إنَّ صورة العطاء والبذل التي جسّدها العراقيون بمواكبهم وبيوتهم الممتدة على طول (طريق الأربعين) باتجاهاته المختلفة بلا شك تشكل صورة إعجازية لا يختلف عليها اثنان. ولا يمكن تفسيرها لا سوسيوثقافياً ولا سيكولوجياً؛ لأنها خارج كل التوصيفات والتحليلات، بل لعلها في بعدها المادي كسرت كل توقعات...

شكّلت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) بقيمها السامية مصدر إلهام وتحريض للطامحين إلى صناعة الحياة الحرّة الكريمة في جانبها الثوري، من خلال ما تبثه في النفوس من نوازع محملة بالرفض والتحدي لقوى الطغيان والتسلط والفساد التي تهدف إلى سلب الإنسان كرامته وقيمه الإنسانية، ومصادرة حقوقه في العيش بما يحفظ له الكيان المعنوي والمادي الذي جعله الله له، أو ما سنّته له الشرائع السماوية من جانب، والشرائع الأرضية السليمة من جانب آخر. 

وإلى جانب ذلك فقد كانت تلك القيم السامية بما انطوت عليه من تضحيات وما تضمنته من دروس حياتية نبيلة مناراً هادياً؛ لغرس بذور العطاء والعمل المثابر على إصلاح النفوس وتزويدها بالطاقة الإيجابية التي تفتح أمامها منافذ النزوع لكل ما هو خيّر ونبيل.

وعلى هدي تلك الثورة خطّ الثوريون طريقهم على مدى قرون نحو هدفهم السامي في مقارعة الظلم والطغاة، وكان نهر التضحيات دائم الجريان مستمداً ديمومته من نبعه الأول المتصل بنحر سيد الشهداء (ع) وصحبه، وظل صوت كلمة الرفض والكبرياء الثورية متصلاً بذلك الصوت الزينبي الذي هدر متوشحاً بجلالة الغضب الحسيني في قبالة غرور الطاغية زارعاً الرعب في أركان عرشه المرتجف.

ومنذ أول انطلاق لمسيرة الأربعين وعلى مدى السنوات التي قطعتها مثلت مصدر رعب وخوف لسلطة الطغيان والفساد، ولذلك واجهت ما واجهته من منع وقمع وحذر دائم، بيد أنَّ شمسها لم تأفل وضوؤها لم يخبُ وصوتها لم يكتم، بل بقيت تزداد توهجاً، فاتحة آفاقاً ومنافذ متعددة؛ لتعم كل بقاع الأرض بما تهيأ لها من حاضنة أتاحتها الظروف، ونواقل إعلامية هيأتها لها التقنيات الحديثة، فلم يعد صوت الثورة والحب والولاء لذلك الضوء الحسيني الساطع منحصراً في مكان ضيق لمدينة صغيرة، بل أصبح ممتداً على مدى الآفاق الواسعة زارعاً في العيون المُنَوَّمة والأسماع المُغَلَّقة ملامح الصورة الوهاجة والصوت الهادر الذي يهدم كل جدران العمى التي بناها الأمويون بمختلف وجوههم وعصورهم {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة : 16].

ولم يعد (طريق الأربعين) محصوراً بين حدود المحافظات العراقية وكربلاء بل أصبح يمتد عبر مسافات شاسعة عابراً كل الحدود الجغرافية؛ ولكن مسيرة (السير على الأقدام) ظلت ثابتة المنطلق من داخل الحدود العراقية مستعينة بما يوفره العراقيون من دعم لوجستي بمختلف الأشكال، متمثلاً بتلك الروحية التي جُبلت على البذل والعطاء والتضحية؛ لتكون انعكاساً حقيقياً وملموساً لتلك البذرة التي بذرها الإمام الحسين (عليه السلام) في هذه الأرض، التي شاء الله لها أن تكون خصبة في احتضانها تلك القيم النبيلة والسامية، حتى أصبحت محط أنظار العالم أجمع، ومبعث إعجابهم ودهشتهم بما ليس له مثيل في كل بقاع المعمورة؛ وليكونوا ببركة وجود الإمام (ع) في أرضهم وقلوبهم مصداق استجابة الباري- عزّ وجل- لدعاء إبراهيم عليه السلام {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم : 37].

إنَّ صورة العطاء والبذل التي جسّدها العراقيون بمواكبهم وبيوتهم الممتدة على طول (طريق الأربعين) باتجاهاته المختلفة بلا شك تشكل صورة إعجازية لا يختلف عليها اثنان. ولا يمكن تفسيرها لا سوسيوثقافياً ولا سيكولوجياً؛ لأنها خارج كل التوصيفات والتحليلات، بل لعلها في بعدها المادي كسرت كل توقعات منطق التحليل الاقتصادي، فجعلت من القيمة المعنوية للأشياء معياراً يفوق قيمتها المادية والسوقية المتعارف عليها اقتصادياً، وهو أمر إذا ما حدث فإنه يحدث بشكل محدود واستثنائي، ولكن حدوثه بهذا الشكل الواسع والعام، هو ما يمكن أن يعد إعجازياً لا تستطيع أن تفسره المنطقية المادية.

إنَّ حضور القيم الروحية التي تستمد فيوضاتها من ذلك المصدر الرباني هو ما يجعل من كل شيء مرتبطاً به خارج قياسات التوقع والتخمين والتحليل المادي.

اضف تعليق