائق الذي يقف بوجه مبادىء حقوق الانسان، بل نرى العكس، يمكن له أن يكون عامل تعزيز في حال كان التركيز على الخصوصية مصاحباً لاحترام الخصوصيات والمتبنيات الأخرى، ولايفرض خصوصيته كمُسَلِّم من المُسَلّمات التي يجب الأخذ بها أو مواجهة المصائر المجهولة والرمادية.
ولهذا فإن استثمار غياب التفاوت بين الثقافات المتنوعة؛ سيؤدي إلى إنعاش فكرة العقد الثقافي بعد تهيئة الأجواء التي تتكامل مع الفكرة، وأهمها الديموقراطية التي تبدأ من المفصل السياسي والمجتمعي وصولاً إلى ديموقراطية ثقافية تمثل خيطاً تنتظم فيه الخرزات المتنوعة.
اضف تعليق