في أيِّ سياق نضع قضية الإمام الحسين وحركته واستشهاده في كربلاء سنة 61 هجرية؟ هل تتصل هذه القضية بالسياق العام للأمة ومصائرها التاريخية والحضارية؟ أم أنها تندرج في سياقات أخرى ظرفية أو مكانية، سياسية أو اجتماعية، نفسية أو عاطفية، أو غير ذلك من سياقات محدودة...
بقلم: زكي الميلاد
-1-
قضية الحسين.. ومصائر الأمة
في أيِّ سياق نضع قضية الإمام الحسين (عليه السلام) وحركته واستشهاده في كربلاء سنة 61 هجرية؟ هل تتصل هذه القضية بالسياق العام للأمة ومصائرها التاريخية والحضارية؟ أم أنها تندرج في سياقات أخرى ظرفية أو مكانية، سياسية أو اجتماعية، نفسية أو عاطفية، أو غير ذلك من سياقات محدودة، ولا تأثير لها على مصائر الأمة التاريخية والحضارية؟
الملاحظ بصورة عامة أن هذه القضية الكبرى جرى التعامل معها بعيدًا عن السياق العام المتصل بالأمة ومصائرها، فهناك من تعامل معها باعتبارها قضية مأساوية حصلت وخلّفت حزنًا، وتركت ألمًا، وأصابت وجعًا، وعُدَّت من القضايا المأساوية التي مرّت على التاريخ الإسلامي وسُجّلت في أحداث النصف الثاني من القرن الأول الهجري في عصر الدولة الأموية.
وهناك من تعامل معها باعتبارها مجرّد حادثة حصلت في وقتها، وبات الحديث عنها يجري كما يجري مع غيرها من الحوادث التاريخية الأخرى، وتعرف تارة من جهة المكان فيقال لها: حادثة كربلاء، وتارة تعرف من جهة الزمان فتحسب على حوادث سنة 61 هجرية في عهد الحاكم الأموي يزيد بن معاوية، وتارة تعرف من جهة الأشخاص فيقال لها: حادثة مقتل الحسين وأهل بيته، أو مقتل الحسين وأصحابه.
وهناك من تعامل معها باعتبارها قضية سياسية تندرج في إطار النزاع السياسي بين المعارضة والسلطة في تاريخ المسلمين، المعارضة التي رفضت الاعتراف بشرعية السلطة، والسلطة التي جابهت المعارضة باستعمال القوة لفرض الأمر الواقع، فكانت الغلبة لصالح السلطة بعد معركة دامية غير متكافئة لا من ناحية العدد ولا من ناحية العتاد.
والمدهش أن هناك من أهمل هذه القضية وتغافل عنها كليًّا، لدوافع وأسباب ليست واضحة في ظاهرها أو غير منكشفة نتيجة عدم البوح بها صراحة، ما فتح على أصحاب هذا الرأي باب التأويلات القريبة منها والبعيدة، وذلك بسبب غرابة هذا الموقف الذي تعامل مع قضية هي بكل المقاييس التاريخية والإنسانية لا تحتمل الإهمال ولا التغافل، لعظمتها وفداحتها من جهة، ولتأثيراتها وتداعياتها البعيدة والممتدة من جهة أخرى.
ومثل هذا الإهمال والتغافل المستغرب حصل حتى من بعض الكتّاب العرب المسلمين المعاصرين، ومن أولئك الذين كانت لهم كتابات عالجت مسألة المنهج في دراسة التاريخ الإسلامي، نقدًا لبعض المنهجيات المتّبعة، خاصة منهجيات المستشرقين الموصوفة بالتحيّز والتحامل، ومنهجيات تلامذتهم العرب والمسلمين التابعين لهم، وبحثًا عن طريقة أخرى تكون -في نظر هؤلاء- سليمة وقويمة في دراسة وتحليل التاريخ الإسلامي قضاياه وحوادثه.
وفي هذا النطاق يمكن الإشارة لعملين يصلحان أن يكونا شاهدًا تطبيقيًّا على مثل هذا الإهمال والتغافل المستغرب، هما: كتاب الباحث المصري محمد قطب (1919-2014م) الموسوم بعنوان: (كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟) الصادر سنة 1999م، وكتاب الباحث العراقي الدكتور عماد الدين خليل، الموسوم بعنوان: (مدخل إلى التاريخ الإسلامي) الصادر سنة 2005م.
بالنسبة إلى الكتاب الأول، اعتبر قطب كتابه ينصبّ في أمر المنهج الذي على أساسه يُعاد كتابة التاريخ الإسلامي، متتبّعُا في هذا الشأن مراحل التاريخ الإسلامي وأطواره، منذ ظهور الإسلام وممتدًا إلى ما بعد الدولة العثمانية، متوقّفًا عند كل مرحلة تاريخية، مبرزًا فيها ملامحها الأساسية، ومحدّدًا -وفق طريقته- كيف ينبغي إعادة كتابتها من جديد، متخطيًا عيوب المناهج المتّبعة خاصة مناهج المستشرقين وتلامذتهم التابعين، ومتحلّيًا بالمنهج البديل المقترح حسب وجهة نظره.
وأثناء قراءاته وفي مرحلة التدريس، لاحظ قطب أن التاريخ الإسلامي لا يُقدَّم بمنهج صحيح سواء لطلاب العلم أو للقارئ العام، وأن معظم ما يُقرأ في الدراسات الحديثة هو ما قدّمه المستشرقون سواء بطريق مباشر من كتبهم، أم من طريق تلاميذهم من المؤرخين المسلمين، الذين يتلقّون كلام المستشرقين -حسب قوله- كأنه القول الفصل الذي لا يحتمل النقاش.
