q

ثمة فهم خاطىء يسود في مجتمعاتنا حول دور الفقه في تنظيم الحياة، فالبعض يعتقد ــ معتقداً أو مُقلداً ــ بأن المنظومة الفقهية جامدة، حتى مع وجود المجتهدين المواكبين لحركة الزمن، وتطور المجتمعات، وتعدد حاجياتها. وثمة حالة من الجهل أو التغاضي عن الدور الذي تلعبه الأحكام، وعدم تفريق بين الأحكام التي تعالج أحداثاً مرحليةً ليس لها حضور بالضرورة في واقعنا الحالي، وبين الأحكام المنسجمة مع تطور المفاهيم والمجتمعات تبعاً لحركة الزمن التي تحدثنا عنها.

مؤخراً ثارت ثائرة البعض على تصريحات لرجل دين شرح فيها قضية الجهاد وأحكامه، معتبرين تصريحاته تحريضاً ضد أديان وطوائف أخرى. الثائرون يمكن تقسيمهم إلى قسمين:

الأول قسم جاهل لايعي الفروقات بين الأحكام المرحلية زماناً ومكاناً، والأحكام الحركية وعلا صوته فقط مصداقاً للمثل الشعبي :"على حس الطبل خفّن يرجليّة".

الثاني قسم له مشروعه الخاص بتشويه المنظومة الدينية؛ لأغراض تتعلق بمنافسة فكرية تفتقر لأصول التنافس تارة، أو منافسة سياسية تارة أخرى، وغالبية متبني هذا النمط هم من الليبراليين بقصدية لايريدون أن يعترفو بأنها باتت مكشوفة ومازالت تعرضهم للكثير من الهزائم الفكرية والمعرفية، فضلاً عن عدم انسجامهم الواضح بين التنظير الفكري والممارسة العملية.

هم حاولوا ويحاولون بسرعة كبيرة إسقاط الأحكام التي عالجت مراحل معينة من التاريخ على مراحل لاحقة من دون فهم الحاجة التاريخية والأخلاقية لتلك الأحكام في مرحلتها فكشفوا عن حالتين من اللاوعي والقصدية في خلط الأوراق . كلنا نتشارك ونتطلع لترسيخ قيم التعايش الحضاري، ولضرورة احترام الأفكار والآراء الواردة على تنوعها واختلافها وتعدد اتجاهاتها، لكن ذلك لايعني السكوت إزاء قضية السباحة في بركة السذاجة المعرفية، خصوصاً عندما تصل قضية الخلط لمرحلة تشبيه فقه يأخذ أحكامه من المطهرين بكتاب الله بإجماع الأمة بفقه تكفيري متطرف له جذوره ومتبنياته المأزومة التي يعاني من انعكاساتها وتحريفها وجود إنساني كامل.

ينبغي عدم انجرار المنافسة الفكرية لمهاوي التسقيط التي لن تؤدي لشيء ذي قيمة، مافائدة تسقيط الآخر لمجرد التسقيط من دون وعي ومعرفة به وبدوره في الحياة؟ يقول الله تعالى :

"قُل هل نُنَبِّئُكُمْ بالأخْسرينَ أعمالاً* الذين ضَلَّ سَعْيُهُم في الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبونَ أنهم يُحسنونَ صُنعا / الكهف 104". لاجدوى من الثرثرة التسقيطية، والتمسك بشيء "يستبطن الاعجاب بالنفس والاستبداد بالرأي"1 وكل هذه الأشياء تتم من دون وازع من ضمير ؛ من أجل غايات وطوحات زائلة.

