اسهامات المنبر لا تقتصر عند حد الوعظ والإرشاد وذكر الوقائع التاريخية او المسائل الفقهية، ففي ذلك تحجيم واضح لأدوار كبيرة ساهم فيها المنبر، مثلما يمكنه في ان يساهم في غيرها، وتنوعت بين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والادب والأديان والتعليم والتربية وغيرها، وقد شكل المنبر في...
ان اسهامات المنبر لا تقتصر عند حد الوعظ والإرشاد وذكر الوقائع التاريخية او المسائل الفقهية، ففي ذلك تحجيم واضح لأدوار كبيرة ساهم فيها المنبر، مثلما يمكنه في ان يساهم في غيرها، وتنوعت بين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والادب والأديان والتعليم والتربية وغيرها، وقد شكل المنبر في فترة من الفترات الواجهة الدينية والاعلامية الأبرز التي يجتمع حولها الناس لمعرفة أمور دينهم ودنياهم وما أشكل عليهم أيام الفتن والمحن.
وقد حاول المصلحون استخدام التأثير القوي الذي يملكه المنبر في نفوس المستمعين لإصلاح المفاسد والعاهات الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات، في المقابل حاول الحكام والرؤساء استخدام المنبر كوسيلة لفرض اجنداتهم الخاصة وتثبيت حكمهم الاستبدادي عبر الترهيب والترغيب.
وقد ولد هذا الصراع بين الإصلاح والاستبداد حساسية شديدة وعداء مستمرا من قبل القابضين على السلطة تجاه المنبر والمجالس التي يجتمع فيها الناس وتعقد تحت هذه المنابر باعتبارها خطراً يهدد وجودهم واستمرارهم في السلطة، لكنه في الوقت ذاته، اكسب المنبر المزيد من القوة والشعبية والتأثير في نفوس الافراد لأنه ببساطة حافظ على المبادئ الإسلامية التي ضحى من اجلها الامام الحسين بن علي (عليهما السلام) وكل المصلحون والاحرار في العالم.
الحاجة الى المنبر
لان المنبر يمتلك كل هذه الشعبية والتأثير الكافي لإحداث الفرق داخل المجتمعات، فقد أصبحت الاستعانة بقدراته:
1. المادية: بحكم انتشاره في كل المدن والقرى والارياف والقصبات والنواحي مع وجود المتبرعين والقائمين على استمرار عقد المجالس في الجوامع والحسينيات والمواكب والساحات العامة.
2. المعنوية: التأثير الفكري والعاطفي الذي يملكه تجاه السامعين، إضافة الى ارتباطه التاريخي بقضايا واحداث اليمة زادت من قوة الارتباط والتأثير.
امر ضروري للغاية، فالحاجة الى المنبر هي حاجة واقعية وليست من باب الخيال او الترفيه لأسباب عديدة:
1. قوة التأثير التي يمتلكها في نفوس الافراد
2. الانتشار الواسع الذي يغطي اغلب المدن والأماكن النائية
3. سهولة نقل المعلومة التي يراد ايصالها الى المستمعين عبر شبكة واسعة من الخطباء والمتكلمين
4. لا تحتاج الى صرف أموال طائلة بل تعتمد على نوع من التمويل الذاتي الذي يقوم به المتبرعون وأهالي المنطقة.
5. يعتمد المنبر خطابا قائما على نشر الفضائل وتربية الافراد وبث الوعي والاصلاح ومحاربة الجهل والتخلف، وهي مقاومات ضرورية لنهوض المجتمعات الإنسانية.
ومن باب الفائدة والتجربة ننقل ما ذكره المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي عن ذكرياته مع المنبر في كربلاء المقدسة ومقدار استفادته منها والتي قال عنها: "كما كنت مولعاً بالحضور في المجالس الحسينية، والتي هي كثيرة جداً في كربلاء، ولعلي لا أكون مبالغاً إذا قلت، أن معدل المجالس التي كنت أحضرها كل سنة، يقرب من ألف مجلس، وحيث أن المجالس كانت متنوعة مختلفة من حيث المادة والمناسبة والصورة، فقد شحنتني بمادة غزيرة متنوعة، كما أطلعت بواسطتها على الحياة العامة، حيث أنها بسبب ما تلقى فيها من التواريخ والقصص والحكايات والنكت ترى فيها الكثير الكثير من مختلف الثقافات والأمم والأجيال والعادات والتقاليد، بالإضافة إلى أن حضور الإنسان في كل بيت مجمع للاستماع إلى الخطيب، يؤدي إلى اتصاله بمختلف أفراد الناس".
المنبر والتربية
أحد اهم المحاور التي يضطلع بها المنبر هو الدور التربوي الموجه للامة في سبيل انهاضها الاصلاحي ونهضتها الاجتماعية، ومن ثم في باقي مجالات الحياة المختلفة، وعلى هذا الأساس، قسم السيد محمد الشيرازي المنبر على قسمين:
1. المنبر العادي
2. المنبر التربوي
وقد لخص السيد الشيرازي الفرق بين المنبرين بالإشارة الى الخطيب في المنبر التربوي: "وعلى الخطيب ان يهتم لان يكون منبره مربياً، لأنه هو المفيد الناجح، والغالب ان يكون من شروط (المربي) اتصاف المتكلم بالصفات الحسنة، وهدوء المنبر، وغزارة المطلب، وكون المنبر موجها لا مبعثراً، وكون المطالب بالغة تصل الى القلوب، الى غيرها من الصفات، وفي الحقيقة: ان مثل هذا عادة يدرك ولا يوصف، ويتمكن الخطيب من تحصيله بطول الممارسة للمنبر، وطول الملاحظة والاستفادة من تجاربه عند الأساتذة".
