التحدي الذي يواجه صانعي السياسات الغربية، كما يشير هانتنغتون، هو التأكد من ديمومة الغرب قوة متقدّمة وقادرة على مواجهة القوى الأخرى، والإسلام على وجه الخصوص. ولكن المشكلة هنا أن فرضية هانتنغتون التي يعرض فيها وجهة نظره، ويقدمها نظرةً شاملة لجميع الارتباطات الدولية المعلنة ومعها تلكم الولاءات...
بقلم: إدوارد سعيد/ترجمة وتعليق: حسين منصور الشيخ
شعارات، مثل: (الإسلام والغرب)، تضلّل وتربك العقل الذي يحاول أن يُدرك ويتفهّم ما يراه من واقع غير مستقر
نظرية «صراع الحضارات» هي نظرية لتبرير الاعتزاز بالذات أكثر منها أن تكون فهمًا نقديًّا لتداخل العلاقات في عصرنا الحاضر
مقالة صامويل هانتنغتون (Samuel Huntington): «صراع الحضارات» التي نُشرَت في عدد مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs) صيف 1993 سرعان ما جذبت إليها قدرًا كبيرًا من الاهتمام وردود الأفعال. ونظرًا لأن الغرض من المقالة كان تزويد الأمريكيين بأطروحة تأسيسية لـ«مرحلة جديدة» في السياسة العالمية بعد انتهاء الحرب الباردة، بدت عبارات وحجج هانتنغتون مقنعة إلى حد كبير، وجريئة، وواعدة أيضًا.
وقد كان واضحًا جدًّا أن عينه، في طرحه لفكرة المقالة، كانت على منافسيه من الطبقة السياسية من صنّاع ومنظرين، أمثال فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) وما حواه كتابه «نهاية التاريخ» من أفكار، فضلاً عن أولئكم الحشد من المحتفلين بظهور فكرة العولمة، والقبائلية أو العشائرية (Tribalism)[1]، وفلسفة تبديد الدولة (The Dissipation of the State)[2]. ويبدو أن هانتنغتون ومعه مؤيدوه قد فهموا جوانب محدّدة فقط حول هذه الفترة الجديدة. وكان في مقالته تلك على وشك أن يعلن عن «الاتجاه المصيري والأكثر مركزية» ممَّا «يمكن أن يكون من المرجح هو السياسة العالمية في السنوات المقبلة».
من محدّدات نظرية «صراع الحضارات»
ولا يتردّد هانتنغتون في التصريح بأنّ: «مما تفرضه نظرية (صراع الحضارات) أن منشأ الصراع في هذا العالم الجديد لن يكون أيديولوجيًّا أو اقتصاديًّا في المقام الأول، وإنما سيكون الجانب الثقافي هو العامل الرئيس لانقسامات ونزاعات كبيرة بين مختلف المجتمعات البشرية. وهذا لا يعني [من ناحية أخرى] أفول نفوذ الدول القومية، بل ستبقى جهات فاعلة وذات نفوذ بارز على مستوى الشؤون العالمية، ولكن النزاعات الرئيسة في السياسات العالمية ستحدث بين أمم ومجموعات من مختلف الحضارات. ولذلك سيكون صراع الحضارات هو المهيمن على السياسة العالمية، وإن خطوط التماسّ بين الحضارات ستكون هي خطوط النزاعات مستقبلاً».
ويسوق هانتنغتون، في صفحات تالية، أكثر من دليل يعتمد فيه على فكرة غامضة هي ما يسميها «الهوية الحضارية» و«التفاعلات بين سبع أو ثماني حضارات كبرى» تتصارع فيما بينها، نال الصراع بين الحضارتين الإسلامية والغربية نصيب الأسد من بينها جميعًا. وفي هذا النوع من الصراع الفكري، يعتمد هانتنغتون بشكل كبير على مقالة نشرت للمستشرق المخضرم برنارد لويس سنة 1990، وهي مقالة ذات انتماء أيديولوجي واضح للعيان من خلال عنوانها: «جذور غضب المسلم». وفي كلتا المقالتين، هناك تجسيد لكيانات ضخمة سُميت دون أي نوعٍ من التروّي «الغرب» و«الإسلام»، كما لو أن المسائل بالغة التعقيد، مثل الهوية والثقافة، مجسَّدة في عالم الرسوم المتحرّكة، يدخل فيه (باباي) و(بلوتو) (Popeye and Bluto)[3] في عراك مستمرّ بلا هوادة، يكون لأحدهما في نهاية المطاف اليد العليا على خصمه في حلبات الملاكمة الفاضلة. مع الجزم بعدم إيلاء المفكِّرَين هانتنغتون ولويس أهميةً لفحص الديناميات الداخلية لكل حضارة، مدّة زمنيّة طويلة، أو لفحص تلكم الصراعات الكبرى بين معظم الثقافات الحديثة بناءً على تعريف أو تفسير كل ثقافة. إنه تنفير مقصود قائم على قدر كبير من الغوغائية والجهل الفاضح من أجل الحديث عن الدين والحضارة بهذه العمومية الكبيرة. وهو أمر لا يمكن قبوله، ذلك أن الغرب يظل هو الغرب، والإسلام هو الإسلام، ولكل منهما محدّداته.