وغني عن البيان عند قطب أن المستشرقين كانوا أنشط ما يكونون في عملهم التخريبي في مجال التاريخ الإسلامي، لهذا أحس أنه لا بد من إعادة كتابة التاريخ الإسلامي على نسق آخر يغاير ما يقدّمه المستشرقون وتلامذتهم العرب والمسلمون.
وحين اقترب قطب من التاريخ الإسلامي، حدّد التساؤلات التي تشكّل منهجه في إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، وهذه التساؤلات هي:
- على أي أساس نقول: إنه يجب إعادة كتابة التاريخ الإسلامي؟
- ما الهدف من إعادة الكتابة؟ وما العيب فيما هو مكتوب بالفعل؟
- ما نواحي التقصير التي نريد أن نستكملها، أو نواحي الانحراف التي نريد أن نتحاشاها حين نعيد كتابة التاريخ؟[1].
أمام هذه التساؤلات رأى قطب أن هناك عدة ملاحظات في أكثر من اتجاه تجعله يلحّ على ضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، منها ما يتّصل بالمصادر الإسلامية القديمة وما عليها من ملاحظات، ومنها ما يتّصل بالمراجع الحديثة وما فيها من عيوب، ومنها ما يتّصل بالمناهج بصبغة عامة وعيبها الرئيس -في نظره- هو التركيز على التاريخ السياسي للمسلمين على حساب بقية مجالات الحياة الإسلامية الأخرى العقدية والفكرية والحضارية والعلمية والاجتماعية، خاصة وأنه يرى أن التاريخ السياسي للمسلمين هو أسوأ ما في تاريخهم كله.
هذا عن الجانب المنهجي العام، ومن ثم تحوّل قطب إلى الجانب المنهجي الخاص المتعلّق بدراسة مراحل التاريخ الإسلامي وأطواره المتعاقبة، واضعًا ملاحظاته المنهجية، وتنبيهاته التربوية على كل مرحلة من تلك المراحل، وكيف ينبغي في نظره إعادة كتابتها من جديد.
وما أثار الدهشة أن قطبًا تتبّع تلك المراحل وأكمل الحديث عنها، من دون أن يأتي على ذكر الحسين وقضيته وشهادته، أهملها وتغافل عنها حتى عندما اقترب من زمن الحادثة، وتطرّق إلى عصرها وكأنها ليست من الحوادث المهمّة التي يجدر التوقّف عندها، أو ليست من الوقائع المؤثرة التي تتّصل بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي!
وحين توقّف قطب عند فترة الحكم الأموي، رأى أن هناك ثلاثة انحرافات قد حصلت هي:
أولًا: تحوّل الحكم من الخلافة إلى الملك العضوض.
ثانيًا: محاولة إسكات الناس بالقوة عن مراقبة أعمال الحاكم، وصرفهم بالعنف عن أداء واجبهم الإسلامي.
ثالثًا: البحبحة في بيت المال.
هذه الانحرافات الثلاثة فصّل قطب الحديث عنها، من دون أن يتطرّق إلى قضية الحسين لا من قريب ولا من بعيد، مع أنه اقترب منها عند حديثه عن إسكات الناس بالقوة الذي عدّه الانحراف الثاني، مع ذلك تجنّب قطب هذه القضية إهمالًا وتغافلًا، ليس سهوًا ولا جهلًا، وإنما بعلم ودراية.
ويزداد الأمر غرابة ودهشة في إهمال هذه القضية وتغافلها، حين يتحدّث قطب عن المحاذير التي يجب مراعاتها عند إعادة كتابة هذه الفترة، نعني بها فترة الحكم الأموي؛ إذ يرى أن الانحرافات السياسية التي وقعت من بني أمية لم تكن درجتها خطيرة بالقياس إلى الأحداث التي وقعت في ذلك الحين، وكانت تبدو في نظر كثير من الناس مستساغة بالقياس إلى تلك الأحداث، أو على الأقل لها ما يبررها[2].
وحسب هذا الرأي، فإن قضية الحسين وقتله وأهله وأصحابه وهم مَنْ هم، لم تكن درجتها خطيرة!
وتماديًا في هذا الموقف واسترسالًا معه، يرى قطب أن الانحرافات التي أسسها بنو أمية، لم تكن -في وقتها- بادية الخطر؛ لأن حجمها كان ضئيلًا، وكانت الظروف تشكّل ستارًا تختفي وراءه المخالفات.
ويفهم من هذا الرأي كذلك، أن قضية الحسين وقتله وأهله وأصحابه لم تكن في وقتها بادية الخطر! أو أن الظروف آنذاك شكّلت ستارًا حجب ما وراءها!
وجماع القول، أننا نتّفق مع قطب بأن التاريخ الإسلامي بحاجة إلى إعادة كتابة من جديد، لكن هل يحق إهمال قضية الحسين وثورته ونهضته والتغافل عنها في هذه الإعادة! وهل يمكن كتابة التاريخ الإسلامي من دون ذكر الحسين وقضيته العادلة! فالحسين بثورته ونهضته كتب تاريخًا جديدًا للمسلمين، ولا قيمة لتاريخ لا ذكر فيه للحسين.
لقد برهن قطب -مرة أخرى- على أن التاريخ الإسلامي بحاجة إلى إعادة كتابة من جديد، والإعادة التي دعا إليها هي بحاجة إلى إعادة، ومن بعد كتابه ما زال السؤال مطروحًا: كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟
وبالنسبة للكتاب الثاني، كتاب الدكتور عماد الدين خليل الموسوم بعنوان: (مدخل إلى التاريخ الإسلامي)، فقد أراد منه تقديم فصول تعالج التاريخ الإسلامي من خلال رؤية جديدة، متوخيًا البحث عن منهج جديد لفهم التاريخ الإسلامي وإدراك مقوماته الأساسية، طارحًا هندسة جديدة لوقائعه تقوم على معالجة أربعة أركان أساسية في التاريخ الإسلامي، حدّدها في القضايا الآتية:
أولًا: الدولة والسلطة والقيادة.
