لابد للخطاب النقدي أن يمثل استجابة لكل المستجدات التي تفرض نفسها على القضية التي يمخر النقد والتحليل عبابها وما ستفرزه من معطيات ومسارات، وبغير ذلك لن يكون هذا الخطاب سوى إشكالية قرائية عاجزة عن الكشف في الوقت الذي تتقاذفه أمواج الجدل.
وطريقة التعاطي التحليلي لقضية إنسانية كبيرة أحدثت انعطافاً هائلاً في مسار الإنسانية والحرية كقضية عاشوراء، غابت عنها لأسباب إيديولوجية عملية استكشاف مضامينها التي أثبتت عبر كل هذه المدة الطويلة أنها تتسع لكل المفاهيم والدلالات؛ والسبب الرئيس لغياب هذا الكشف يكمن في عملية المراوحة بين انتصار للتراث وعدم الجدية في اقناع النظرة بأن تتجه للمستقبل، وآخر للحداثة (المفرطة) التي تنسف معها كل شيء، الأمر الذي يعكس تطرفاً في الرؤية وتشدداً في المواقف، وبالتالي لن يقود لشيء ذي فائدة.
إنَّ قضية استشهاد الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء في كربلاء بحاجة إلى قراءات أكثر عمقاً، قراءات تنفذ إلى المعنى الحقيقي لهذه الثورة، وتغوص فيه مستكشفة أسرار خلودها التي ما كانت لتكون وفق القراءات السطحية والتبسيطية، وهو ما سيجعلنا نتيقن بأن النقودات التي مورست على الكثافة البشرية التي تساهم في إحياء ذكرى أبي الأحرار عليه السلام، ماهي إلا عيوب نسقية، ونظرة تفتقر إلى العمق معبرة عن اضطرابات وتناقضات تتصارع بين الأدلجة وبين الإفتقار للمنهج الذي يمكن له استنطاق المسكوت عنه في النهضة الحسينية الخالدة.
إذن، لابد من الإبتعاد عن قشرية التحليل، والبحث عن المفاتيح المهمة التي يمكن أن تفتح أبواب الفكر رؤيةً وكشفاً، من خلال منهج يتعامل مع كل ما أحاط بثورة الإمام الحسين عليه السلام من نصوص وطقوس؛ حتى نضمن سلامة الذائقة الفكرية، ونتجاوز السياقات الظاهرية، ذلك أن كل حدث من أحداث يوم عاشوراء لم يتقيد بمعنى واحد، بل انفتح لمعان ودلالات متعددة، وهي الميزة المتفردة لهذه القضية الكونية الكبيرة.
تمثل عملية القفز على ثوابت القضية الحسينية جهداً ترفياً لا يوصف إلا أنه استعراض معرفي في قضية لا تحتمل غير التشخيص الدقيق، والتحليل المتجرد من الأهواء والأمزجة والمؤثرات الخارجية، فمهما اجتهدت الكتابات على تنوعها في الإقتراب من قضية كربلاء ؛ لن تحصل على نتائج مقبولة في حال تمت عملية التقافز غير الموضوعي على مبررات بقائها حية متوهجة لحد يومنا هذا.
نحن هنا لا نتحدث عن أشياء من نسج الخيال، فكثير من الكتابات التي تناولت أحداث عاشوراء، حاولت -على اختلاف النوايا- تجريدها من ثوابتها، حتى صارت هذه المحاولات ظاهرة ملفتة تنعش الإعتقاد بأنها ممنهجة.
وتنوعت المحاولات بين تنظيرات فكرية، ونصوص أدبية، بل وصل بها أن تجد لها طريقاً لشعر اللهجة العامية الذي كان وما يزال من أسباب تدفق الشجن والعاطفة، وجسراً للعبور إلى القيمة الفكرية عالية المضمون والدلالة.
وأهم محاولات القفز على ثوابت عاشوراء، هو الإيحاءات التلميحية او التصريحية بضرورة عدم الإلتفات إلى المفاصل التي تظهر مظلومية الإمام الحسين عليه السلام ووحشية أعدائه، أو إظهار مظلومية السيدة زينب عليها السلام وبقية أفراد العائلة الكريمة بعد استشهاد السبط العظيم، وما جرى عليهم من تحريق لخيامها، وترويع أطفالها، بحجة أن تناول مثل هذه الموضوعات لا تتناسب مع قيمة الشموخ والكبرياء، فشموخ الحسين وأهله حق، لكن عملية إنكار المظلومية من قبل المترفين التنظيريين يكشف عن باطل يراد بهذا الحق، فضلاً عن كشفه لسطحية هؤلاء وسذاجتهم الفكرية، وعدم اطلاعهم الكافي.
