تمثل القيمة الرمزية للإمام الحسين عليه السلام بحسب الناقد الدكتور سليم جوهر، الجمع بين البحث عن معنى المفقود في حياتنا كما هي كائنة من خلال الواقع المجتمعي المعاش، وبين التعبير عن ذواتنا كما ينبغي أن تكون. هذه القيمة الرمزية السامية لشهيد كربلاء عليه السلام عبارة عن عملية تطوير مستمرة للعلاقات المتداخلة بين الرمز الحسيني وملايين الأشخاص الذين يشاركون في إحياء ذكراه عبر الشعائر الدينية والفعاليات الإجتماعية المتنوعة، هذه المراسيم الإستذكارية شكلت بهذا التنوع والتدفق العاطفي والفكري نمطاً ثقافياً ينبغي التوقف عنده ودراسته بعمق.
إن أبرز مايمكن لحاظه في العلاقة المتداخلة بين الإمام ومحبيه هو تماسك الشخصية العاشقة لرمزها، وإصرارها حتى مع التحديات والصعوبات التي تواجهها..والممتدة لفترات زمنية طويلة.
واليوم، والعالم مبهور بملحمة الخطى الإنسانية المتفردة، حيث تذويب العناوين العالمية، وتلاشي مسميات الأوطان، تكون الطريق المؤدية لضريح الإمام الحسين عليه السلام في زيارة أربعينيته هي الوطن الإنساني الجامع للبشرية بشكل يقترب من مفهوم الأسطورة.
إن الذهاب سيراً على الأقدام إلى تلك النقطة المضيئة من خريطة الوجود الحر والتي تسمى كربلاء، تجعل من الكائنات العاشقة مجتمعاً مندمجاً روحياً وجسدياً بقيمة الرمز، فتنتج الخطى بنية إنسانية هي مزيج من العواطف والأفكار، والعلائق بين هاتين البنيتين تُنتج وتُكتشف طيلة الفترة الزمنية التي يتوقف الزمن إزاءها، مسترقاً السمعَ لنبض المسافة المنتعشة إيمانياً بتسابيح المؤمنين، واجتماعياً بتكافلهم ومساعدتهم لبعضهم البعض في كرنفال الأنسنة المتجدد. لقد أثبتت الزيارة الأربعينية ومازالت تثبت ان الإنطلاق لتجديد الإنسان يمر عبر قناة التصور العقلاني، والنظرة الواقعية للشعائر التي تمثل " تقوى القلوب " ؛ ذلك لأن الإفرازات الإجتماعية لهذه الزيارة تقود إلى حالة وجدانية حضارية، فحين نعمد لتأصيل العلائق الإنسانية في هذه الزيارة لابد أن ننظر لهذه الإفرازات ؛ لأن الصور التي نشاهدها خلال أيام المشي ليست خيالات تأملية، او مناهج تدريس تُدرّس لفترة محددة، إنما هي مشاهد تتجلى فيها الروح الإيمانية المتذوقة لحلاوة اليقين. هي تجربة تنطلق من واقع مدرك، وفكرة متيقظة، وجذوة عشق لن تنطفئ بتأكيدات نبوية " إن لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تنطفئ أبداً "، إذن، نحن إزاء حاضر فاعل في الوجدان الذي يُظَنُّ خطأ أنه وجدان غائب.
وبعد هذا العرض، وأمام هذه الحشود المليونية القاصدة لسيد الشهداء عليه السلام، صارت الحاجة لعملية تأصيل ممنهجة، ودراسة أبعاد هذه الزيارة بما هو أبعد من الإنشداد البصري والعاطفي، نحن قبالة ملحمة خطى تحتاج إنتاج ثقافة تغاير السائد من التنظير النخبوي القشري الذي لاينفذ لعمق الفكرة وتمثلاتها المتجذرة في الرمزية المنتصرة لمنطق الإنسان، ولها إجماع الوجود البشري الذي استحال لمسيرة عاشقة تقطع الدروب متجهة صوب معشوقها الخالد.