ثانيًا: الدعوة والانتشار والتعامل مع الآخر.
ثالثًا: التحديات والهجمات المضادّة والعلاقات الدولية.
رابعًا: الحياة الاجتماعية.
لكن اللافت في هذه المحاولة التي توخّت الانطلاق من رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي، أنها تجاهلت كليًّا قضية الحسين وحركته واستشهاده، ولم يتم التطرّق إليها بأية صورة كانت، لا عند الحديث عن فترة الأمويين التي خصّص لها المؤلف فقرة في الفصل الأول الذي ناقش موضوع الدولة والسلطة والقيادة، باعتبار أن الإمام الحسين (عليه السلام) استشهد خلال هذه الفترة.
ولا عند الحديث عن تيار التغيير الذي نال فقرة في الفصل الأول كذلك، أشار فيها الدكتور خليل إلى حركات المعارضة، ورأى أن جذورها تمتد إلى فترة مبكرة من تاريخ الإسلام، ولم تكن واقعة الفتنة -في نظره- إلَّا تعبيرًا بشكل أو بآخر عن الجدل مع السلطة، وقد تبلورت عبر هذه الواقعة -وبخاصة في مراحلها الأخيرة- الملامح الأساسية المبكرة لحركات المعارضة الثورية الأولى في التاريخ الإسلامي[3].
هذه الحركات يقصد بها الدكتور خليل «الخوارج، وتتابعت من بعدها الحركات: الشيعة بأجنحتها المختلفة، وحركة المختار، والحركة الزبيرية، وحركة يزيد بن المهلب، وحركة ابن الأشعث، والحركة العباسية، وحركة المرابطين والموحدين، والتنظيمات الصوفية والحرفية إلى آخره»[4].
وبهذا يكون الدكتور خليل قد اقترب من حركة الحسين لكنه تجاهلها، ولم يأتِ على ذكرها ليس سهوًا ولا نسيانًا بالتأكيد وهو الضالع بالتاريخ الإسلامي تخصّصًا وتأليفًا وتدريسًا، وإنما لأسباب هو أعلم بها، شاء أَلَّا يُفصح عنها، لكنه بهذه الطريقة فتح عليه باب التأويلات القريبة أو البعيدة؛ لأن حدثًا بحجم حركة الحسين وعظمتها وتعاظمها في التاريخ يستحيل على التجاهل، ولا يقبل التغافل بأية حال من الأحوال.
والمحصلة أن الدكتور خليل لا يرى مكانًا لحركة الإمام الحسين (عليه السلام) في مدخله إلى التاريخ الإسلامي، ولا لأهل البيت أئمةً وسيرةً الذين تجاهلهم كليًّا، ولم يأتِ على ذكرهم لا جمعًا بالعنوان العام، ولا فردًا بالعنوان الخاص، سوى الحديث المقتضب عن الإمام علي (عليه السلام) باعتباره واحدًا من خلفاء المسلمين.
وأساسًا، هل يمكن قراءة التاريخ الإسلامي بعيدًا عن حركة الحسين وثورته ونهضته التي رجّت لها الأرض رجًّا؟! فكل قراءة للتاريخ الإسلامي تتجاهل حركة الحسين وتتغافل عنها لأي سبب كان، هي قراءة منقوصة، وقراءة غير صافية، وليسمح لنا الدكتور خليل بالقول: إنها قراءة صمّاء وعمياء.
وكما أكد قطب من قبل بكتابه (كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟)، على بقاء السؤال نفسه، وأنه بدل أن يتخطّاه جاء وثبّته، وجعلنا نتساءل مرة أخرى: كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟ كذلك الحال حصل مع الدكتور خليل الذي أكد لنا بعد كتابه، ضرورة البحث عن مدخل جديد للتاريخ الإسلامي.
نقول هذا الكلام لأننا نرى أن قضية الإمام الحسين (عليه السلام) وثيقة الصلة بالسياق العام للأمة ومصائرها التاريخية والحضارية، ماضيًا وحاضرًا، فلا يصح تجاهلها ولا التغافل عنها، لا بالطريقة التي حصلت مع قطب في كتابه (كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟)، ولا بالطريقة التي حصلت مع الدكتور خليل في كتابه (مدخل إلى التاريخ الإسلامي)، ولا مع غيرهما كذلك.
-2-
معركة صفين.. ودورة الحضارة الإسلامية
قدّم لنا المفكر الجزائري مالك بن نبي (1322-1393هـ/ 1905-1973م) نموذجًا تطبيقيًّا فعّالًا يتّصل بما نروم الوصول إليه والبرهنة عليه، حين ربط معركة صفين بدورة الحضارة الإسلامية وتحولاتها، الحدث الذي امتزج نسقيًّا في تحليلاته الحضارية، وظل حاضرًا لا يغيب عن خطابه الفكري، وبطريقة تلفت الانتباه إليه، واكتسب صفة العلامة الدالة ثقافيًّا، كاشفًا عن حضور التاريخ في منهجه الحضاري.
من بين أحداث التاريخ الإسلامي الكثيرة والكبيرة، الفعّالة والمؤثّرة، توقّف ابن نبي عند معركة صفين التي حصلت سنة 37 هجرية في منطقة قرب الرقة على شاطئ الفرات من جانبه الغربي، وجرت -كما هو معروف- بين جيش الإمام علي (عليه السلام) خليفة المسلمين، وجيش معاوية بن أبي سفيان القادم من الشام، وعُدَّت هذه المعركة من أكثر حوادث التاريخ الإسلامي حضورًا في كتابات ابن نبي، وشكّلت سمة يتفارق بها عن الكتّاب الآخرين.
