إنَّ تحديد دور الشعر وأهميته مهمَّة ليست باليسيرة، بل لنا أنْ نقولَ إنَّ كل تحديدٍ لذلك هو مجازفة لا تخلو من الانحراف المفاهيمي أو الإلغائي، سواء كان ذلك التحديد وفقاً لوجهة النظر الفلسفيَّة، أم الأدبيَّة، أم الاجتماعيَّة، أم غير ذلك؛ لأنَّ الشعر عنصرٌ هلاميٌّ في الحياة...
كثيراً ما يثار التساؤل حول ماهيَّة الشعر، ودوره في الحياة، وضرورته الوجوديَّة؟ ويبدو أنَّ هذه التساؤلات هي نتاج الفكر الفلسفي، فغالباً ما ترتدي الفلسفة جبة القضاة لتضع الشعر في قفص الاتهام، ناظرة له بمنظار القصور الفكري، وهو ما ابتدأه معلم الفلسفة الأول أفلاطون في جمهوريته المثاليَّة الفاضلة، التي بُنيت على الفضائل الثلاث: (الحكمة والشجاعة والعدالة)، بينما يعد الشعر تقليداً للعالم الحسي، وهو ما يتناقض مع البنية المثاليَّة لجمهوريته.
وفي ذات المسار وقف الفلاسفة على الرغم من تقديره للشعراء في بعض أعماله، بل كان يعدُّهم الخالدين الذين يتحدثون بلسان الآلهة، ورأى أنَّ الشعر ينبعُ من القوة الإبداعيَّة والفنيَّة للإنسان ويعبر عن إرادة الحياة، إلا أنه في مواضع أخرى انتقدهم لسطحيتهم وعدم قدرتهم على الوصول إلى أعماق الحقيقة.
في كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، يعبر عن خيبة أمله من الشعراء، معتبرًا أنهم سطحيون ولا يتعمقون في الأفكار والمشاعر الحقيقيَّة.
ومثله الفيلسوف الفرنسي بول فاليري رغم كونه شاعراً إلا أنَّه أبدى تحفظاتٍ تجاه العاطفيَّة والذاتيَّة في الشعر، وسعى في أعماله إلى تحقيق دقة عقلانيَّة وموضوعيَّة علميَّة.
وبعكس هؤلاء وغيرهم فإنَّ هناك فلاسفة آخرين كانوا ينظرون إلى الشعر نظرة تقديرٍ، فقد كان هيجل يعدُّ الشعرَ أرقى أشكال الفن؛ لأنه يتحدث إلى الروح مباشرة، ورأى أنه وسيلة للتعبير عن الروح المطلقة وتجاوز حدود الواقع للوصول إلى أعمق جوانب الحقيقة، وقريب من ذلك كان هايدغر يعدُّ أنَّ "الشعر هو إقامة الإنسان في الحقيقة". أما الشاعر والفيلسوف الإنكليزي بيرسي شيلي وفي مقاله "دفاعاً عن الشعر"(A Defence of Poetry)، فقد أكد أنَّ الشعراء هم "المشرعون غير المعترف بهم للعالم"، معتبراً أنَّ الشعر يلعب دورًا حيويًا في تشكيل الأخلاق والقوانين المدنيَّة، وأنه مصدرٌ للإلهام والتقدم الاجتماعي.
وهكذا استمرَّ التساؤل الفلسفي عن جدوى الشعر في الحياة، وقدرة الشاعر على إنتاج الأفكار وإيضاحها في شعره، ولعلَّ مثل هذا التساؤل بات يجد صدىً أكبر له في ظل التقنيَّة الحديثة المتطورة التي أصبحت تشغل بوسائلها المدهشة حيزاً كبيراً في حياة الإنسان واهتماماته، وهو ما يشكل تحدِّياً خطيراً يمكن أنْ يواجه الشعر، سواء في قدرته على التعبير عن الصورة الحياتيَّة الجديدة أم في طريقة نقل وتقديم خطابه للمتلقي.
