لا أظن شخصا منّا الا وله تجربة حميمة مع السندويشات، ذلك بما يقدمه السندويش من وجبة سريعة تسد لهفة الجوع التي لا يقوى على درئها صبر الانتظار، ناهيك عن الشعور باللذة المصاحب لتناوله والتهامه، ربما لعمره القصير الذي يقضيه بين أيدينا حتى لحظة وداعه بآخر قضمة تدخل جوفنا.
ولكن قد نغفل أو نتغافل عما في هذه الوجبة السريعة من أضرار بالغة على الصحة، وسوء التغذية. فهي لا تسد رمقا من جوع الا وتترك في جنب ذلك أضرارا جانبية تبدو وتتضح خطورتها مع مرور الزمن.
وفي الحقيقة أنا لم أقدم الكلام عن (سندويش) الأكل إلا لأنطلق منه الى (السندويشات المعرفية) التي راجت وتكثرت في الآونة الأخيرة، حتى صارت المعلومة السندويشية هي العنصر البارز الذي يتناقله الناس ولا يستسيغون غيره، وصار الاطلاع على المعلومات التفصيلية، أو التي تحمل صبغة التخصص، مما يستثقله الفكر، وينأى بحمله العقل، ويمجه الذوق.
فقد انصرف أكثر الناس عن قراءة الكتب والموسوعات، بل وحتى الكتيبات، وصار الاعتماد على المعلومات الجاهزة التي يحصل عليها من رسالة، أو مقطع فيديو، أو تقرير مصور، على الفيسبوك أو الواتساب أو اليوتيوب أو غير ذلك من شبكة اتصال النت، هو المعوّل عليه في تكوين الثقافات، وبناء المنظومة المعرفية. جهلا أو تجاهلا بأن هذه المصادر ليس لها في حيز الوثاقة والتثبت سهم ولا نصيب، فيظهر من يدعي أنه طبيب أو خبير في علم أو صنعة، ويسرد من الأمور والمعلومات الغريبة، المعززة بالموسيقى والصور واللقطات المتناغمة مع الحدث، لتعزز في النفس مصداقية له مصطنعة. حتى تبني لها في خلايا القناعة النفسية جدارا يصعب هدمه، بينما لم يكن الأمر إلا وهم في خيال في ادعاء بدون دليل أو برهان.
ان أخطر ما نواجهه في هذه السندويشات المعرفية المزيفة، هي تلك التي تخاطب الفكر والعاطفة معا، فتدعو بأسلوبها البراق المحاكي للعقل الباطن الإنساني، إلى نبذ واستهجان عادات وعقائد وأخلاقيات اتسمت بها مجتمعاتنا الإسلامية، وعُدَّت جزءا من وجودها وحضارتها، بعد أن أجريت عليها سلسلة من البراهين والتجارب والحجج، حتى نضجت في قِدْرِ المعرفة; فتجد (مزحة) تنال من الزوج –وهو عمود الأسرة- وتسقطه من نظر واعتبار زوجته ، و(نصيحة) تعلم الرجل كيف يبني علاقة شبهات وانحراف بعيدا عن خيمة الشرع وسقف الأسرة. و(تقريرا علميا) يحاول أن يقنع المتلقي على فساد تلك الجهة، أو خسة تلك العقيدة، أو بشاعة تلك الشخصية. وربما يؤطر ذلك كله بإطار الكوميديا والسخرية والنكتة ومحاولة زرع الابتسامة، ولكن يزرع بجانبها الكثير من أدغال الشكوك والريب وزعزعة الإيمان، وتخلخل القيم والمبادئ، وانهيار حاجز الحياء والحشمة.
وللأسف صارت هذه المعلومات السندويشية هي أساس معرفتنا ومنتهى علمنا. بل صارت مصدرا ومرجعا لكثير من مثقفينا يستخدمه في كتابة بحث أو مقالة أو تقرير. وصار الاعتماد على المصادر المعرفية الرصينة ميزة القلة القليلة منا. وبتنا –بسبب ذلك- على شفا الهاوية، هاوية الجهل والغفلة، ونحسب أننا في غاية التطور والمواكبة للعلم. حتى آل أمر الكثير منا -والعياذ بالله– الى انطباق قوله تعالى عليه (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).
ولا أدعي أن كل ما يأتي من (السندويشات المعرفية) يحمل الأضرار وبذور الجهل. كما لا أدّعي –في الوقت ذاته– أن كل سندويش طعام نتناوله فقير بمادته الغذائية، فقد تحتوي الوجبة الغذائية السريعة من أنواع الطعام الغني بكل العناصر ما يجعلها توازن في أهميتها وفائدتها أغنى الوجبات التي أعدتها يد الطهاة المهرة. غاية ما هنالك أنا ينبغي علينا أن نجعل مصدر معارفنا وعلومنا وثقافتنا هي المصادر الموثوقة ذات المصداقية المعترف بها، ولا يكون التجاؤنا واعتمادنا على السندويشات المعرفية إلا بمقدار قليل، بعد التأكد من رصانة الجهة الناشرة، واتصافها بالمصداقية والحرفية. وما أحرانا بالرجوع في التمييز الى فطرتنا السليمة وشرعنا الأمين، وعقلنا النيّر الذي أودعه الله تعالى عندنا لنزيل به قشور التمويه وحجاب الشهوات واغتشاش الرؤية.
اضف تعليق