كشفت هذه الحادثة عن تأملات مستفيضة في كتابات ابن نبي، جعلته يقدّم قراءة متميّزة يكاد يتفرّد بها في دراسته لدورة الحضارة الإسلامية، فقد أخرج هذه الحادثة من إطارها الضيق والمحدود زمنًا ومكانًا، وأعطاها بُعدًا وأفقًا بعيدًا وواسًعا، ناظرًا لها من خلال منهجه في التحليل الحضاري باعتبارها حادثة غيّرت مجرى التاريخ الإسلامي ودورة الحضارة الإسلامية.
وعن علاقته بهذه الحادثة، ذكر ابن نبي أنه تنبّه إليها من طريق صديقه الجزائري محمد بن حمودة بن الساعي (1320-1418هـ/ 1902-1998م) الذي تصاحب معه في فرنسا، وكان من الأشخاص الذين تركوا أثرًا خاصًّا في نفسه، مادحًا ذكاءه وثقافته، وعدَّه أستاذًا في فلسفة الإسلام، قائلًا عنه: «هو الذي كشف لي موقعة صفين المشهورة، وأثار انتباهي لها، وقد منحتها فيما بعد معنى منهجيًّا في دورة الحضارة الإسلامية»[5].
ومع أن هذه الحادثة حضرت في العديد من مؤلفات ابن نبي، إلَّا أن المرجع الأساسي لها يتحدّد في كتابين بارزين هما: كتاب (شروط النهضة) الصادر بالفرنسية في الجزائر سنة 1948م وبالعربية في القاهرة سنة 1957م، وكتاب (وجهة العالم الإسلامي) الصادر بالفرنسية في باريس سنة 1954م وبالعربية في القاهرة سنة 1959م.
في كتاب (شروط النهضة) الذي قدّم فيه ابن نبي التحليل النظري لدورة الحضارة مستندًا لدورة الحضارية الإسلامية، وعند حديثه عن الدورة الخالدة، تطرّق ابن نبي لواقعة صفين، وجاء الحديث عنها من زاويتين، الزاوية الأولى تتّصل بدورة التاريخ بصورة عامة، والزاوية الثانية تتّصل بدورة الحضارة الإسلامية ومراحلها.
بشأن الزاوية الأولى، يرى ابن نبي أن للتاريخ دورة وتسلسلًا، فهو تارة يسجّل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، وتارة أخرى يلقي عليها دثارها ليُسلمها إلى نوم عميق، وأخذًا بهذه الملاحظة يتحتّم علينا -في نظر ابن نبي- أن ننظر إلى مكاننا من دورة التاريخ، وندرك أوضاعنا وما يعتورنا من عوامل الانحطاط وما ننطوي عليه من أسباب التقدّم، فإذا حدّدنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا.
يريد ابن نبي من هذا التمهيد أن يؤكّد ضرورة الكشف عن النقطة التي نبدأ منها تاريخنا، وكيف أننا نجهل هذه النقطة، ومن هنا تبدأ الكارثة، وحسب قوله: «لعل أعظم زيغنا وتنكّبنا عن طريق التاريخ، أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يُسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية، ومن هنا تبدأ الكارثة، ويخرج قطارنا عن طريقة حيث يسير خبط عشواء، ولا عجب فإن كوارث التاريخ التي تحيد بالشعب عن طريقه ليست بشاذّة»[6].
ومثل هذه الكارثة -في تصوّر ابن نبي- أصابت العالم الإسلامي، وتحدّدت عنده في واقعة صفين، شارحًا رأيه قائلًا: «ونحن نجد مثلها في الكارثة التي أصابت العالم الإسلامي في واقعة صفين، فأخرجته من جو المدينة الذي كان مشحونًا بهدي الروح وبواعث التقدّم، إلى جو دمشق حيث تجمّعت مظاهر الترف وفتور الإيمان»[7].
وبشأن الزاوية الثانية، وعند حديثه عن مراحل الحضارة الإسلامية، يرى ابن نبي أن المرحلة الأولى ابتدأت من غار حراء إلى صفين، ويعدّها المرحلة الرئيسية التي تركّبت فيها عناصرها الجوهرية، وكانت دينية بحتة تسودها الروح، وظلّت روح المؤمن هي العامل النفسي الرئيسي فيها، من ليلة حراء ووصلت إلى القمة الروحية للحضارة الإسلامية مع واقعة صفين[8].
ومن شدة وثوق ابن نبي بهذا الرأي، تساءل متعجبًا: «لماذا لم يتنبّه المؤرخون إلى هذه الواقعة التي حوّلت مجرى التاريخ الإسلامي؛ إذ أخرجت الحضارة الإسلامية إلى طور القيصرية الذي يسوده عامل العقل، وتزيّنه الأبّهة والعظمة، في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بوادر الفتور الدالة على أفول الروح»[9].
ومما لا شك فيه -في نظر ابن نبي- أن الحضارة الإسلامية قد خرجت من عمق النفوس كقوة دافعة، تتوسّع وتنتشر فوق الأرض، تتغلّب أولًا على جاذبيتها بما تبقى لديها من مخزون روحي، حتى إذا ما وهنت فيها قوى الروح وجدناها تخلد إلى الأرض شيئًا فشيئًا، مقرّرًا -على ضوء ذلك- أن المدنيات الإنسانية حلقات متّصلة تتشابه أطوارها مع أطوار المدنية الإسلامية والمسيحية، إذ تبدأ الحلقة الأولى بظهور فكرة دينية، ثم يبدأ أفولها بتغلّب جاذبية الأرض عليها بعد أن تفقد الروح ثم العقل[10].