التأكيد على تفوّق الحضارة الغربية
إنّ التحدي الذي يواجه صانعي السياسات الغربية، كما يشير هانتنغتون، هو التأكد من ديمومة الغرب قوة متقدّمة وقادرة على مواجهة القوى الأخرى، والإسلام على وجه الخصوص. ولكن المشكلة هنا أن فرضية هانتنغتون التي يعرض فيها وجهة نظره، ويقدمها نظرةً شاملة لجميع الارتباطات الدولية المعلنة ومعها تلكم الولاءات الخفية غير المعلنة، بأنها هي النظرية الصحيحة، ويصور المسألة كما لو أن الآخرين ينطلقون بحثًا عن إجابات كان قد وجدها هو، وأنها لديه بالفعل.
ما هو مؤكّد أن هانتنغتون شخصية أيديولوجية يريد أن يصور «الحضارات» و«الهويات» على غير ما هي عليه: إنه يتحدّث عن كيانات تناوبت عليها العديد من التيارات والتيارات المضادّة. كانت تبعث، من خلال تعدديتها، الحياةَ في مجتمعاتها البشرية. وهي لم تستوعب على مدى قرون من تاريخها الحروب الدينية والإمبريالية الغازية وحسب، وإنما كان ذلكم التنوُّع سبيلاً من سبل التبادل والتلاقح وتقاسم المجتمع فكريًّا وحضاريًّا. ولكنه يتجاهل كل هذا التاريخ الناصع ويجعله بصورة أقل وضوحًا، ليكون الاندفاع أكثر نحو تسليط الضوء على الحروب، مشدودًا بسخافةٍ وضيق أفقٍ في التحليل في دعواه بأن «صراع الحضارات» هو الواقع وحسب. وتأكيدًا على أيديولوجيته، أنه عندما نشر كتابه بالعنوان نفسه عام 1996، كان كل ما فعله هانتنغتون هو محاولته رفع مستوى الدقة قليلاً فيما ساقه من الحجج والأدلة وإضافة العديد من الهوامش؛ ومع ذلك، فإن كل ما فعله أربك به نفسه وأثبت أنه كاتب أخرق ومفكر لا يمتلك الأناقة فيما يكتب.
لقد ظلت فكرة (الغرب مقابل البقية) النموذج الأساس الذي لا يُمسّ، إذ تعدّ تعبيرًا آخر يقابل نموذج الحرب الباردة، فهي استمرار لها على نحو من الخبث والدهاء غير المصرّح بهما، في الأعمّ الأغلب. وبخاصّة مع أي سجال بعد أحداث 11 سبتمبر الرهيبة. لقد حولّ الهجوم الانتحاري -الذي كان بدافع مَرَضي، وأدَّى إلى جريمة بشعة ذهب ضحيتها مجموعة كبيرة من الأبرياء من قبل مجموعة صغيرة متشدّدة وخطرة- نظرية هانتنغتون إلى حقيقة مثبتة. فبدلاً من رؤية الأمور على ما هي عليه –بحيث لا تستنتج الأفكار الكبيرة (وأنا هنا أستعمل الكلمة تجاوزًا في التعبير)[4] من خلال سلوك عصابة صغيرة من المتعصبين المختلّين عقليًّا نفذوا عملهم لأغراض إجرامية-، يقوم نخبة من قادة العمل السياسي الدولي بدءًا من رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة بينظير بوتو[5] وليس انتهاءً برئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني الذي بدا وكأنه يقدّم عِظة عن المعاناة التي لحقت بالعالم الغربي بسبب الإسلام، حيث استعمل الأخير أفكار هانتنغتون حول التفوّق الغربي للتشدق بها، وكيف أن «الغرب» لديهم (موزارت) و(مايكل أنجلو) فيما لا يملك الآخرون أولئكم النماذج من المبدعين (قدّم برلسكوني بعد ذلك اعتذارًا فاترًا لا يوازي حجم الإهانة التي وجّهها لـ«الإسلام»)[6].