التأصيل والمشروعية الشرعية
نحن هنا نتحدث عن تأصيل يختص بشعيرة من شعائر إحياء ذكرى الحسين الشهيد عليه السلام، وبالتالي هي من شعائر الإسلام؛ لارتباطها الجوهري بسبط نبي الإسلام. والموضوع أبعد من فكرة نسبية بين الحسين وجده العظيم صلوات الله عليهما، بل انه يرتبط ببقاء المنهج الذي خُتمت به الرسالات السماوية، وماكان له ان يبقى لولا تضحية سيد الشهداء التي أصّلت معنى (الإسلام محمديُّ الوجود حسينيُّ البقاء). لذلك لابد أن تأخذ عملية التأصيل مشروعيتها الشرعية، فقد ورد فضل زيارة الأربعين في الحديث المروي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام حيث قال : " علامات المؤمن خمس : صلاة إحدى وخمسين وزيارة الأربعين والتختم باليمين وتعفير الجبين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم "، فأداء هذه الزيارة من علامات المؤمن الرئيسة بنص المعصوم، وكذا بالنسبة لعملية تصديرها كنموذج إنساني متفرد يستند على قيمتها الشرعية والإجتماعية. وليس هناك دافع أروع من هاتين القيمتين الساميتين للباحثين والمفكرين إلى نظرة جدية تفلسف هذا العشق المختزل بعبارة من كلمتين : (لبيك يا حسين)، عبارة تختصر الخصب الولائي المرتبط حتى قيام الساعة بالنهج الحسنيّ ذي الثمار المتدلية من أغصان الرسالة المحمدية في ظل انطفاء مفاهيم كثيرة معاصرة ترجع لأزمنة قريبة، بينما نجد أن السراج البشري المضاء بحب الحسين يزداد توهجاً وتألقاً، مزهواً بزيت (هيهات منا الذلة).
ضرورات التدوين الأربعيني
لاشك أن لأدب الطف، والمدونات التي أرخت لحادثة كربلاء، أبعاداً ومقاصد شكلت ثيمة تواصلية، حافظت على ألق حضورها من خلال ماتم تدوينه عبر الأجيال المتعاقبة، حتى تطور وأخذ أشكالاً جديدة ومعاصرة. وإذا كان الأدب الحسيني ذا أبعاد عقائدية وعاطفية من جهة، وفكرية رؤيوية من جهة أخرى، فإنَّ هذه الأبعاد ارتبطت على المستوى الدلالي بزمكانية الحدث الأصلي (معركة كربلاء) ؛ لكثرة الأحداث وثراء مضامينها، فضلاً عن سعي الإمام الحسين عليه السلام في إفراد دور متميز لكل شخص من أهل بيته وأصحابه الذين شهدوا تلك الملحمة وأدركوا معه الفتح. وعندما نقول بضرورة التدوين، فإننا نقصد تدويناً أربعينياً إذا جاز لنا التعبير، فيكون من أساسيات تأصيل الزيارة، نعم، نحتاج لاستنفار تدويني يوازي الجهد الكبير المبذول في تدوين أدب الطف ؛ حتى نضيف صورة جديدة من صور الألق الحسيني، فأبعاد مايجري في هذه المسيرة وهذا العطاء البشري اجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً، وعقائدياً - بطبيعة الحال - يلزم أن تنهض الأقلام بمشروع ضخم يدون ويؤرّخ لهذا الخلد المضيء.
لايجب الإكتفاء بقصائد الشعر، وإنشاد الأناشيد - على أهميتيهما -، بل يجب أن يتطور الموضوع إلى نقاش فكري جاد، خصوصاً وأن جاليات أجنبية من دول أفريقيا وأوروبا وأميركا، تساهم في هذه الزيارة وتعايش عن قرب أحوال السائرين إلى كربلاء المجد. إن هذه الزيارة تتيح محاورة الغرب من زاوية تعبر منطق الدين والعرق والطائفة، وهنا يأتي دور التدوين الذي يمكن أن يأخذ شكل الإصدارات المترجمة إلى لغات متعددة، أو في عقد المؤتمرات التي تُعنون بعنوان يستند على قيمة الزيارة، وتأخذ المؤسسات ذات العلاقة على عاتقها مهمة إقامتها بشكل سنوي في عدة عواصم من العالم. وليس هناك وقت لتأصيل زيارة الأربعين عالمياً أفضل من هذا الوقت في ظل سقوط القناع التكفيري المتطرف، والمتمثل بالمتبنيات الفقهية السلفية والمنهجية المعادية لفكر اهل البيت عليهم السلام، والمكفّرة لأتباع هذا الخط الأصيل والمُشجّعة على قتلهم وإبادتهم بشكل علني وصريح، فبين ممارسات دموية متطرفة كُشفت أمام العالم ببشاعتها وجرمها، وبين مسيرة إنسانية تقدم أمثولة ناصعة ومتفردة في مجالات التعايش وحقوق الإنسان والتكافل الإجتماعي، آن لنا أن نؤصّل قيمنا ومتبنياتنا كجزء من رسالتنا تجاه الإنسان، وماقضية استذكار الإمام الحسين عليه السلام، وزيارته إلاّ مرتكز من مرتكزات تأدية هذه الرسالة.
اضف تعليق