أما كتاب (وجهة العالم الإسلامي) الذي قدّم فيه ابن نبي التحليل التاريخي لدورة الحضارة الإسلامية بالتركيز على مرحلة التراجع والتقهقر، فعند حديثه عن الظاهرة الدورية لانهيار المدنيات والحضارات، تطرّق ابن نبي لواقعة صفين وهو يتأمّل الأسباب البعيدة التي حتّمت تقهقر العالم الإسلامي وانحطاطه، وجاء الحديث عن هذه الواقعة من زاويتين، الزاوية الأولى تتّصل بضرورة إدراك نقطة الانكسار في منحنى التطوّر التاريخي للحضارة الإسلامية، والزاوية الثانية تتّصل بتداعيات هذا الانكسار وآثاره.
بشأن الزاوية الأولى، يرى ابن نبي أن ما يهمنا في المقام الأول ضرورة تأمّل الأسباب البعيدة التي حتّمت تقهقر العالم الإسلامي وانحطاطه، وفي نظره أن أول انفصال حصل لهذا العالم في تاريخه كان في معركة صفين، ولماذا في معركة صفين؟ يجيب ابن نبي: إذ كانت حميّة الجاهلية تصطرع مع الروح القرآني، ومنذ ذلك الانفصال فقد العالم الإسلامي توازنه الأولي... وهي اللحظة التي مثّلت نقطة الانكسار في منحنى التطوّر التاريخي، وعدّها ابن نبي لحظة انقلاب القيم داخل حضارة معينة[11].
وبشأن الزاوية الثانية، يرى ابن نبي أن لحظة الانكسار التي حصلت بعد معركة صفين، كانت لها تداعيات وآثار على الصعيدين السياسي والقيمي خاصة، فعلى الصعيد السياسي رأى ابن نبي أن ما حدث في صفين أحلَّ السلطة العصبية محلَّ الحكومة الديمقراطية الخليفية، فخلق بذلك هوّة بين الدولة وبين الضمير الشعبي، محتويًا في داخله جميع أنواع التمزّق، والمناقضات السياسية في قلب العالم الإسلامي[12].
وعلى الصعيد القيمي، وعند حديثه عن التخلّف بين الضمير والعلم، رأى ابن نبي أن هذا التخلّف هو السبب المباشر في الانفصال الذي حدث في العالم الإسلامي في صفين، فنتج عنه انفصال بين أولئك الذين تمثّلوا الفكر القرآني الجديد، وأولئك الذين استعبدتهم حميّة الجاهلية وأفكارها الاجتماعية، وشرائط الحياة التي جاء القرآن ليمحوها محوًا من طبائع الناس[13].
وبهذا يكون ابن نبي بمنهجه الحضاري قد أخرج حادثة صفين من إطارها الضيق والمحدود الذي يُعطى لها في كتب التاريخ قديمًا وحديثًا بوصفها حدثًا سياسيًّا وعسكريًّا، ووضعها ضمن إطار عام وواسع يتّصل منهجيًّا بدورة الحضارة الإسلامية وتحوّلاتها، ناظرًا لهذا الحدث باعتباره نقطة الانكسار في منحنى التطوّر التاريخي لدورة الحضارة الإسلامية، ويعني به لحظة أفول الروح، مقدّمًا لنا نموذجًا تطبيقيًّا لربط واقعة حصلت في العقد الرابع من تاريخ الإسلام، بما آلت إليه الأمة في مصائرها التاريخية والحضارية.
-3-
من صفين إلى كربلاء.. ومنهج التحليل الحضاري
اعتنى مالك بن نبي بحادثة صفين وكتب عنها، وأدمجها في نسق تحليلاته الحضارية لدورة الحضارة الإسلامية؛ لأنه التفت لها، ووجد من أثار انتباهه إليها، لكنه لم يلتفت إلى حادثة كربلاء، ولم يجد من يثير انتباهه إليها، وهي الحادثة العظيمة التي لا يكاد يكون لها ذكر في مؤلفاته، فغابت عن تحليلاته الحضارية لدورة الحضارة الإسلامية، ولا يخلو هذا الأمر من تقصير يسجّل عليه؛ لأن من يلتفت بهذه الدرجة كمًّا وكيفًا لحادثة صفين، يفترض منه الاقتراب لحادثة كربلاء والتنبُّه لها، وهذا ما لم يحدث عند ابن نبي.
وإذا كان لصفين هذا الأثر البارز في دورة الحضارة الإسلامية وتحوّلاتها، فلا بد أن يكون لكربلاء مثل هذا الأثر؛ نظرًا لما بينهما من علاقة تاريخية ثابتة تؤكّد الاتصال من جهة، وترفع الانفصال من جهة أخرى.
وعند النظر في هذه العلاقة يمكن الكشف عن الأبعاد والحقائق الآتية:
أولًا: أن حادثة صفين بالمآلات التي انتهت إليها هي التي أنجبت حادثة كربلاء، ولو لم تحدث معركة صفين أو كانت خاتمتها غير الخاتمة التي آلت إليها لما حصلت معركة كربلاء، ولكانت الأحداث التي أعقبتها لها مجرى آخر غير المجرى الذي حدث.
العلاقة بين هاتين الحادثتين صفين وكربلاء، لم تكن بذلك الغموض أو الإبهام الذي يصعب تخيُّله أو التنبُّه له عند المؤرخين أو الباحثين في حقل التاريخ الإسلامي، وقد التفت لهذه العلاقة من المعاصرين الكاتب المصري خالد محمد خالد، وأشار إليها بصورتين، الصورة الأولى لها طابع التحليل، والصورة الثانية لها طابع السرد.
بشأن الصورة الأولى، يرى خالد أن كربلاء لم تكن «ملحمة ذات فصل واحد، بدأ وانتهى يوم العاشر من المحرم، بل كانت ذات فصول كثيرة، بدأت قبل كربلاء بسنوات طوال واستمرت بعد كربلاء دهرًا طويلًا. أجل، لقد بدأت ملحمة كربلاء ومأساتها، يوم تمّت خدعة التحكيم، وحين وقع التمرّد الرهيب، والفتنة في صفوف أتباع الإمام، ثم حين خلا الجو لراية الأمويين داخل الشام، وخارج الشام»[14].
