إن تمثلات اللايقين في الرواية ليست مجرّد قطيعة مع "اليقين الكلاسيكي"، بل هي استجابة جمالية ومعرفية لزمن لم تعد فيه الحقيقة قادرة على فرض ذاتها بوصفها سلطة. وهكذا، يمكن القول إن الرواية أصبحت جنساً يعكس حالة الإنسان المعاصر: كائناً مشككاً، معلّقاً، يعيش في هوامش الأسئلة لا في يقين الأجوبة...
شهدت الرواية، بوصفها جنساً أدبياً مفتوحاً، تحولات بنيوية ومعرفية عميقة بفعل التغيرات الفكرية التي طرأت على أنماط تمثيل العالم منذ أواخر القرن التاسع عشر. فمع تفكك السرديات الكبرى وانهيار اليقينيات الكلاسيكية حول الذات والمعرفة والواقع، بدأت الرواية تتخلى عن وظيفتها التمثيلية التقليدية التي كانت تهدف إلى عكس (الواقع) أو تجسيد (الحقيقة)؛ لتصبح أداة لتوليد الأسئلة، واستكشاف التعدد، وتعميق الشعور باللايقين.
وفي هذا السياق، لم يعد الراوي، على سبيل المثال، تلك السلطة المطلقة التي تنقل الحكاية من موقع العارف والمهيمن، بل تحول في كثير من الأعمال إلى راوٍ غير موثوق، متذبذب، متورط في الحكاية، أو حتى منقسم على نفسه. ومن خلال هذه التقنية، تخلّت الرواية عن مركزية الحقيقة الواحدة لصالح تأويلات متنازعة ومتجاورة.
كما انعكست هذه التحوّلات في تبني الرواية لأساليب سردية تقوّض "الواقعية الصلبة"، مثل التداخل بين الواقع والمتخيل، والتشظي الزمني، وكسر "الجدار الرابع" بين النص والقارئ. فبدل أن تُنتج الرواية تمثيلاً مستقراً للعالم، باتت تنتج عالماً محتملاً تتعدد فيه الاحتمالات، وتُعوّم فيه الحقيقة، وتُفتح فيه النهايات.
هذا التوجّه لا يمكن فصله عن التأثيرات الفلسفية لمفكرين مثل نيتشه "الذي فكك مركزية الحقيقة المطلقة"، وهايدغر "الذي زعزع مفهوم الكينونة الثابتة"، ودريدا "الذي أكد على الطابع المؤجل واللامتناهي للمعنى". كما تأثرت الرواية بما بعد البنيوية، التي أكدت أن كل معنى هو هشٌّ، قابل للتقويض، وأن كل قراءة تحمل بذور لا يقينها في ذاتها.
إن تمثلات اللايقين في الرواية ليست مجرّد قطيعة مع "اليقين الكلاسيكي"، بل هي استجابة جمالية ومعرفية لزمن لم تعد فيه الحقيقة قادرة على فرض ذاتها بوصفها سلطة. وهكذا، يمكن القول إن الرواية أصبحت جنساً يعكس حالة الإنسان المعاصر: كائناً مشككاً، معلّقاً، يعيش في هوامش الأسئلة لا في يقين الأجوبة.
وإذا كانت التحوّلات المعرفية قد خلخلت صورة العالم في الرواية، فإن أثرها الأعمق ربما يتجلّى في بِنية الشخصية الروائية ذاتها، تلك التي كانت في الرواية الكلاسيكية تُبنى وفق معايير الثبات والاتساق الداخلي والتطوّر السببي، فأصبحت – في الرواية الحديثة وما بعدها – كائناً هشّاً، يتقاطع داخله الوعي بالحيرة، والهوية المتشظية، والتوتر الوجودي.
في الرواية الاحتمالية أو اللايقينية، لم تعد الشخصية تسير وفق مسار نفسي أو سردي واضح، بل تتحرك في فضاء رمادي، مفتوح على احتمالات متعددة، وقد تكون أحياناً غير قادرة على تفسير ذاتها أو اتخاذ قراراتها. تظهر الشخصية بوصفها سؤالاً أكثر منها إجابة، وتغدو هويتها قابلة للتفكك أو الانعكاس أو حتى التناقض، ما يجعل القارئ نفسه أمام تحدٍّ تأويلي دائم.
ولعل أبرز ملامح هذا اللايقين تتجلى في الشخصيات التي تنتمي إلى العوالم المتأرجحة بين الواقع والخيال، أو تلك التي تُقدَّم دون خلفيات نفسية واضحة، أو تسير في حيوات لا تنتهي إلى مصير واضح. نذكر هنا شخصيات مثل "ك" في رواية القلعة لكافكا، الذي لا نعرف هويته الكاملة ولا دوافعه، أو شخصية "مصطفى سعيد" في موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، التي تُروى من خلال ضباب كثيف من التناقضات والاختفاء، أو شخصية "الشسمه" في فرنكشتاين في بغداد لأحمد السعداوي، التي تتخلق عبر ركام من التشظيات المادية والاجتماعية في ضوء مرجعية تناصِّية ، بما يحيل إلى هوية سردية مفككة بالأساس.
