حتى هذه اللحظة؛ مازلنا ننظرُ ونُنَظِّرُ لمفهوم المجتمع المدني منطلقين من رؤيتين، تنتمي الأولى للشروحات الليبرالية الكلاسيكية، والتي تنتمي زمنياً للقرن الثامن عشر، بينما تمظهرت الثانية باعتمادها الطرح الليبرالي الحديث. وإذا كانت قضية التعاطي مع المفاهيم خاضعة لسياقاتها التاريخية؛ فإن ذلك لن يمنع الحديث برؤية جديدة تستند إلى التجارب المعاصرة، وتخالف السائد من التنظيرات المهتمة بفهم المجتمع المدني، وفهم دوره في هذه الحياة.
والفهم السائد يحدثنا بأنَّ السلطة والمجتمع المدني قطبان متنافران، بحيث أنَّ قوة أحدهما تعني ضعف الآخر وبالعكس، فالمجتمع المدني – بحسب الطرح الليبرالي – واقفٌ في أعلى سلالم المثالية، بينما ثمة من يقف بالضد من هذه الفكرة كـ (ميشيل فوكو)، أي أن المجتمع المدني يمكن أن يكون تقنية من تقنيات السلطة أو (مجرد فضاء للممارسة السلطوية).
وقد أراد (فوكو) من خلال نقده للسياسات الليبرالية أن يوضح جوهر المشكلات التي واجهت فهم حقيقة المجتمع المدني خلال قرنين من الزمن، وأنه (المجتمع المدني) أحد أهم الإشكالات التي لم يثبت لها تعريف أو معنى، حتى وإن تصدر الخطابات الليبرالية، ويرى أن لنقد فوكو وتحليلاته " نوعاً من التكامل والاستمرارية، من خلال فتحها ثغرة في سياسة الحكم الليبرالية للانعتاق من التذويت"1.
ولعبت التعريفات الكثيرة المختلفة دوراً في تأصيل الغموض المحيط بمفهوم المجتمع المدني، كما لعبت التعريفات المتعددة كذلك في تعزيز الانقسامات الفكرية حول مفهوم الحرية، وهو ما جعل منتقدي الليبرالية يصرون على أن المجتمع المدني وفق رؤيتها وخطاباتها لايملك أي استقلالية وليس بتلك الصورة المثالية المفترضة.
المجتمع المدني في المحيط العربي والإسلامي
هل يمكن صياغة مفهوم ينطلق من خصوصيات المجتمعات العربية العربية والإسلامية؟ وليكن السؤال بصيغة أخرى: هل يوجد عندنا مجتمع مدني ينسجم مع مكوناتنا الحضارية كالشريعة وقيم الأخلاق واللغة والسلم؟.
وقبل الإجابة، لنفترض أنَّ معترضاً يظهر ليحاججنا في مسألة نشوء المجتمع المدني كمفهوم كان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لذلك لاعلاقة لمكوناتكم الحضارية في تحديد ملامح مفهوم يعد من منجزات الليبرالية. وجوابنا على هذا المعترض المفترض هو أننا مادخلنا ولن ندخل في سباق تنافسي حول أحقية هذا الطرف أو ذاك بالمفهوم كمفهوم، بل ننظر للموضوع نظرة خاصة بالقيم، حيث ارتباط الفكر بالممارسة من دون فصل وهذا هو المهم. وللمعترض أن يقارن إذا شاء بين الأدبيات الإسلامية، والمنجزات التدوينية الفكرية والممارسات التي عمقت الأواصر الإنسانية من جهة، وبين الاختلافات الحادة تنظيرياً بين فلاسفة ومفكري الليبرالية حول تعريف محدد لمفهوم المجتمع المدني، فضلاً عن الممارسات غير المنسجمة مع التنظير، والتي تصل لمرحلة اللاأخلاقية لبعض الليبراليين، وهي غير خافية على أحد وتحدث بها الأصدقاء قبل الخصوم، وعدت من المثالب التي وسمت بها المسيرة الليبرالية.
نعود الآن لسؤالنا الأساس، والمتعلق بإمكانية صياغة مفهوم لمجتمع مدني منطلقاً من خصوصية حضارية، حيث نعتقد بإمكانية حصول هذه الصياغة بعد أن نؤشر على أهم مشكلة معاصرة تواجهها مجتمعاتنا اليوم، وهي مشكلة التناقض بين المعتقد الراسخ والممارسة اليومية المختلطة عشوائياً بقيم العولمة، والحداثة الفوضوية. فالعقيدة تفرض قيم السلم والتسامح واحترام الإنسان والحيوان والنبات وحتى الطريق، بينما نشاهد في الممارسة صوراً معكوسة، إذ ساد العنف بشكل هائل بعد أن نجحت تقنيات الاتصال في فرض رؤيتها ومشروعها الذي حولته إلى ممارسة فعلية ، فتنامت جماعات التطرف، وارتفعت مناسيب الجرائم العنفية في العالم من جهة، وكرد فعل سلبي تنامت صور الانسلاخ الأخلاقي من قيمنا تحت مسمى الحرية الشخصية من جهة أخرى.
إذاً، العقبة الأساس التي تواجهنا في صياغة مفهوم المجتمع المدني العربي ، هي في وضع أصابع التشخيص على هذا التناقض المخيف ودراسة مسبباته بكل تجرد وموضوعية، ثم ننطلق لتقديم العلاجات الناجعة، وأهمها هي تعزيز شعور الفرد بقيمته وحريته؛ ليؤمن بأنه غير مُتَسلَّط عليه، وبذلك سيكون لنا مجتمعنا المدني الذي يعزز من قيم المواطنة، وجعلها في المقام الأول مع الاحتفاظ بالعناوين الدينية والمذهبية والعرقية، والتركيز على أهمية النظر لتنوع هذه العناوين على أنه تنوع ثقافي ومعرفي يعزز التعايش وتبادل الثقافات بين أفراد الأمة، وتخليص العقل من الشوائب الماضوية التي طالما عززت ورسخت لمفاهيم التعالي والغرور عبر الفخر بالأنساب والقبائل، والحط من قدر المساكين انطلاقاً من الآية الكريمة "إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم".
العلاقة التكاملية
وبعد أن عرضنا الرؤية الكلاسيكية حول مفهوم المجتمع المدني وطبيعة علاقته المتنافرة مع السلطة؛ لابد من عرض وجهة النظر القائلة بتكاملية العلاقة بين الطرفين، ونعتقد أن المهيمن الرئيس لشكل العلاقة هو الدولة بحد ذاتها، حيث أن قيامها على نظام مؤسسي، فإن المؤسسات المعنية بالمجتمع المدني ستكون داعمة لتوجهات الدولة. وليس صحيحاً اعتبار المنظمات المعنية بالمجتمع المدني مصدر معارضة للسلطة على طول الخط، خصوصاً في عالمنا اليوم، والذي شهد عديد التحولات التي أفرزت زوال الكثير من الأنظمة الشمولية التي غيبت مجتمعاتها عن دورها، مايعني أن الفرصة أصبحت في متناول اليد لتحقيق تكاملية العلاقة ، وهو مايلزم أن تكون المنظمات واعية لمسؤوليتها ودورها الإصلاحي في تعزيز مبادىء حقوق الإنسان، والتنمية البشرية، ونبذ العنف والتطرف بكل صورهما، وقبول الآخر والتعاطي معه من دون عقد، فضلاً عن المساهمة في صياغة السياسات العامة للدولة بالتعاون مع مؤسسات الحكومة ، وهذا لن يحصل مالم ينل ممثلوا المنظمات المدنية ثقة الجماهير.
اضف تعليق