وبشأن الصورة الثانية، وتأكيدًا لكلامه نقل خالد محمد خالد الواقعة السردية التالية: «ولكأنما كان الإمام علي يرى ببصيرته الثاقبة كل ذلك المصير، فذات يوم أثناء مسيره مع جيشه إلى صفين بلغ به السير هذه الرقعة من الأرض، فتمهّل في سيره ثم وقف يتملّى مشهد الفضاء الرهيب، وسالت عبراته من مآقيه، واقترب منه أصاحبه صامتين واجمين، لا يدرون ماذا أسال من مقلتي الأسد الدموع!
ثم سألهم ويمناه ممتدة صوب تلك الأرض التي تعلّقت بها عيناه:
ما اسم هذا المكان؟
قالوا: كربلاء.
قال: هنا محط رحالهم ومهراق دمائهم»[15].
وفي تعقيبه على هذه الواقعة قال خالد: «ترى من كان يعني، ومن كان ينعى؟ أكان يعني قرة عينه الحسين ومن معه من إخوة له وأبناء؟ أكان يعنى أولئك الأبطال الذين ستشهد هذه الأرض ذاتها استشهادهم الرهيب والمهيب بعد عشرين عامًا لا غير من هذه النبوءة الصادقة؟
ربما، وربما لم يكن إلهامه، ولم تكن بصيرته يومئذٍ معلّقين بواحد بذاته من أهل بيته المباركين. فهو على أية حال يدرك أن المعركة التي بدأها من أجل الحق لن تنتهى. ويدرك أنه لن يصبر أحد من بعده على لأوائها وضراوتها مثلما سيصبر أبناؤه الذين ورثوا البطولة كابرًا عن كابر! وحين يحتدم في البصائر النقية ولاؤها لحق مقدّس، أو لمبدأ جليل، فإن هذا الاحتدام يتلقّى في لحظة إشراق روحي مددًا من الرؤية غير منظور، يكشف الغيب، ويجذب إلى دائرة الاستشراف أحداث الزمن البعيد. ولعل شيئًا كهذا، حدث ذلك اليوم، فرأى الإمام التقي النقي بلاء أبنائه وحفدته، رأى بلاءهم العظيم في سبيل القضية التي حمل لواءها، ورأى محطّ رحالهم، ومهراق دمائهم»[16].
وهذا يعني أن صورة صفين الحادثة والمعركة، الأثر والتداعيات، لا تكتمل من دون الوصول إلى حادثة كربلاء والربط التاريخي والروحي بينهما، كما أن صورة كربلاء الحادثة والمعركة، الأسباب والدواعي، لا تكتمل كذلك من دون العودة إلى حادثة صفين والربط بينهما تاريخيًّا وروحيًّا، الأمر الذي يعني أن رؤية مالك بن نبي حول صفين لا تعدّ مكتملة لغياب حادثة كربلاء عنها.
ثانيًا: على أثر الانكسار الذي أصاب الأمة بعد معركة صفين، وأفول مرحلة الروح -حسب نظرية ابن نبي لدورة الحضارة الإسلامية- جاء الإمام الحسين (عليه السلام) ومثل أول مصلح في تاريخ الإسلام، أو الثائر الأول في الإسلام حسب عنوان كتاب الكاتب المصري محمد عبدالباقي سرور، حين حمل راية الإصلاح، مطلقًا نداءه الإصلاحي الشهير، معرّفًا عن نهضته الإصلاحية في الأمة قائلًا: «إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين»[17].
والغريب في الأمر أن ابن نبي حين التفت لما بعد صفين، مع أنه ما كان بصدد مناقشة هذه القضية، إلَّا أنه رأى أن الطاغية المستبد قد ظهر من جديد في شخص الحاكم، لكن العبد لم يظهر بعد آنذاك في شخص المحكوم ما دام متمسّكًا بالروح الإسلامي، كما يدل على ذلك -في نظر ابن نبي- تفاصيل كثيرة خاصة بتلك الفترة.
ومن بين هذه التفاصيل الدالة -في نظر ابن نبي- الحوار الموصوف عنده بالغريب الذي جرى بين أبي ذر الغفاري ومعاوية بن أبي سفيان «عندما كان هذا الأخير قائمًا ببناء قصر الخضراء بدمشق، فكان الصحابي المشهور يؤنّب الخليفة تأنيبًا شديدًا، فيقول له بهذه المناسبة: فإما أنك تبني هذا القصر بأموال المسلمين من دون حق لك فيها، وإما أن تبنيه من مالك وهو تبذير»[18].
وقد عقّب ابن نبي على هذا المثال قائلًا: «فهذه الرقابة التي يفرضها الضمير الإسلامي على أعمال الحكم قد استمر أثرها في التاريخ الإسلامي، حتى بعد التقهقر الذي أشرنا إليه... على أنها الصدى لاحتجاج الضمير الإسلامي ضد الاستبداد»[19].
إذا كان هذا المثال دال -في نظر ابن نبي- على بقاء الضمير الإسلامي واستمراريته بعد صفين وأفول مرحلة الروح، فإن هذا المثال لا شك ولا ريب لا يقارن بحركة الإمام الحسين التي مثّلت صميم الضمير الإسلامي في أعلى درجاته وأصفى صوره في وجه الظلم والاستبداد والانحراف، كما مثّلت لحظة تاريخية فارقة لانبثاق الروح في الأمة لوقف التقهقر والانحدار التاريخي والحضاري لدورة الحضارة الإسلامية.