هذا اللايقين في بناء الشخصية ينعكس أيضاً في طبيعة علاقتها بالزمن، وبالمكان، وبالآخر. فالشخصية لم تعد تنتمي إلى "عالم واقعي"، بل تتحرك في فضاءات محتملة، أو عوالم سردية متعدّدة.
إنّ اللايقين هنا ليس نقصاً أو خللاً، بل استراتيجية سردية تعكس بعمق تجربة الإنسان المعاصر، الذي لم يعد يثق في سردية واحدة عن ذاته أو عن العالم. ومن ثم، تتحول الشخصية الروائية إلى مرآة لهذا التفتت، لا بوصفها حالة فردية فحسب، بل كصورة لانهيار التصنيفات الكبرى للهوية.
وإذا كان السرد التقليدي يقوم على انتظام الحدث وتطوّر الحبكة بشكل منطقي يُفضي إلى خاتمة "ضرورية"، فإن الرواية المعاصرة، في كثير من تجلياتها، قد تمردت على هذا المنطق السردي لصالح تصور جديد يقوم على الاحتمال بوصفه أفقاً جمالياً وفلسفياً. لقد أصبح "الاحتمال" ليس مجرد تقنية سردية، بل رؤية للعالم تنعكس في طبيعة البناء الروائي نفسه: من الشخصية المتعددة، إلى الزمن المفكك، إلى الحدث المتروك للتأويل.
في هذا السياق، تخلّت الرواية عن مركزية "النهاية" بوصفها ذروة الحكاية أو غايتها، وراحت تشتغل على البنية المفتوحة، حيث لا حسم للحدث، ولا وضوح للمآلات، وكأن الرواية تكتب نفسها كـ"سؤال معلّق" بدلاً من جواب ناجز. نرى ذلك في روايات تنتهي بانقطاع مفاجئ، أو تطرح نهاية ضمن النّص ليتم نقضها لاحقاً، أو تمنح القارئ أكثر من مصير للشخصيات، أو أكثر من صورة للحدث.
هذه الكتابة الاحتمالية ليست عبثاً، بل تستند إلى خلفية معرفية عميقة تتقاطع مع علوم مثل الفيزياء الكوانتية (التي تنظر إلى الواقع كفضاء من الاحتمالات)، أو نظرية الألعاب (حيث كل خيار يولّد سلسلة من النتائج الممكنة)، أو حتى التحليل النفسي المعاصر (الذي يرى الهوية باعتبارها مشروعاً مفتوحاً وليس كياناً مكتملاً).
ولعلّ من أبرز الممارسات الجمالية التي تعكس هذا التوجه هو ما نجده في:
الرواية المتفرعة (كما في بعض الأعمال التفاعلية أو الميتاسردية)، حيث يمكن للنص أن يسلك أكثر من مسار.
السرد اللازمني أو الدائري، الذي يُبطل مفعول السببية التقليدية (حيث تنتهي فيه القصة من حيث بدأت).
استراتيجيات الشك، حيث يقدَّم الحدث من أكثر من زاوية، دون مرجعية "يقينية" للحقيقة.
ونجد تمثلاً لهذه المسارات في روايات:
مدن الملح لعبد الرحمن منيف: حيث المدينة نفسها تصبح كياناً احتمالياً يتشكّل ويتداعى، بلا يقين سردي.
والحفيدة الأميركية لإنعام كجه جي: هويات معلّقة بين الوطن والمنفى، والبطلة نفسها لا تعرف تماماً لمن تنتمي.
وكذلك بنات غائب طعمه فرمان لخضير الزيدي: حيث يمتزج الواقعي بالمتخيل؛ ليصنعا من الوهم والإيهام فضاء وثيمة للسرد، مما يجعل الشخصيات تتحرك في دائرة من الاحتمالات المفتوحة.
ورواية أصوات من هناك لنعيم آل مسافر: حيث يقدم الحدث وجهات نظر مختلفة.
ومن ثم فإن الرواية لم تعد وسيلة لفهم "ما حدث، بل فضاء لاستكشاف ما يمكن أن يحدث"، ولعلّ هذا هو جوهر الجمالية الاحتمالية من خلال تحويل الرواية إلى مختبر سردي، تُجرّب فيه الإمكانات، ويُعاد فيه إنتاج الواقع لا بوصفه معطى، بل بوصفه فرضية مفتوحة.
إن القارئ في هذا النوع من السرد لا يبحث عن "خاتمة"، بل عن أفق تأويلي، ولا يتلقى الحكاية، بل يشارك في بنائها وتخيّل تشعباتها، ما يجعله جزءاً من لعبة الاحتمال، لا شاهداً من الخارج.
اضف تعليق