اما المنبر العادي فقد ذكره بالقول: "كما ان المنبر العادي لا يحتاج الى شيء كثير، والغالب انه ليس أكثر من ضجيج فارغ، وبعثرة في الكلام، وتفرق وتشتت في المطالب والمواضيع".
والفرق واضح بين الاثنين من خلال:
1. المنبر التربوي يعتمد على غزارة في المطلب كونه يعتمد على التفكير والعقل والمنطق في طرح قضايا تربوية تهم المجتمع، في مقابل ان المنبر العادي لا يحتاج الى شيء كثير.
2. المنبر التربوي يعتمد على الهدوء والصبر والمثابرة في إيصال المطالب المرجو ايصالها الى الافراد لإحداث التغيير المنشود، وهو امر لا يتحقق في "ضجيج فارغ" يمارسه المنبر العادي.
3. المنبر التربوي منبر موجه لا مبعثر ومطالبه تصل الى قلوب وعقول الناس، في حين تتشتت المطالب والمواضيع في المنبر العادي ويتبعثر فيه الكلام، وبالتالي صعوبة في إيصال المعلومة او احداث أي فرق من خلاله.
المنبر والخطيب
من الضروري جداً تنزيه المنبر عن أي شائبة قد تلتصق به من جراء ممارسات البعض ممن يدعي الخطابة ويرتقي اعواد المنبر من غير وجه حق، لان من يفعل ذلك لا يسيء الى نفسه فحسب، بل الى المنبر وتاريخه ومكانته الدينية والاجتماعية والتربوية بين افراد المجتمع، وقد قال السيد محمد الشيرازي : "اما لزوم الصدق في الكلام، والإخلاص في القراءة، والكف عن ذكر المطالب غير اللائقة وعن ذكر الروايات الضعيفة او المنامات البعيدة او التواريخ غير الثابتة او ما اشبه فهذه من الأمور الواضحة التي لا تحتاج الى التفصيل".
ولا يكفي ابعاد وتنزيه المنبر عن الشوائب والافتراءات التي يمكن ان تربط به زوراً وكذبا، بل ينبغي ان يحصن الخطيب والمتكلم نفسه من الشوائب والمفاسد أيضاً، فالمصلح ينبغي ان يعمل على اصلاح نفسه قبل اصلاح الاخرين، وهكذا المتكلم والناصح ايضاً، عليه ان يطبق ما يقول في نفسه واهل بيته قبل ان يحاول تطبيقه بين الافراد والأمة في عنوانها الاوسع، وقد أشار السيد الشيرازي الى هذه النقطة المهمة بالقول: "يبدأ من نفس الإنسان، فإنه إذا لم يصلح الإنسان نفسه لا يمكنه إصلاح غيره من بني نوعه أو المحيط المتعلق به، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والطبيعي وغيرها، وقد قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)(الرعد:11)، فإن أول التغيير إلى الصلاح أو الفساد هو الإنسان".
برنامج عمل
ان الحاجة الى المنبر المربي هي حاجة واقعية بحكم المقومات التي يملكها المنبر للقيام بهذه المهمة الحيوية والحساسة، ولا يتم ذلك الا عبر برنامج خاص يتم وضعه بالتعاون بين المؤسسة الدينية وأطراف أخرى يمكن ان تنخرط في المساهمة في هذا المشروع وتشمل:
1. المراكز البحثية
2. منظمات المجتمع المدني
3. منظمات عالمية
4. مؤسسات الدولة ذات العلاقة
5. الجامعات والمراكز الثقافية بمختلف مسمياتها
6. وسائل الاعلام
7. الوجهاء والتجار والمثقفين والناشطين وغيرهم
ان تعاون هذه الأطراف في صياغة مشروع تربوي إصلاحي واسع يقوم على خطوات مدروسة في وضع الحلول المناسبة للمشاكل التي يعاني منها المجتمع سيكون، بلا أدنى شك، له مردود إيجابي ويحقق بنجاح جميع الأهداف المرسومة، وكما يشير السيد الشيرازي الى هذه الحقيقة بالقول: "المنبر حكمه حكم الدواء، فكما ان الدواء غالباً يلزم ان يكون مركباً من أجزاء تلائم مرض المريض، كذلك يلزم ان يكون المنبر مركباً من أجزاء بنسب خاصة، تلائم الامراض النفسية والمفاسد الاجتماعية مما يكون الخطيب بصدد علاجها".
كما ويوضح السيد الشيرازي الفرق بين التنظيم والتفكير عند صعود المنبر، وبين الارتجال والبعثرة في الكلام بالقول: "ان التفكير قبل صعود المنبر، يوجب سعة وانشراحاً في المتكلم، مما لا يلجأه احياناً الى الطفرة والبعثرة في الكلام او الى ذكر الكلمات الفارغة، مضافاً الى ذلك ان المنبر الناتج عن التفكير توجيهي بخلاف المنبر الارتجالي، فانه عادي، وقد عرفت سابقاً لزوم كون المنبر توجيهياً، فيما إذا أراد الخطيب الإفادة والتأثير"، فالمنبر القائم على التفكير والتخطيط والتنظيم هو المنبر التربوي التوجيهي الذي ينجح في تحقيق أهدافه التربوية، اما المنبر القائم على التفكير الارتجالي والبعثرة في الكلام والعشوائية في الطرح فهو المنبر العادي الذي لا يحقق الأهداف المرجوة منه فحسب، بل قد ينعكس ما يقدمه سلباً على المنبر التربوي.
اضف تعليق