الإمام الحسين (ع) هو الذي حفظ الإسلام الحقيقي في واقع الأمة رغم كل ما تعرضت له نهضته ومسيرته من تشوهات ومحاولات دفنها أو محوها من أذهان وأفكار وواقع الأمة إلا أنه كلما اشتدت عليه الخطوب والظلام تراه نوراً ينبثق من قلب تلك الظلمات وينير دروب العشاق...

قال رسول الله (ص): (وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا تَنَبَّأَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلاَّ بِمَعْرِفَتِهِ وَاَلْإِقْرَارِ لَنَا بِالْوَلاَيَةِ)

مقدمة قرآنية

قال ربنا سبحانه وتعالى في آيتين كريمتين: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل/18)، و(وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم/34)، ولكن ما الفرق بين الآيتين ولماذا هذا الاختلاف بينهما؟

الآية الأولى تتحدَّث عن عدم إحصاء النِّعم الإلهية وذلك لأنها من الله الغفور للذنوب والرحيم بالعباد، وأما الآية الثانية فهي تتحدَّث عن نفس القضية وعدم إحصاء النِّعم الإلهية ولكن تلتفت إلى الإنسان الظَّلوم أي الكثير الظلم لنفسه ولمَنْ هم حوله، والكفَّار أي عظيم وكثير الكفر والجحود بالنعِّم الإلهية، وهنا تكمن المفارقة العجيبة بين الخالق والمخلوق، وبين الرَّب والمربوب.

فالخالق الذي يتَّصف بكل صفات العظمة والقوة والجبروت يرحم ويغفر، والمخلوق الذي يتصف بكل صفات الضعف، (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) (النساء/28)، و(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (الروم/54)، ولكن هذا الضعيف المستضعف الذي قال عنه أمير الكلام والبيان، وأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): (مِسْكِينٌ اِبْنُ آدَمَ؛ مَكْتُومُ اَلْأَجَلِ، مَكْنُونُ اَلْعِلَلِ، مَحْفُوظُ اَلْعَمَلِ، تُؤْلِمُهُ اَلْبَقَّةُ، وَتَقْتُلُهُ اَلشَّرْقَةُ، وَتُنْتِنُهُ اَلْعَرْقَةُ) (نهج البلاغة: ج۱ ص۵۵۰)، وقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) عنه أيضاً: (اِعْجَبُوا لِهَذَا اَلْإِنْسَانِ؛ يَنْظُرُ بِشَحْمٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ، وَيَسْمَعُ بِعَظْمٍ، وَيَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ)، (نهج البلاغة: ج۱ ص4۷۰)، والعجيب أنه يطغى ويتكبَّر ويتجبَّر وينازع الله رداء الكبرياء والعظمة بجهله وسوء طالعه، واختياره وعمله.

فالعجب كل العجب من هذا المخلوق الضعيف كيف يتعاظم ويتكبَّر حتى يقول ما قاله فرعون الطاغية حين تفرعن ولم يمنعه قومه فاستضعفهم واستذلهم حتى قال لهم: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات/24)، فصدَّقه الأغبياء وعبده الأشقياء وهم يرونه أمامهم وأنه بشر مثلهم يأكل ويشرب ويتزوج بل كان عقيماً كما في بعض النصوص الروائية، فأي واحد منهم لديه أولاد وذرية كان أحسن حالاً منه واقعاً، ولكن لماذا الإنسان يتسافل ويتساقط إلى هذا الدَّرك الأسفل من القيمة والشرف والكرامة؟

كفران وجحود النِّعم الإلهية

بكلمة واحد: إن ذلك كله يرجع إلى الجهل والكفر والجحود بالنِّعم الإلهية، لأن الإنسان الذي يعرف النِّعمة، يشكرها ويشكر منعمها، وأما الذي يعرف ويستخدم النِّعمة ويتمتع بها فيجحدها، ويكفر بمنعمها عليه فهذا يستحق الحرمان ومنع النِّعم التي يكفر بمنعمها سبحانه وتعالى وهذا قانون كوني وسُنَّة اجتماعية جعلها الله حاكمة في المجتمعات البشرية منذ أن خلق الله آدم وأهبطه على هذه الأرض حيث قال: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم/7)، فهذه سُنَّة ربانية مستحكمة في المجتمع البشري ولكن البشر يتغافلون عنها وكأنهم لا يعرفونها.