التعاطي الغربي مع الشأن الإسلامي
وما يلفت الانتباه أننا لا نرى نظيرًا لمعاملة أسامة بن لادن وأتباعه من المسلمين، التي هي باعتراف الجميع أقل ضررًا في قدرتها التخريبية، مع ما يقوم به الآخرون من الطوائف الأخرى، من قبيل: فرع الداوودية (Branch Davidians)[7] أو تلاميذ القس جيم جونز (Rev. Jim Jones) في غيانا[8] أو حركة أوم شنريكيو اليابانية (Aum Shinrikyo)[9]. وما يؤسف عليه أن الإيكونومست (The Economist) المجلة البريطانية الرصينة لم تقاوم في تغطيتها للأحداث، في عددها الصادر في 22-28 سبتمبر، فكرة التعميم تلك، إذ بالغت في إشادتها بملاحظات هانتنغتون القاسية والشمولية مع ما فيها من حياد عن الجادةّ في تناولها للإسلام. وشاركتها في ذلك مجلة «اليوم» (Today) الأمريكية، في إشادة غير موفَّقة بما ذكره: «هانتنغتون من إشارة إلى أن (في العالم نحوًا من مليار مسلم مقتنعين بتفوق ثقافتهم)، وهي الحال التي تدعوه للقلق من دونية قوتهم تلك»، وهي نتيجة تدعو للتساؤل: هل استفادها هانتنغتون من خلال دراسة 100 عينة من الإندونيسيين - مثلاً، أو 200 من المغاربة، أو 500 مصري أو خمسين من البوسنيين؟ ولو فعل، فأي نوع من العينات كانت تلك؟
إثارة العاطفة لدى المتلقي الغربي
وما يلاحظ أيضًا في هذا السياق، تطعيم العديد من افتتاحيات الصحف والمجلات الغربية (الأمريكية والأوروبية) بمفردات جديدة بين الفينة والأخرى، من قبيل: العملقة (Gigantism) أو نهاية العالم (Apocalypse)[10]. وغالبًا ما تُصاغ وتُظهر تلكم الاستعمالات والتعبيرات الجديدة بطريقة غير واضحة. وهو أمر مقصود، ذلك أن الهدف منها استثارة سخط القارئ الغربي تجاه الآخر. وبجانب ذلك، يدفع هذا النوع من الإثارات القارئ في اتِّجاه ما تريده تلكم الوسائل الإعلامية أن يفعل أكثر مما تريده أن يعي ما يقرأ.
إنهم يستعملون منهج تشرشل بطريقة غير ملائمة من خلال تنصيب أنفسهم المدافعين عن الحضارة الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وأنهم يحاربون أعداء هذه الحضارة ومعهم أولئكم اللصوص والمدمرين. كل ذلك مع اهتمام لا يكاد يُذكر بالأحداث التاريخيّة الشّائكة التي هي أعمق وأبعد غورًا في دلالاتها. وقد تسرّب هذا النمط في التعامل من إقليم إلى آخر في عملية تجاوزت الحدود التي أُريدَ لها أن تفصل بيننا وكأننا نعيش في مخيمات عسكرية مقسّمة ومعزولة.
تأسيس النظرية انطلاقًا من تعميم المسائل الفردية
إن إطلاق شعارات غير واضحة المعالم، مثل: (الإسلام والغرب)، مشكلة تساهم في تضليل وتشويش العقل الذي يحاول أن يدرك واقعًا مضطربًا لا يتصرّف فيه [هؤلاء] بصورة حضارية، بل وينحدرون سريعًا نحو الهاوية في تعاملاتهم البينية تلك. وما أتذكره في هذا السياق، مقاطعة أحد المستمعين لمحاضرة كنت قد ألقيتها في إحدى الجامعات في الضفّة الغربية عام 1994، حيث انتصب مهاجمًا أفكاري واصمًا إياها بـ«الغربية» في مقابل ما يعتنقه من فكر إسلامي متشدّد، إذ توجه إليَّ متسائلاً: «لماذا ترتدي بذلة وربطة عنق؟»، حيث كان ذلك أول ما يتبادر إلى ذهنه من انحراف نحو الفكر الغربي، ليضيف بعدها: «إن ذلك من تأثير الحضارة الغربية أيضًا». ولكنه جلس بعدها مبتسمًا والحرج بادٍ على وجهه.