ولكنْ قبل ذلك لنعد للتساؤلات الأولى عن دور الشعر وماهيته، هل هو لعبة لغويَّة مفرغة من الفكر أم هو نتاجٌ فكري؟ وهل هو شيءٌ كماليٌّ أم هو ضرورة تكوينيَّة؟
بدءاً لا بُدَّ أنْ نؤكدَ أنّ العلاقة بين الشعر واللغة علاقة تكامليَّة بالنسبة للشعر على الأخص، إذ لا يمكن أنْ يكون للشعر وجودٌ من دون وجود اللغة، فهي القوام والمادة الأساسيَّة لكينونته، وبها ومن خلالها ترتسمُ وتتجسدُ ملامحه.
أما توصيفه بين أنْ يكون لعبة لغويَّة أو هو نتاجٌ فكريٌّ، فكلاهما لا ينطبقان مع الضرورة الحتميَّة لوجود الشعر، ومع أنَّ الشعر لا يخلو من المحتوى الفكري إلا أنَّ توصيفه بأنه نتاجٌ فكريٌ هو توصيفٌ تعسفيٌّ وتحريفٌ لدوره العاطفي، بل يمكن أنْ نقول - مع شيء من التحفظ – واتفاقاً مع مقولة فلاسفة النيوبراغماتيَّة "هو رحلة دائمة لإعادة اختراع المعنى، وليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة التقليديَّة".
كما أنّه لا يمكن أنْ يكون شيئاً كمالياً في الحياة، بل هو ضرورة حتميَّة ليس لاستحالة الحياة من دونه ولكنْ لتكاملها بوجوده، فهو يمثل أحد أهم تجليات العلاقة بين الفكر والعاطفة، أو الجسم المثالي لتلك العلاقة، والذي تنعكس عليه ومن خلاله صورة الأشياء المحيطة وما يترتب عليها ومنها من تفاعلات وانفعالات داخل النفس البشريَّة.
وهو بتعبيرٍ آخر يمكن أنْ يمثلَ سلسلة من العلاقات بين الفكري والجمالي وما بينهما. بل إنَّه يمثل رؤية الشاعر للحياة بكل ما فيها وما حولها، تلك الرؤية التي تجمعُ بين ما هو واقعيٌ وما هو ميتافيزيقي؛ لتقدم من خلال ذلك صورة تكامليَّة لا يمكن فصل أجزائها عن بعض؛ فهي تمثل وحدة مترابطة ومتلازمة تنحت من هيولا الخيال صورتها اللغويَّة؛ لتنقل خطاب الذات منها وإليها وربما إلى الآخرين أيضاً.
إنَّ تحديد دور الشعر وأهميته مهمَّة ليست باليسيرة، بل لنا أنْ نقولَ إنَّ كل تحديدٍ لذلك هو مجازفة لا تخلو من الانحراف المفاهيمي أو الإلغائي، سواء كان ذلك التحديد وفقاً لوجهة النظر الفلسفيَّة، أم الأدبيَّة، أم الاجتماعيَّة، أم غير ذلك؛ لأنَّ الشعر عنصرٌ هلاميٌّ في الحياة، لا يمكن وصفه أو تحديد ماهيته أو أهميته، ولا نقصد بذلك ذاته التكوينيَّة، بل نقصد علاقته بالحياة ومن فيها وما فيها.
يرى الشاعر والفيلسوف الإيطالي إيتالو تيستا (Italo Testa): "أنَّ الشعر يرفض أنْ يُوضع على المستوى ذاته مع الفلسفة، لأنَّ قيمته لا تكمن في قدرته على عقلنة أو توضيح المفاهيم. الشعر يفعل شيئًا آخر: إنه يُجسد نوعًا من التجربة لا يرتبط بالعالم المفهومي والفكري، بل بالجسدي، بما لا يمكن التعبير عنه بسهولة. ولهذا السبب، فإنَّ الشاعر ليس في مجال "امتلاك الأفكار" بالمعنى التقليدي، ولماذا يجب حماية الشعر من أي محاولة لتقليصه إلى مفاهيم فلسفيَّة للوضوح أو العقلانيَّة".
كما أننا نرى أنَّ وظيفة الشعر ليست في قول الحقيقة، ولكنه يسعى إلى إثارة التساؤلات في ما يكتنف الحياة وما حولها من غموضٍ ليس سعياً لإيضاحه بل للتعريف به وتوجيه الفكر للبحث عنه وفيه.
اضف تعليق