أعظم النِّعم الإلهية هي الولاية

وذلك ما أثبته الله سبحانه وتعالى في فطرة البشر من قبل أن يخلقهم في هذه النشأة الناسوتية الأرضية في عالم الملكوت والسماوي حين أخذ عليهم ميثاقهم في عالم الذر وفي النشأة النورانية حيث قال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف/172)، قال الإمام الصادق (ع) فيها: (فَثَبَتَتِ اَلْمَعْرِفَةُ وَنَسُوا اَلْمَوْقِفَ وَسَيَذَكُرُونَهُ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَنْ خَالِقُهُ وَرَازِقُهُ). (تفسير القمی: ج۱ ص۲4۸)

وهذه الشهادة والإقرار لله بالوحدانية وللرسول الأكرم محمد (ص) بالرسالة ولأمير المؤمنين (ع) بالولاية، وهذا ما جاء في كثير من الروايات عن أئمة الحق والصدق، كقوله (ص) في حديث المقداد بن الأسود الكندي حيث يقول: (سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يَقُولُ: إِنَّ اَللَّهَ تَوَحَّدَ بِمُلْكِهِ فَعَرَّفَ أَنْوَارَهُ نَفْسَهُ ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِمْ أَمْرَهُ وَأَبَاحَهُمْ جَنَّتَهُ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ مِنَ اَلْجِنِّ وَاَلْإِنْسِ عَرَّفَهُ وَلاَيَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَطْمَسَ عَلَى قَلْبِهِ أَمْسَكَ عَنْهُ مَعْرِفَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا اِسْتَوْجَبَ آدَمُ أَنْ يَخْلُقَهُ اَللَّهُ وَيَنْفُخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَأَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ وَيَرُدَّهُ إِلَى جَنَّتِهِ إِلاَّ بِنُبُوَّتِي وَاَلْوَلاَيَةِ لِعَلِيٍّ بَعْدِي، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُرِيَ إِبْرَاهِيمُ مَلَكُوتَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَاَلْأَرْضِ وَلاَ اِتَّخَذَهُ خَلِيلاً إِلاَّ بِنُبُوَّتِي وَاَلْإِقْرَارِ لِعَلِيٍّ بَعْدِي، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً وَلاَ أَقَامَ عِيسَى آيَةً لِلْعالَمِينَ إِلاَّ بِنُبُوَّتِي وَمَعْرِفَةِ عَلِيٍّ بَعْدِي، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا تَنَبَّأَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلاَّ بِمَعْرِفَتِهِ وَاَلْإِقْرَارِ لَنَا بِالْوَلاَيَةِ وَلاَ اِسْتَأْهَلَ خَلْقٌ مِنَ اَللَّهِ اَلنَّظَرَ إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَاَلْإِقْرَارِ لِعَلِيٍّ بَعْدِي). (كتاب سُليم: ج۲ ص۸۵۸)

وقول الإمام الصادق (ع): (مَا تَنَبَّأَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلاَّ بِمَعْرِفَةِ حَقِّنَا وَبِفَضْلِنَا عَلَى مَنْ سِوَانَا)، (بصائر الدرجات: ج۱ ص۷۵)، وهذه الولاية العظمى هي التي يُسأل عنها العباد، وهي التي أتمَّ بها الله سبحانه كل النِّعم وذلك في يوم غدير خم ونصب صاحبها ولياً وقائداً وسيداً على العرب والعجم في خطبة جليلة وموقف رهيب وقفه رسول الله (ص) وأشهدهم جميعاً عليه وذلك بقوله لهم: (أيُّهَا النّاسُ، مَنْ أوْلى بِكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ؟ قالوا: اللهُ وَرَسوُلُهُ، فَقالَ: ألا فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا عَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ وَعادِ مَنْ عاداهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ)، فأثبت لوصيه ووليه أمير المؤمنين الإمام علي (ع) كل ما كان له من الطاعة والانقياد والتسليم في السَّراء والضَّراء، ولكن هذه الأمة ورجال قريش خاصة لم يقبلوا بما أمرهم الله به، ولم يرضوا بخيَرَةِ الله لهم بل اختاروا لأنفسهم وظنوا أنهم وفِّقوا كما كان يقول الحاكم الثاني لعبد الله بن عباس. 