بين الفقه والعولمة

أصبح مفهوم القرية الصغيرة أمراً واقعاً، وصارت للعولمة مساحتها الشاسعة على خريطة الوجود البشري، ومعادو الدين والتدين يدفعون باتجاه نسف الثوابت والإيمان بتفرد الماديات، موهمين الآخرين بأن الدين وأحكامه لايمكنهما التعاطي مع مستجدات الحياة العصرية، وهو ماتم ابطاله عبر الكثير من التجارب الإنسانية في مختلف بقاع العالم، بل أن فقهاء ومفكرين إسلاميين كتبوا في فقه العولمة ومنهم المجدد والراحل الكبير السيد (محمد الحسيني الشيرازي) الذي أثبت أن (العولمة الإسلامية) هي الأنموذج الحضاري والأخلاقي، حيث حذر في كتابه المهم (فقه العولمة) من عملية هيمنة يقوم بها الغرب بقوله : "إن هذا المعنى يتلخص في عودة الهيمنة الغربية من جديد، محملة على أجنحة المعلوماتية والعالم المفتوح، ومدججة بالعلم والثقافة وإن كانت غير إنسانية، وبذلك تُقلب القاعدة القديمة القائلة: القوي يأكل الضعيف، إلى قاعدة جديدة عصرية عولمية تقول: السريع يأكل البطيء، علماً بأن القاعدة الجديدة، لاتختلف عن القاعدة القديمة، من حيث النتيجة، بل تكون هذه الجديدة أشد بأساً وأعظم ظلماً من تلك القديمة، لأن أصحاب السرعة يعملون على تثبيط حركة الآخرين بكل وسعهم وجميع أمكانياتهم". كما أنه يدحض فكرة تفرد العولمة الغربية بالجانب الاقتصادي بالاقتصاد الإسلامي وهو موضوع يمكن أن نتطرق له في موضوع قادم، وشاهدنا هنا هوضعف المنطق القائل بانفصالية الفقه عن المعاصرة كما يروج له متبنو الحدثة المهلهلة عبر البوابة العولمية.

ولعل ظهور التنظيمات الارهابية واطلالتها من نافذة الفقه المنحرف كان سبباً في ثورة هؤلاء الحداثيين في إطلاق الأحكام العمومية، بينما كان عليهم أن يرصدوا ويحللوا بشكل جدي ومنصف أسباب ظهور هذه التنظيمات، والتي يقف في مقدمتها فشل مشروع العولمة الغربي بقميصه الاستعماري الفكري ذي الأزرار الاقتصادية والثقافية للسيطرة على العالم، وجعله يفكر بطريقة أحادية تنسجم مع مشروعه في تقييد العقل، وإشغاله باللامفيد والمفضي لضياع الوقت عبر وسائل التواصل المتناسلة من ثورة المعلومات، تمهيداً لاستخدامها بشكل سيء وغير نافع.

كل هذه المعطيات أدت إلى ارتفاع الأصوات المنادية بإقصاء الدين عن الحياة في مشهد يذكر بخمسينات القرن العشرين الماضي، يوم كانت السيطرة شبه مطلقة للقوى اليسارية والشيوعية التي أنتجت نوعين من الصراع، أحدهما سياسي وكان الخصم قوى التيار القومي العلماني، والآخر فكري مجتمعي، من خلال ترويج الأفكار الالحادية وتحطيم القيم الأخلاقية لدرجة المناداة بتعطيل أحكام الفقه في قضية الزواج، وتنظيم مظاهرات لناشطي هذه التيارات تنادي بأن يكون الارتباط الزوجي عشوائياً دون الاستناد لضوابط ، ومع ذلك تم التصدي لمثل تلك المظاهر غير الأخلاقية من قبل فعاليات مجتمعية مختلفة.

واليوم يراد أن تعود تلك المظاهر من خلال إسقاط أحكام فقهية كانت قد صيغت لمرحلتها وظرفها على الصعيد الزمان والمكان على واقعنا الحالي من دون دراية أو تشخيص، مستغلين تقنيات الاتصال الحديثة وآليات اقتطاع الكلام الذي يصدر من رجال الدين في محاضرات وندوات ثقافية أو فكرية؛ لحرفه عن مساره، والتلويح بأن متبنيات رجل الدين هذا أوذاك متبنيات متطرفة وإقصائية؛ بهدف دق إسفين علماني بين مكونات الشعب المتنوعة، وإحداث المزيد من التصارع والانقسام للوصول لحقيقتهم الموهومة بأن الابتعاد عن الدين هو الحل.

اضف تعليق


التعليقات

محمد علي
العراق
مع ذلك، اعتقد أننا بحاجة الى ذكاء فقهي وأن نزن الكلمات قبل التحدث بها، مع شكري وتقديري للكاتب العزيز الاستاذ عادل الصويري.2017-05-17