q

جاءت فكرة (موت الأب) كوجه آخر لموجة ما يعرف بالإلحاد الوجودي بعد أن تم التقديم له من الوجه الأول الذي عُرِفَ بـ (موت الرب)، وقد سادت هذه النظرية وانتشرت كثيراً وتم الترويج لها عبر بعض الأعمال الأدبية التي سرعان ما تم اكتشاف الكثير مما يقال عنها نقداً على الصعيد الفني والموضوعي وصولاً للقيمة الفكرية المربكة التي تحملها هذه النظرية، وأكثر الذين جسدوا هذه النظرية في أعمالهم الأدبية هو الأديب الروسي الشهير (فيودور دوستويفسكي)، وذلك من خلال بعض أعماله الروائية التي عدت عند بعض الآراء من الآثار التي تمخر عباب النفس البشرية لدرجة قول فرويد : "كل مرة أنتهي من كتابة بحث عن حالة نفسية، أجد دوستويفسكي قد كتب عنه في رواياته".

عملياً لا نريد هنا مناقشة هذه النظرية وما أحدثته من جدل على صعيد الآثار الأدبية التي تبنتها متأثرة بتجربة الأديب الروسي، لكننا نحاول أن نرصد انعكاساتها على الواقع الفكري، ونرى إن كانت واقعية في زمن صارت فيه مفردة الحداثة والتوجهات الحديثة تسبح في مياه الفوضى العقلية. هل يعقل أن تكون تجربة شخصية مريرة لأديب مع والده المدمن على تعاطي الكحول، والممارس لكل صور التسلط على أبنائه أمثولة يتم تعميمها على مجمل التجربة الإنسانية في الكرة الأرضية؟ والسؤال الأهم : هل عاش متبنو هذه النظرية وكتبوا فيها منجزاتهم الأدبية مع آبائهم، ذات التجربة التي عاشها (فيودور دوستويفسكي) مع والده؟.

إن أصعب حالة يمكن أن تواجه الفكر؛ هي أن تصبح عملية التعاطي مع الأفكار على نحو يشبه التعاطي مع صيحات الموضة على صعيد الملابس أو قصات الشعر، فهذا النوع من التعاطي العشوائي مع الأفكار سيقود حتماً لمزيد من الأوهام التي لن تنتج غير زيادة في مساحة التخبط البشري.

وأكبر الأوهام التي تصدرها هذه النظرية؛ هي أنك أيها الساعي للتحرر والتجديد لن تجد لك مكاناً في التاريخ مالم تتخلص من سلطة الأب، وسلطة الأب هنا تمثل عبارة فضفاضة تنفتح على عدة تأويلات، فقد يكون الأب هنا الأب الديني، أو الثقافي، أو التاريخي....الخ، وبهذا تتعرض الخصوصية لنوع من الإقصاء الممنهج عبر مراحل مبرمجة لتوجيه الإنسان، وهو ما يذكر بفكرة سيكولوجية الجماهير لـ (غوستاف لوبون) وتقسيمه لخصائص الجمهور حيث سرعة الانفعال، واللاوعي الذي يحركه، فضلاً عن سرعة تأثره بالظواهر الغريبة ، فالجمهور ــ بحسب لوبون ــ "عبد للتحريضات التي يتلقاها"، وكذلك في النزعة العاطفية التي تصل به لحد الاستبداد رافضاً النقد والتشخيص بحيث تقبل أو ترفض الوافد والجديد من الأفكار دفعة واحدة، وهنا مكمن الخطورة على مستقبل الفكر الانساني.

قد نوصف الآن بالمتأثرين بنظرية المؤامرة، ولسنا في محل تأكيد أو نفي هذا الوصف بقدر مانحاول الاسهام في تشخيص حالة قد تقود إلى إنسان مأزوم فكرياً، حتى وإن بدأت من نظرية تم الاشتغال عليها أدبياً؛ لإيماننا باللاانفصال بين الأدب ومكونات الحياة الحضارية الأخرى.

ومن البديهي القول أن الأدب جزء رئيس وركيزة أساسية من أساسيات الثقافة، وطالما أن الثقافة في عالمنا المعاصر صارت صناعة؛ لابد أن يأخذ صناع الفعل الثقافي بنظر الاعتبار المأزق المجتمعي الحاد في فهم مصطلح الثقافة. وفي هذا الصدد، يوجد رأيان متباينان : الأول يرى أن هذه الصناعة يمكن لها التصدي لأمواج العولمة العاتية باعتبارها "فضاء جديد يحمل عناصر متناقضة"، بينما يذهب الرأي الثاني باتجاه عدم اعتبار الثقافة سلاحاً لمواجهة الواقع المُعَوْلم، ومثل هذا الرأي يدعو إلى التأكيد على ان العولمة حالة واقعية وموجودة ينبغي التعاطي معها، وصياغة مواقف جديدة منها، وعدم التوقف عند جزئية الرفض أو القبول، بل محاولة فهم المأزق المجتمعي والعمل بوعي على تجاوزه.

وفعل المجاوزة هنا لايعني تجاوز كامل الخصوصية الثقافية، انما تجاوز منطق التفرد بهذه الخصوصية بوصفها ثابتاً غير قابل للتغيرات، ولايتماهى مع التحولات، بحيث نكون في منطقة وسطى دافئة تسمح بالتعاطي مع المعاصر والجديد من القيم الثقافية التي اثبتت وجودها من خلال التقبل المجتمعي لها، وفي ذات الوقت لاينطبق عليها تعريف (بلقريز) للعولمة الثقافية بأنها: "اغتصاب ثقافي، وعدوان رمزي على سائر الثقافات، إنها رديف الاختراق الذي يجري بالعنف المسلح بالثقافة، فيهدد سيادة الثقافة في سائر المجتمعات التي تبلغها عملية العولمة.

ونظرية (موت الأب) وفرضها أو محاولة فرضها كنسق يحرك الكتابات والأفكار؛ ستأتي بثمار فكرية غير ناضجة، تؤكد حالة الاغتصاب الثقافي الممهد لاغتصاب العقل وتجميده ومنعه من ممارسة دوره في التفكير الذي يتداول مكونات الفكر، ويتعاطى معها بحرية، فمن غير المنطقي الجزم بأن الأنماط الحداثية لاتقوم إلا بنسف الثوابت بأنساق يمكن أن يُطلق عليها وصف (الحداثة القبلية) ، وكأن متبني هذه النظرية وشبيهاتها عصبة تمثل معادلاً يقف بإزاء جماعات أخرى غير متفقة معهم، وكل من يحاول الخوض في هذا النمط من التفكير، ورصد سلبياته، وتحليل أسبابها وتشخيصها؛ فإنه خارج على " المِلّة الحداثية ".

إن هذا النمط من التفكير وإن بدا أنه يدعو للتحرر من نزعات الإيديولوجيا؛ فإنه في ذات الوقت يؤسس لأدلجة من نوع جديد على مقاساته هو، والتي ليس بالضرورة تكون منطبقة على كل مساحة العالم الانساني، وبعد فترة من الانطفاء المفاهيمي لهذا النمط؛ يعود مروجوه لانتاجه بتسمية أخرى مع المحافظة على هدفه الرئيس المتسبب في فشله. ولانعلم متى يتم الالتفات إلى عناوين ومسميات أكثر واقعية وجدية، وتعبر عن طموح الإنسان، فلماذا لاتكون للحداثيين نظريات بعناوين من قبيل (حياة العقل) أو (موت الجهل)؟.

اضف تعليق