شكلت القصائد التي تناولت موضوعة الإمام الحسين عليه السلام ونهضته العظيمة بعداً تواصلياً ظل محافظاً على ألق حضوره برغم تعاقب الأزمنة والأحداث السياسية والاجتماعية.
وقد بسطت القضية الحسينية حضورها على مساحة كبيرة ومهمة من خريطة الشعر العربي بل نستطيع الجزم ان أكثر القصائد التي حفرت لها مكاناً قوياً في ذاكرة التلقي العربي نجد للنسغ الحسيني سطوعاً فيها، وذلك لعمق القضية الفكري والإنساني ولثراء معجمها الذي يعد ملهماً لكل جديد كتابي يستفز الشعور والوجدان، فلكربلاء وأحداث الظهيرة الملحمة في العاشر من محرم موحيات تغري بمطاردتها واصطيادها حيث شكلت لحظة التزاوج الزمني بين الماضي والحاضر نقطة أضاءت وتضيء أبعاد هذه النهضة الخالدة.
ولا أدل من ذلك من استذكار الإمام الحسين عليه السلام في الشعر العربي، فهذا الكنز الذي تجاوز مفهوم التراث بموضوعاته وقيمه الجمالية كون بمجموعه ملحمة أدبية خالدة استمدت قوتها من وجود أبطالها على أرض الواقع ناهيك عن أن رمز الحسين ذاته محفوف بكل الأبعاد التي تمد نسيج الملحمة بالحياة والروح لما يؤطر ذلك الرمز من طابع مقدس، لذلك لم يعدم الأدب الحسيني الجدة والأصالة في كل زمان ومكان(1).
لقد شاع استعمال رمز الحسين عليه السلام عند الشعراء بوصفه رمزاً متفرداً للرفض والتحرر، إلا أن طريقة التعامل مع هذه الرمزية تباينت ــ بطبيعة الحال ــ من شاعر لآخر، فسعة القضية وعمق مدلولاتها تتيح التعددية في أنساق الكتابة ومقاصدها التي يمكن أن نقسمها إلى الأبعاد التالية:
أولاً/ البعد العقائدي والعاطفي:
يمثل البعد العقائدي أهم مرتكزات المرثية الحسينية لأن المجاورة العقائدية لأي قضية تجعل من النص المنتج عنها في حركية مستمرة وقد جاء في الحديث الشريف (إن لقتل ولدي الحسين حرارة لن تنطفىء في قوب المؤمنين)، وهذه الحرارة التي جاءت في حديث المصطفى صلى الله عليه وآله تعطي للنص زخماً شعورياً توجهه بوصلة عاطفية تعبيراً عن هذا الحزن الأزلي.
ولايخفى أن الرثاء غرض شعري يعد الأقرب لترجمة المشاعر الإنسانية فكيف الحال إذا كان الراثي يرتبط مع الشخص أو الرمز برابط عقيدة وانتماء؟
يذكر الجاحظ أنه قيل لأعرابي: مابال المراثي أجود أشعاركم قال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق(2).
ولقد طالعنا في الروايات أن مراثي الإمام الحسين عليه السلام ذات البعد العقائدي بدأت منذ اللحظات الأولى لاستشهاده من خلال أبيات لم يتم التصريح بأسماء قائليها خوفاً من بطش السلطة الأموية الجائرة ومنها هذا البيت الذي ينسب لهاتف من الغيب:
أيها القاتلونَ جهلاً حسيناً
أبشروا بالعذابِ والتنكيلِ(3)
لتستمر بعدها القصائد الرثائية ذات البعد الولائي العقائدي لشعراء عرفوا بصدق انتمائهم لمنهج العترة الطاهرة عبر مراحل وحقب تأريخية عديدة ومنهم الكميت في هاشمياته والشريف الرضي في طفياته ودعبل صاحب التائية الشهيرة التي صارت إيقونة رثائية لخصت مظلومية آل محمد صلوات الله عليهم وهكذا بالنسبة لشعراء العصور المتأخرة من أمثال السيد حيدر الحلي والشيخ علي الشفهيني والسيد الحميري وابن العرندس الحلي صاحب الرائية الشهيرة التي يقول فيها:
أيُقْتَلُ ظمآناً حُسَيْنٌ بكربلا
وفي كل عضوٍ من أناملهِ بَحْرُ
ووالدُهُ الساقي على الحوضِ في غدٍ
وفاطمةٌ ماءُ الفراتِ لها مَهْرُ
وتجلى البعد العقائدي في رثاء الحسين عليه السلام بأبهى صوره عند شعراء المراحل التي تلت المرحلة السابقة حيث استلهموا تراث الشعر العربي كما في قصيدة الشاعر الدكتور قيصر معتوق الموسومة (العقيدة الخالدة) والتي ألقاها في أربعينات القرن المنصرم وقال في بعض أبياتها:
فَهْوَ الحُسينُ حفيدُ الوحي مَنْ وَجَدَتْ
فيه العقيدةُ كلَّ القصدِ والأملِ
وَهْوَ الحفيدُ لجد العُرْبِ قاطبة
وهْوَ الخليفةُ في حقٍّ بلا جدلِ
ضحى الحسينُ بنفسٍ عز مطلبها
لينسفَ الظلمَ بالبرهانِ والمثلِ
والمرء يقضي لكي تحيا عقائدُهُ
والأخذُ بالظلم يفني أعظمَ الدولِ
ونلحظ في هذه الأبيات ارتفاعاً واضحاً لنسغ العقيدة والإنتماء خصوصاً في البيت الثاني.