عدم الالتفات لهذا الأمر، تسبّب في تغييب نهضة الإمام الحسين عن نسق التحليلات الحضارية لدورة الحضارة الإسلامية وتحوّلاتها، النهضة التي ما كان يفترض أن تغيب أو تُغيَّب عن أنساق التحليلات الحضارية لواقع الأمة وتحوّلاتها التاريخية، لكونها مثّلت أول نهضة رفعت شعار الإصلاح في تاريخ الإسلام مع مطلع العقد السابع من التاريخ الهجري، والنهضة الأولى تتفرّد عادة بسيرة خاصة، وتتّجه إليها الأنظار باهتمام، وتكون في دائرة الضوء، ولا تغيب عن الذاكرة التاريخية.
ويتأكد الاهتمام بهذه النهضة ويتفرّد، لكون أن زعيمها لم يكن شخصًا عاديًّا بكل المقاييس، ولا يقارن بأيِّ أحد في عصره نسبًا وشرفًا وفضلًا، يكفي أنه سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيّد شباب أهل الجنة، إنه الحسين بن علي الإمام ابن الإمام وأبو الأئمة، سليل العترة الطاهرة، فالنهضة التي تُنسب إلى شخص مثل الإمام الحسين هي نهضة تتمايز عن باقي النهضات الأخرى وتتفاضل عليها، كما يتفاضل الحسين على غيره من البشر.
لكن الخطأ التاريخي الفادح الذي حصل من بعض قديمًا وحديثًا، أنهم سلبوا صفة النهضة والإصلاح عن حركة الإمام الحسين، وتعاملوا معها بعناوين أخرى، مغلّبين عنوان الخروج، قائلين عنها: خروج الحسين، ومؤرخين لها بهذه الصفة، فهي عند هؤلاء مجرّد خروج سياسي كانت نهايته معركة تحولّت إلى فاجعة ومأساة.
الشاهد أن الذين سلبوا صفة النهضة والإصلاح عن حركة الإمام الحسين، قد أخرجوا هذه الحركة العظيمة قاصدين أو غير قاصدين، عن نسق التحليلات الحضارية لدورة الحضارة الإسلامية، ولتحوّلات الأمة ومصائرها التاريخية والحضارية، وهذا ما ينبغي أن يصحّح!
ثالثا: بعد معركة صفين ونتيجة الانكسار الذي حصل تغيّر مجرى التحوّلات في الحضارة الإسلامية، ولعل من أفدح هذه التحوّلات وأغربها كذلك، أن أصبح رجلًا مثل يزيد بن معاوية خليفة على المسلمين، وفي قمّة هرم الحضارة الإسلامية، الآمر والناهي في كل الشؤون العامة للمسلمين سياسيًّا ودينيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، وهكذا في باقي الشؤون الأخرى.
وتتأكد فداحة هذا التحوّل وغرابته أنه حصل في وقت مبكّر من تاريخ الحضارة الإسلامية، وتحديدًا سنة 60 هجرية، فبعد أقل من نصف قرن على وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يتولّى إمارة المسلمين يزيد بن معاوية.
الرجل الذي لا يصلح -في نظر الشيخ محمد الغزالي (1335-1416هـ/1917-1996م)- أن يتولى أمر مدرسة ابتدائية، وإذا به يصبح خليفة على المسلمين، ونص كلامه: «ويزيد بن معاوية شاب خليع، لا يصلح أن يلي أمر مدرسة ابتدائية، بله أن يقف على منبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)»[20].
كيف نتخيّل هذا التحوّل؟ وكيف نتعقّله في المقاييس والمعايير الحضارية؟
الأمة التي جاهد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل الأنبياء وخاتم الرسل وأشرف الخلق، على تكوينها وبناء لبناتها، وكافح وكابد وصبر وتعب خلال ما يزيد على عقدين من الزمان، والتي قال عنها القرآن الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ}[21]، هذه الأمة يكون مآلها أن يصبح يزيد بن معاوية خليفة عليها، وهو من هو! وقال عنه المؤرخون والمحدثون قديمًا وحديثًا ما قلوا، وباتت سيرته معروفة للجميع.
لا شك أن هذا التحوّل في المقاييس والمعايير الحضارية يمثّل انحدارًا وانحطاطًا خطيرًا ومزريًا، ويصوّر كيف تغيّر مجرى الحضارة الإسلامية، وكيف انحرفت كل هذا الانحراف على مستوى القمة، الانحراف الذي كان ظاهرًا وبيّنًا لا يخفى على أحد، ولا يكتنفه الغموض والإبهام، ومن الصعب التستُّر عليه، أو المحاججة فيه.
مع ذلك فقد غابت هذه القضية عن نسق التحليلات الحضارية عند مالك بن نبي لدورة الحضارة الإسلامية ما بعد حادثة صفين، ولم تُعرف وجهة نظره بهذا الشأن، الغياب الذي يمكن تفسيره إما بعدم الالتفات، وإما لعدم وجود من يُنبِّهه لهذا الأمر كما حصل معه في حادثة صفين.
في الدراسات الحضارية اقترب من هذه القضية الخبير الاقتصادي الباكستاني الدكتور محمد عمر شابرا، حين تساءل عن العوامل المسؤولة عن انحطاط المسلمين، لكنه ربط القضية بالجانب السياسي، وتحديدًا بمسألة الشرعية السياسية، متسائلًا: هل كانت بداية عدم الشرعية السياسية هي التي أطلقت الانحطاط؟
وأجاب الدكتور شابرا قائلًا: «يرى ابن خلدون وعدد من العلماء المسلمين التقليديين، قبله وبعده، أن التاريخ الإسلامي انحرف عندما انتهت الخلافة الراشدة بتولية معاوية في عام 41هـ/ 661م، وتوريث الخلافة لابنه يزيد في عام 60هـ/ 679م وتأسيس الدولة الأموية (41-132هـ/ 663-750م)، هذا التطوّر زرع بذور اللاشرعية السياسية، وولد الملكية الوراثية ذات السلطة المطلقة، التي لا تخضع للمحاسبة الكافية، وفي ذلك خرق فادح للضرورة الأخلاقية للخلافة والشورى، أو النظام السياسي المثالي الذي دعا الإسلام المسلمين إلى التزامه... ونتيجة ذلك فقد سجّل التاريخ الإسلامي أن يزيد بن معاوية كان واحدًا ممن يكرههم الناس أشد الكراهية»[22].