وفي ذلك الموقف وبعد أن عصم الله رسوله الكريم من الناس، وأخذ منهم البيعة له بالرسالة ولأمير المؤمنين بالولاية والخلافة والوصاية نزل قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة/3)، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (اَلْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كَمَالِ اَلدِّينِ وَتَمَامِ اَلنِّعْمَةِ وَرِضَا اَلرَّبِّ بِرِسَالَتِي وَوَلاَيَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) (إقبال الأعمال: ج۱ ص4۵۸)

الإمام الحسين (ع) نعمة كبرى

فتمام النِّعم هي نعمة الولاية، والإمام الحسين (ع) هو ولي النِّعمة وإمام الأمة في عصره بعد أخيه السبط الأكبر الإمام الحسن المجتبى (ع)، وقد تصدَّى للإمامة لمدة عشر سنوات عجاف قضاها في حكم الطاغية معاوية بن هند الهنود، ولكنه كان صابراً محتسباً وملتزماً بالموادعة والمصالحة التي عقدها مع أخيه الإمام الحسن ومعاوية الذي كان له ولبني أمية أيام كما أخبر الحبيب المصطفى (ص) عنهم: (أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ تَمْلِكُ سُلْطَانَ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ وَمُلْكَهَا طُولَ هَذِهِ اَلْمُدَّةِ فَلَوْ طَاوَلَتْهُمُ اَلْجِبَالُ لَطَالُوا عَلَيْهَا حَتَّى يَأْذَنَ اَللَّهُ تَعَالَى بِزَوَالِ مُلْكِهِمْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَسْتَشْعِرُونَ عَدَاوَتَنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَبُغْضَنَا). (عوالم العلوم: ج۲۰ ص۹4۰)

فما عسى أن يفعل الإمام الحسن المجتبى، أو الإمام الحسين (عليهما السلام) حياله وهم أئمة الحق والصدق إلا أن يصبروا وكل منهم يقوم بالدور الذي حدده الله تعالى لهم، لأنه لكل إمام في حياته وأثناء تصديه للإمامة دور محدد من الله تعالى لا يخرج عنه قيد أنملة ولو خرج لجاءه العذاب كما قال الله تعالى لنبيه الكريم في أكثر من موطن من القرآن الحكيم كقوله تعالى له: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (الحاقة/46)، أو قوله له في شأن تبليغ الولاية حيث قال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة/67)، والإمام كالرسول تماماً لا يستطيع أن يخرج عن أمر الله تعالى لا في القول ولا في العمل.

نهضة الحسين (ع) إلهية

وعليه فإن نهضة وقيام الإمام الحسين (ع) هي نهضة وأمر بالقيام جاء من الله تعالى لوليه وإمام الأمة الذي اختاره الله على علم واختار له هذه المهمة الصعبة وهي القيام في وجه الطغيان والظلم الأموي ليُسقطه عن الاعتبار وإن لم يسقطه في الواقع وحياة الأمة لأن الأمة خائنة وخائرة القوى وتعبد صنم السلطة منذ أن تسنَّمه رجال قريش ولم ينهضوا لمنعهم وتخاذل الأنصار ولم يفوا ببيعتهم لرسول الله (ص) في العقبة، ولا لأمير المؤمنين (ع) في يوم الغدير ولما يمضِ عليه أكثر من سبعين يوماً فقط فابتلاهم الله بحكم بني أمية العضوض فعضَّهم وأذلَّهم إلى اليوم، فالعِلة في الأمة وليس في الأئمة، لأن الإمام إمام وإن لم يتَّبعه أحد من أمته فهل أضار هارون ترك بني إسرائيل له واتباعهم وعبادتهم عجل السَّامري؟