ويرتبط البعد العاطفي مباشرة وبدون وساطات مع البعد العقائدي، ومن المهم أن نذكر أن قصائد المرثية الحسينية لم تتبلور كثيراً في الحقبة التي شهدت استشهاده على العكس من القصائد التي نظمت في المراحل اللاحقة ومنها مثلاً بائية الكميت الأسدي حيث يقول:
ومنعفر الخدين من آل هاشمٍ
ألا حبذا ذاك الجبين المتربُ
قتيلٌ كأنَّ الولَّهَ العفرَ حوله
يطفنَ به شمَّ العرانين ربربُ
فصدق العاطفة الممزوج بالأسى يتجلى في هذه الأبيات التي حفلت كذلك بشيء من السرد المأساوي للحدث، كما أن شعراء العصور المتأخرة ضمنوا قصائدهم بمفردات عقائدية اكثر منها شعرية للإدامة الزخم العاطفي كمفردة الرجعة على سبيل المثال لا الحصر كما في عينية السيد حيدر الحلي التي يستنهض في أبياتها الإمام المهدي (عج) طالباً منه أخذ الثأر لجده الشهيد في قصيدة ظلت نشيداً متدفقاً من حناجر الموالين:
ماتَ التصبر بانتظارك أيها المحي الشريعة
فانهض فما أبقى التحمل غير أحشاء جزوعة
كم ذا القعود ودينكم هُدمت قواعده الرفيعة
ماذا يهيجك إن صبرت لوقعة الطف الفظيعة
أترى تجيءُ فجيعةٌ بأمَرَّ من تلك الفجيعة
وبالعود لموضوعة التزاوج الزمني بين الماضي والحاضر نجد أن بعض المرثيات في العصور المتأخرة تتماهى مع مرثيات العصور التي سبقتها على صعيد الأفكار والمضامين كما في قصائد السيد رضا الهندي وباقر حبيب الخفاجي وكاظم سبتي وعبد الحسين الحويزي الذين جرت قصائدهم على أنساق سردية عاطفية كما في هذه الأبيات للشاعر كاظم سبتي:
لِمن الرأسُ على رمحٍ طويل
مال والعرشُ له كادَ يميل
*******
لمن الأطفال صرعى كالنجوم......ولمن فوق الثرى تلك الجسوم
حولها تجثو نساءٌ وتقوم......تملأ البيداءَ نوحاً وعويل
*******
ياله يومٌ به الجِنُّ بكت......لدماءٍ فيه هدراً سُفِكَت
كم به ربّةُ خدرٍ سُفِكتْ......وَسَرَت للسبي من غير كفيل
ولعل أهم أسباب هذا التقارب الأسلوبي بين شعراء المراثي الحسينية هو وجود مدرسة خاصة للشعراء الشيعة تميزت بالنفس العربي الخالص استمرت إلى يومنا هذا.
ثانياً/البعد التنظيري والرؤيوي
بعد التغييرات السياسية والاجتماعية التي طرأت على الكثير من البلدان العربية ــ خصوصاً العراق ــ اتجهت القصائد الحسينية اتجاهاً يمكن أن نطلق عليه تسمية (الإتجاه التحفيزي) حيث صار الحسين في أكثر القصائد محفزاً لكل ما هو رفض للظلم والاستبداد ومغذياً لكل شعور ثوري بحيث صار الشاعر يتكئ على رمزية الحسين ومعجم الطف الثري من أجل تصدير فكرته الحاملة لقضايا أمته وشعبه، وهناك الكثير من العوامل التي ساعدت على ظهور هذا الإتجاه من الشعر منها ماهو عام شمل المنطقة العربية ممثلاً بالنهضة الأدبية العربية التي بدأت بإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا ونشوء تيار يهدف إلى إحياء التراث العربي فضلاً عن الاطلاع على الثقافات الأجنبية(5).