لقد استرجعت بذاكرتي هذه الحادثة عندما بدأت معلومات إرهابيي 11 سبتمبر (أيلول) تأتي حينها: كيف أتقن أولئك الإرهابيون كل التفاصيل الفنية المطلوبة لإلحاق شرهم القاتل على مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاغون إضافةً إلى اختطاف الطائرة التابعة للخطوط الجوية الأمريكيّة؟، أين يمكن للمرء حينها أن يرسم الخط الفاصل بين التكنولوجيا «الغربية»، كما يصرح برلسكوني، وبين عجز «الإسلام» أن يكون جزءًا من «الحداثة»؟
وكان من المفترض ألَّا يتمّ الحكم من خلال حادثة محدّدة بحيث تتّخذ وسيلةً لإطلاق شعارات وتعميمات ومحدّدات ثقافية صارمة، فهذه وسيلة عقيمة في صياغة أية نظرية، لدرجة أنه في لحظة ما يغلب عليها التسرّع الناتج عن خلفيّة فكريّة مهّدت لهم نسج عبارات غامضة، فتلتقي هذه الطرق جميعًا في صياغة نوعٍ من الخداع يبرّر تلكم الحواجز المحصّنة ليس بين «الغرب» و«الإسلام» وحسب، وإنما بين الماضي والحاضر أيضاً، بيننا وبين الآخرين، وذلك لنظلّ صامتين لا نحرّك ساكنًا عن مفاهيم مهمّة حول الهوية والجنسية اللتين يدور حولهما خلاف ونقاش لا ينتهيان.
إن اتِّخاذ قرار من جانب واحد لرسم خطوط في الرمال غير واضحة المعالم، ومعها حملات عنيفة، فتصوّر المسألة بأننا نقابل ما انطوت عليه نفوسهم الشّريرة تجاه ما نملك من نيات حسنة، وأن الغرض من هذه الحملات هو استئصال الإرهاب وكذلك، كما في مفردات بول وولفويتز (Paul Wolfowitz)[11] العدمية، إنهاء بقية الشعوب تمامًا. إن ذلك كله لا يجعل من اليسير أبدًا أن نرى تلكم الكيانات المفترضة؛ بل وأكثر من ذلك، إنها تتحدث كيف أن تلك التصريحات العدائية وما يستتبعها من تعبئة جماعية للمشاعر أيسر من دراسة ومعاينة وفرز ما نتعامل معه في الواقع، الذي هو ترابط بين عدد لا يحصى من أطياف الحياة، في «حياتنا» كما هي الحال في «حياتهم».
تشويه الإسلام من قبل أبنائه
في سلسلة رائعة من مقالات ثلاث نُشرت في الفترة ما بين شهري يناير ومارس من العام 1999 في مجلة الفجر (Dawn) الباكستانية، التي تعد من المجلات الأسبوعية الرصينة، كتب الراحل «إقبال أحمد»[12] موجهًا مقالاته تلك إلى الجمهور المسلم، ومحللاً فيها ما وصفه بجذور اليمين الديني، ومنتقدًا ما وصفه بتشويه الإسلام من قبل أنماط الحكم المطلق والشمولي الذي يمارسه الطغاة وأعوانهم من الطبقة الدينية المتعصّبة، حيث يتركّز اهتمام هاتين الطبقتين على قضايا السلوك الشخصي وما يعرف بقوانين الأحوال الشخصية، وهو ما يساهم في «تجريد النظام الإسلامي من قوانين العقوبات، ومن روحه الإنسانية، وما يحمله من جماليات، وإجابات لأسئلة فكرية مهمّة، ومعها ما يعززه في اتِّجاه الإخلاص الروحي لدى الإنسان».
ومن ناحية أخرى، يشير أحمد إلى أن ما يُثار حول الإسلام «ينطوي على تأكيدات مطلقة، وتصوير عام لا يؤخذ فيه السياق الخاص الذي وضع فيه، ويتم التركيز على جانب واحد من جوانب الدين، وتجاهل تامّ لجوانب أخر. وهي ظاهرة أينما وقعت، فإنها تشوه الدين، وتحط من قيمة التقاليد، وتحرف العملية السياسية عن مسار تقدّمها».