وهل انتقصت نبوة يحيى بن زكريا الذي ذبحوه وأهدوا رأسه الشريف إلى بغي من بغايا بني إسرائيل؟

وهكذا لم ينتقص الأئمة تولي الناس عنهم وعبادتهم العجول المختلفة، وأما الإمام الحسين (ع) الذي ابتُلي بعجل بني أمية الأدهى معاوية، ثم جاء دعيَّه ويزيده الشقي ليتسلَّط على الأمة وينفِّذ ما عجز عن تنفيذه معاوية وهذا ما تُشير إليه بعض النصوص الخفية حيث استنكر عليه أحدهم قتل الإمام الحسين (ع) بهذه الطريقة وسبيه عياله وهن ثقل الرسالة وبنات الرسول الأكرم (ص) فقال له: (إنها وصية الشيخ) ويعني معاوية.

وأما الإمام الحسين (ع) فقد صرَّح منذ اللحظات الأولى لأم سلمة وأخيه ابن الحنفية وغيرهما بأنه مقتول وأن بني أمية لن يتركوه حتى يقتلوه ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، ولذا قطع الطريق عن كل متقوِّل فيما بعد حيث قيل: (جَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحَنَفِيَّةِ إِلَى اَلْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فِي اَللَّيْلَةِ اَلَّتِي أَرَادَ اَلْحُسَيْنُ اَلْخُرُوجَ فِي صَبِيحَتِهَا عَنْ مَكَّةَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَخِي إِنَّ أَهْلَ اَلْكُوفَةِ قَدْ عَرَفْتَ غَدْرَهُمْ بِأَبِيكَ وَأَخِيكَ وَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُونَ حَالُكَ كَحَالِ مَنْ مَضَى فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُقِيمَ فَإِنَّكَ أَعَزُّ مَنْ بِالْحَرَمِ وَأَمْنَعُهُ. 

فَقَالَ: يَا أَخِي قَدْ خِفْتُ أَنْ يَغْتَالَنِي يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِالْحَرَمِ فَأَكُونَ اَلَّذِي يُسْتَبَاحُ بِهِ حُرْمَةُ هَذَا اَلْبَيْتِ، فَقَالَ لَهُ اِبْنُ اَلْحَنَفِيَّةِ: فَإِنْ خِفْتَ ذَلِكَ فَصِرْ إِلَى اَلْيَمَنِ أَوْ بَعْضِ نَوَاحِي اَلْبَرِّ فَإِنَّكَ أَمْنَعُ اَلنَّاسِ بِهِ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْكَ أَحَدٌ.

فَقَالَ: أَنْظُرُ فِيمَا قُلْتَ، فَلَمَّا كَانَ اَلسَّحَرُ اِرْتَحَلَ اَلْحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَبَلَغَ ذَلِكَ اِبْنَ اَلْحَنَفِيَّةِ فَأَتَاهُ فَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ وَقَدْ رَكِبَهَا فَقَالَ: يَا أَخِي أَ لَمْ تَعِدْنِي اَلنَّظَرَ فِيمَا سَأَلْتُكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا حَدَاكَ عَلَى اَلْخُرُوجِ عَاجِلاً؟

قَالَ: أَتَانِي رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بَعْدَ مَا فَارَقْتُكَ فَقَالَ: يَا حُسَيْنُ اُخْرُجْ فَإِنَّ اَللَّهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاكَ قَتِيلاً، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحَنَفِيَّةِ: إِنّا لِلّٰهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فَمَا مَعْنَى حَمْلِكَ هَؤُلاَءِ اَلنِّسَاءَ مَعَكَ وَأَنْتَ تَخْرُجُ عَلَى مِثْلِ هَذَا اَلْحَالِ؟ قَالَ: فَقَالَ لِي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): إِنَّ اَللَّهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاهُنَّ سَبَايَا). (بحار الأنوار: ج44 ص۳64).