ومن الطبيعي أن يتفاعل الأدب الحسيني بوصفه أدباً حياً نابضاً مع هذه العوامل والمتغيرات فأصبحت قضايا الشعوب تأخذ حيزاً مكثفاً وقوياً في المرثيات الحسينية وأصبح الحسين ثيمة دائمة الحضور في قصائد تتخذ أبعاداً تنظيرية رؤيوية لما يجب أن يكون عليه مستقبل الأمة ولم تعد القصيدة مقتصرة على سرد أحداث كربلاء وإثارة العواطف والشجون بل صارت مادة للتأمل الذي يشكل الوعي كما في أبيات الشاعر طالب الحيدري:
دمُ الإمامِ الشهيدِ نورٌ
لنا وتاريخهُ نشيدُ
تصيحُ أيامُهُ علينا
تحرروا أيها العبيدُ
سُدنا على غيرنا قديماً
واليوم قد سادنا المسودُ
وبعض القصائد التي اتخذت جانباً تنظيرياً ابتعدت عن مخاطبتها للإمام الحسين مباشرة بل تعدت ذلك لتوجيه الخطاب إلى قاتله بلغة متجددة كقصيدة (خطاب إلى يزيد) للشاعر بدر شاكر السياب أحد رواد التجديد والمغايرة في حركة الشعر العربي حيث يرى ــ بعين الشاعر ــ الحال التي صار إليها يزيد بعد قتله السبط الشهيد:
أبصرتُ ظِلّكَ يايزيد يرجهُ
موجُ اللهيبِ وعاصفُ الأنواءِ
رأسٌ تكلّلَ بالخنا واعتاض عن
ذاك النضارِ بحيَّةٍ رقطاءِ
ويدانِ موثقتانِ بالسوطِ الذي
قد كان يعبثُ أمسُ بالأحياءِ
ويمكن القول أن الشعراء الذين اتخذوا منهج التنظير والمغايرة في قصائدهم منطلقين من الحافز الذي يوفره الرمز الحسيني نجحوا في هذه القصدية لإيمانهم بقدرة الأدب على تحريك المشاعر وتفجير الكامن من الطاقات لدى الجماهير.
ثالثاً/البعد الجمالي والحداثي
تشكل فنون البيان أبعاداً جمالية وفنية من خلال المجازات والاستعارات والكنايات تكسب النص الأدبي عوالم جديدة يمكن الإنطلاق منها لتكوين آراء جديدة دون الإبتعاد عن الجوهر الأصلي للقضية التي يتم تناولها.
ليست الحداثة أن نكتب وفق أحدث النظريات النقدية المستحدثة بل الحداثة الحقيقية أن تقرأ تراثك برؤى جديدة وتلك هي خصائص الموروث الحي(6).
والكثير من الشعراء اشتغل على قضية الإمام الحسين عليه السلام بملامح تجديدية صاغوا من خلالها جملاً شعرية أتاحت الغوص فيها بعيداً والتأمل في مدياتها لما لها من عمق تصويري وجمالي، وقد بدأت هذه الملامح مع عينية شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري الذي اتخذ من رمز الحسين عليه السلام منطلقاً لأسئلة الذات ليصل من خلاله إلى نقطة الإيمان بقضيته عقلاً دون الإلتفات إلى الوراء:
تمثلتُ يومك في خاطري
وردّدتُ صوتك في مسمعي
ومحَّصتُ أمرك لم أرتهبْ
بنقلِ الرواةِ ولم أخدعِ
إلى أن أقمتُ عليهِ الدليل
من مبدأٍ بِدَمٍ مشبعِ
فَأسْلَمَ طوعاً إليك القياد
وأعطاك إذعانةَ المهطعِ
فَنَوَّرت مااظلمَّ من فكرتي
وَقَوَّمْتَ مااعوجَّ من أضلعي
وآمنتُ إيمانَ من لايرى
سوى العقل في الشك من مرجعِ
نعتقد أن الجواهري في هذه القصيدة العملاقة فتح باب التجديد على مصراعيه أمام الأجيال اللاحقة لتنطلق في كتابتها عن القضية الحسينية بلغة مغايرة عن السائد مع مراعاة عدم القفز على الحقائق التأريخية والموضوعية المحيطة بملحمة الطف ولنقرأ مثلاً هذه الأبيات للشاعر المعاصر مسار رياض:
وأجدبَ غيمُ الروح حدَّ يبابهِ
وناداكَ أدركني فأقبلْتَ ممطرا
رَأتكَ أماني المتعبينَ مُعَبّأً
بِهَمٍّ نبيٍّ فاصطفتكَ مُبَشِّرا
ويعرفك الأيتامٌ منديلَ دمعهم
وظِلاًّ إذا قيظُ الزمانِ تنمَّرا
يقولُ شيوخُ الموجِ: جاءَ وحولهُ
من الوهج القدسيِّ مالم يكن يُرى
أعادَ بناءَ الماءِ حسب اشتهائهِ
يراقبه التأريخ إذ ذاك مُقفرا
ويمكن للقارئ العزيز أن يلحظ التراكيب الجديدة الجميلة التي سكبها الشاعر على قصيدته مثل (منديل الدمع، تنمّر القيظ، شيوخ الموج) وكيف وظفها بمهارة عالية وتمكن واضح من الأدوات لصالح قضيته الإنسانية التي آمن بها، فأبعاد الملحمة الحسينية تنفتح على كل ماهو جديد وحداثوي حتى وإن كان هناك اختلاف على أصل تسمية الحداثة.
اضف تعليق