ربما يعتقد هؤلاء أن التركيز على المظلومية سيعزز من تتبع المظلوميات الكثيرة التي جرت على أهل بيت النبي صلوات الله عليهم؛ لأن مظلومية كربلاء لم تكن الأولى، وليست هي الأخيرة، وماهي إلا حلقة مأساوية من حلقات مسلسل غصب الحقوق الإلهية، والإعتداء على حدود الله الواردة في النصوص القرآنية، والسلوكيات النبوية، والتصريحات الصريحة المباشرة.
لذلك صرنا نقرأ ونسمع نصوصاً تؤكد مثلاً أن السيدة زينب عليها السلام لم تتعرض للضرب بالسياط، أو أن الإمام السجاد عليه السلام لم يتم تطويق رقبته بالقيد، وغيرها من الأشياء التي تظهر وحشية الأعداء، وحقدهم الدفين على أهل بيت من حطم أصنامهم.
وتمتد عملية التقافز لتشمل شعيرة البكاء على مصيبة الحسين الشهيد، وتصويرها بأنها تضعيف وتوهين، متناسين أن البكاء حالة شعورية إنسانية، حيث روي عن الإمام زين العابدين السجاد عليه السلام الذي لم يقدم له طعام قط إلا وابتل من دموعه أنه قال : "والله ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا وخنقتني العبرة، وتذكرت فرارهن من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين".
وكان عليه السلام بأشد حالات الجزع لدرجة أنه تمنى أن يفارق الحياة ؛ بسبب ما رآه من المآسي والأهوال يوم الطف، خصوصاً حين شاهد جثة أبيه الحسين وحثث أهل بيته وأصحابه متروكة بالعراء، فخففت عنه عمته عقيلة الطالبيين والعالمة غير المعلمة الحوراء زينب عليها السلام قائلة: "مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وإخوتي، فوالله إن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة والجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك وسيد الشهداء لا يدرس أثره ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد إلا علوّا".
ومن هاتين الروايتين نعرف أي مأزق للكشف الحقيقي لمضمون عاشوراء وقع فيه المترفون بالتنظير الفارغ، فالمظلومية واقعة وثابتة، وكانت صورها وأحداثها المهولة حاضرة في ذهن الإمام السجاد عليه السلام، وفي ذات الوقت كان لهذه المظلومية، ولشعائر الحزن المتنوعة التي تقام لإحيائها، أن تكون ركناً مهماً من أركان ترسيخ القضية الحسينية، بل وفي قوة تأثيرها بالشجن والبكاء والجزع، فالمظلومية وإحيائها عبر الشعائر والطقوس لا تتعارض مع قيمة الشجاعة والكبرياء، فالقيمتان متلازمتان ولا سبيل للفصل بينهما، وكلاهما يكمل الآخر.
روى أحد الذين شهدوا معركة الطف وهو من جيش ابن زياد أنه قال في الإمام الحسين عليه السلام: "والله لم أر مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه، وإذا كانت الرجال لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف انكشاف المعزى اذا اشتد فيها الذئب، وكان يحمل عليهم ولقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً فيُهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر".
وفي هذا قال الشاعر مظفر النواب مصوراً هذه الحالة المتفردة:
تعلّمتُ منك ثباتي
وقوة حزني وحيداً
فكم كنتَ في كربلاء وحيداً
ولم يك أشمخ منك
وأنت تدوس عليك الخيول
لقد كشفت بعض القراءات لحادثة عاشوراء عن طغيان الجانب التنظيري على الممارسات الحقيقية للنقد والتحليل، إننا اليوم بحاجة لممارسات تطبيقية تجسد الرؤية الحقيقية المنطلقة من خصوصية كربلاء ونهضة الإمام الحسين عليه السلام ؛ حتى تنأى عن المفارقات والإسراف في التحليلات البعيدة عن واقعها في استغراق تنظيري لن يصمد أمام الملايين البشرية التي تفند مثل هذه الإستغراقات، وذلك عبر طقوس عفوية صادقة تكشف عن حب أبدي خالد.
نحتاج لممارسات نقدية تنطلق من هذا العشق الكبير، وتناغم الأصوات الهادرة بشعا ( لبيك يا حسين ) ؛ لأن كل ماجرى في ظهيرة العاشر من محرم مادة قابلة لبلورة الرؤى التي تقود لتأسيس خصوصية نقدية تتفاعل مع حاضرها دون ان تبتر التواصل والعلائق مع السياقات التأريخية، بعد أن أثبتت التجارب أن الهيجان غير المبرر على الموروث وتمثلاته؛ سيفضي بالنتيجة إلى مزيد من الركود الفكري البعيد عن كل كشف عميق.
اضف تعليق