لكننا نرى أن هذه القضية هي أفدح وأشمل من حصرها في الجانب السياسي، وتتّصل في جوهرها وعمقها بالانحطاط الحضاري، وذلك عند إعمال وتطبيق المنظور الحضاري في مقاربة هذه القضية، لكنه المنظور الذي جرى الابتعاد عنه، أو عدم الالتفات له، مع أنه المنظور الأصوب في تفسير هذه القضية، وتكوين المعرفة بها.
رابعًا: في حادثة كربلاء التي جاءت بعد حادثة صفين، أطلق فيها الإمام الحسين (عليه السلام) باستشهاده أعظم روح هزَّ وجدان الأمة، الروح الذي بقي متوهّجًا ومتموّجًا بلا توقّف أو انقطاع من سنة 61 هجرية إلى اليوم، وسيظل بهذا الحال إلى الغد وما بعد الغد، عابرًا بين الأزمان والأيام والأجيال، في سابقة نادرًا ما تحصل في تاريخ الأمم والمجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية.
هذه الحقيقة الناصعة جرى التعبير عنها عند المعاصرين بصور متعدّدة، فقد التفت لها الأديب المصري عباس محمود العقاد (1306-1383هـ/ 1899-1964م) وعبّر عنها قائلًا: إن الحسين في كربلاء «مثّل للناس في حلّة من النور تخشع لها الأبصار، وباء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الإنسان غير مستثنى منهم عربي ولا أعجمي وقديم ولا حديث، فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدّة وقدوة وذكرة، وحسبه أنه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين»[23].
وعبّر عن هذه الحقيقة بصورة أخرى العالم الأزهري الشيخ محمد أبو زهرة (1315-1394هـ/ 1898-1974م) قائلًا: «لقد كان مقتل الحسين بعد ابتزاز الخلافة الإسلامية أمرًا خطيرًا نكأ قلوب المسلمين، وأصبح كل مؤمن يحسّ بأن قلبه قد جرح جرحًا بليغًا، بتلك الفعلة الفاجرة التي أخذت فيها ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبايا أو كالسبايا... ولقد استمر مقتل الحسين إلى اليوم تاركًا ندوبًا في قلب كل مؤمن»[24].
وهكذا تتعدّد صور التعبير عن هذا الروح وتتواتر عند المعاصرين، وهناك الكثير من النصوص الدالة على ذلك، وكان من أثر هذا الروح أن عجّل بنهاية الدولة الأموية التي انقلبت صورتها في التاريخ بعد استشهاد الإمام الحسين، وقد عبّر عن هذا الرأي أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور حسين مؤنس (1329-1416هـ/ 1911-1996م) قائلًا: «فلا شك في أن الدولة الأموية انتهت يوم استشهد الحسين في سهل كربلاء في العاشر من المحرم سنة 61 هجرية»[25].
هذا الروح المتوهّج والمتعاظم على مدى الدهور والأيام، لو التفت له مالك بن نبي لوجد فيه كشفًا مهمًّا وثريًّا في تحليلاته الحضارية لدورة الحضارة الإسلامية، ويكفي أن يعلم ابن نبي أن هذا الروح هو الذي أيقظ ضمير أعظم المصلحين في التاريخ الإسلامي، ومنهم في العصر الحديث السيد جمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ/ 1838-1897م)، الذي عدّه ابن نبي باعث الحركة الإصلاحية ورائدها، وبطلها الأسطوري في العصر الحديث.
ويتأكّد هذا المعنى، في تقريب المطابقة بين ما أشار إليه ابن نبي عن الدور الذي أحدثه الأفغاني في الأمة، وبين ما أحدثه الإمام الحسين في الأمة، فعند حديثه عن الأفغاني قال ابن نبي: «ففي هدأة الليل، وفي سبات الأمة الإسلامية العميق، انبعث صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حي على الفلاح، فكان رجعه في كل مكان، إنه صوت جمال الدين الأفغاني موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة، ويوم جديد. وهكذا كانت كلمة جمال الدين، فقد شقّت كالمحراث في الجموع النائمة طريقها فأحيت مواتها، ثم ألقت وراءها بذورًا لفكرة بسيطة: فكرة النهوض، فسرعان ما آتت أكلها في الضمير الإسلامي ضعفين وأصبحت قوية فعّالة، بل غيّرت ما بأنفس الناس من تقاليد، وبعثتهم إلى أسلوب في الحياة جديد»[26].
هذا القول يطابق تمامًا ما نهض به الإمام الحسين وما أحدثه من أثر في الأمة، وما الأفغاني إلَّا ثمرة من هذا الأثر الذي حفّز المصلحين على الإقدام في طريق النهضة والإصلاح طلبًا للحق، وتوقًا للعدالة، وعشقًا للحرية، ورفضًا للظلم، ونكرانًا للانحراف، وكما قال الشيخ عبدالله العلايلي (1914-1996م) عن الحسين: «ففي روح كل مصلح بدوات من روحك، وفي ضمير كل مجاهد قبس من ضيائك»[27].
لهذه الحقائق وغيرها، يتأكَّد أن حركة الإمام الحسين ونهضته هي في صلب منهج التحليل الحضاري المعني بدراسة مصائر الأمة، والكاشف عن المآلات التي وصلت إليها.
اضف تعليق