فالأمر كله بمشيئة الله تعالى، وأمر من رسول الله (ص) فهي رسالة ودين لله تعالى فكيف يريدون من الإمام الحسين أن يستجيب لهم والمفروض أنهم جميعاً يستجيبون له ويرافقونه ويقاتلون دونه، ولكنهم تركوا واجبهم وجاؤوا إلى إمامهم وأرادوا أن ينصحوه وطلبوا منه أن يستجيب لهم وهذا هو العجب العجاب من هذه الأمة المتحيرة في أمرها ودينها.

الإمام الحسين (ع) حفظ الإسلام

والمتأمل حقيقة في التاريخ الإسلامي والواقع الذي وصلنا إليه بعد كل هذه القرون المتطاولة يجد أن الإمام الحسين (ع) هو الذي حفظ الإسلام الحقيقي في واقع الأمة رغم كل ما تعرضت له نهضته ومسيرته من تشوهات ومحاولات دفنها أو محوها من أذهان وأفكار وواقع الأمة إلا أنه كلما اشتدت عليه الخطوب والظلام تراه نوراً ينبثق من قلب تلك الظلمات وينير دروب العشاق والمحبين بشعائره وتألق نوره ونهضته، ولو كان الأمر ترك على ما أراده صبيان النار الأموية لما بقي من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه ولصار الإسلام كما المسيحية تماماً حيث حصروه في الكنيسة ولدقائق في يوم الأحد فقط ولذا خرجت الأمة منها.

فالإمام الحسين (ع) نعمة كبرى وبولايته وإمامته أتم الله النِّعم على هذه الأمة وعلى هذا الخلق ولكنهم جحدوا واستكبروا وما شكروها بل زحفوا إليه ليس ليُقبِّلوا يديه ورجليه بل ليقتلوه وكل مَنْ كان معه حتى طفله الرضيع ذبحوه وكان شعارهم في ذلك اليوم: (لا تبقوا لأهل هذا البيت باقية)، أي لا تبقوا لنعم الله عليكم باقية ولذا قصم الله أعمارهم سلَّط عليهم مَنْ لا يرحمهم لأنهم قتلوا الرَّحمة المهداة إليهم عطشاً وهو على شط الفرات.

ونعم ما يقول الإمام الشيرازي الراحل (رحمة الله عليه) في كتابه الجميل (عاشوراء والعودة إلى الإسلام) ما نصه: (جاءت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) ليعود المسلمون إلى الإسلام في كل زمان ومكان، فإن يوم عاشوراء كان من أجل العودة إلى الإسلام وعدم الإعراض عن ذكر الله عزوجل وأمره، والإمام الحسين (عليه السلام) قد ضحى بدمه ودماء أهل بيته وأصحابه لإحياء الدِّين المبين، كما يقول الشاعر(الشيخ محسن بن محمد أبو الحَب) عن لسانه (عليه السلام):

إن كان دين محمد لم يستقم *** إلا بقتلي يا سيوف خذيني

نعم إن يوم عاشوراء من أفضل الفرص للعودة إلى الإسلام وإلى ما تركه المسلمون من القرآن وسنة النبي (صلى الله عليه وآله) وسيرة أهل بيته الكرام (عليهم السلام)".

نعم؛ نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء كقيام النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير الغر لتثبيت الولاية والإمامة والقيادة في الأمة الإسلامية وبها يثبت الإسلام ويبقى ما بقي الدهر، ولكن هل فقهت الأمة ذلك أو أنها جحدت مقام النبي الأكرم، وقتلت نهضة السبط المكرم وتلك هي المصيبة العظمى حقاً التي سقطت بها هذا الأمة الظالمة المتحيِّرة للأسف الشديد. 

اضف تعليق