وتمثيلاً لذلكم النوع من الخداع، يشرع أحمد في عرض مثال حيٍّ وشائك في تعددية استعمالاته في بيئته الإسلامية، وهو مصطلح (الجهاد)، إذ يُقتصر على معنى محدّد ومقصود له ارتباطه بتلكم الحرب العشوائية ضدّ ما تحدده هذه الحرب من أعداء مفترضين، إذ من المستحيل «أن يُميَّز في الإسلام: الدين عن المجتمع، أو الثقافة، أو التاريخ أو السياسة كتجربة عاشها وخبرها المسلمون على مدى عصور من الزمن». ثم يستنتج، إقبال أحمد، أنّ الإسلاميّين المحدثين «مهتمّون بالوصول إلى السلطة أكثر من حفاظهم على جوهر الدين وروحه؛ وإلى تحريك الجمهور من أجل دوافع سياسية أكثر من تركيزهم على تقاسم السلطة وتخفيف معاناة المواطنين وتحقيق تطلعاتهم. وما يؤسف عليه أن أجندتهم السياسية لا تزال محدودة الأفق وذات تطلّعات وطموحات محدودة». وما يجعل الأمر أكثر سوءًا وجود تشوهات مشابهة وتعصّب في العالمين «اليهودي» و«المسيحي» على مستوى الخطاب العام.
التناقض الغربي في التعامل مع الحضارات المغايرة
لقد كان لكونراد[13]، الشخصية الأكثر حضورًا لدى القراء في أواخر القرن التاسع عشر، فضل وسبق في بيان تلكم الفروق بين لندن المدينة الأوروبية المتحضرة وما يفصّل الحديث حوله في روايته «قلب الظلام»[14]، حيث تنهار جميع تلكم القيم الحضارية المدّعاة بصورة سريعة. فمع كل ما بلغته الحضارة الأوروبية في لحظات متقدمة تراها تقع على الفور في ممارسات أكثر همجية دون تهيئة أو مرحلة انتقالية. ومع استعراضه، في روايته «العميل السري»[15] (1907)، للانحدار الأخلاقي لدى الإرهابي، يبيّن كونراد أن تحديد مفهوم الإرهاب لا يزال غامضًا، وهي مسألة عالجتها أيضًا رواية «سياسات العلوم البحتة»[16] (وهو ما يمكن تطبيقه أيضًا على مفهومي «الإسلام» أو «الغرب»).
ولأن هناك علاقات مترابطة بأكثر مما يودّ أن يراها معظمنا بين حضارات هي في ظاهرها متحاربة، يعرض كل من فرويد ونيتشه كيف أن حركة التنقّل والتبادل الحضاري تبقى محافظًا عليها بالرغم من ضبط نقاط الالتقاء بين تلكم الحضارات. وهي حال من الصعب تحليل وفهم علاقاتها نظرًا لتداخل تعقيداتها. وفي المقابل، تتدفّق العديد من الأفكار التي نحملها ونتعامل مع مفاهيمها بغموض وريبة، حيث تقدّم بصورة غير مناسبة في الأعم الأغلب، وتستقبل على شكل توجيهات عملية لمعالجة حالات راهنة. وهو ما يجعل مفردات الصراع تحمل نوعًا من السطحية في التعامل، والاطمئنان الذي تصاحبه ثقة لدى كل طرف، مع يقينيات تامّة، فتظهر شعارات من قبيل: (الحملات المقدّسة، والخير ضد الشر، والحرية ضد الخوف، وغيرها).
وهي حال تنسجم وما ادَّعاه هانتنغتون من معارضة مزعومة بين الإسلام والغرب، وترجمة لمفردات الخطاب الرسمي في الأيام الأولى بعد هجمات 11 سبتمبر. منذ تلكم اللحظة، كان هناك تصعيد ملحوظ في ذلك الخطاب، من أجل الوصول إلى تحقيق وتيرة ثابتة من خطاب الكراهية وما يلحقه من إجراءات في الاتِّجاه نفسه، مضافًا إليها تقارير عن جهود تبذل لإنفاذ قانون موجه ضد العرب والمسلمين والهنود في جميع أنحاء البلاد، ليبقى الأمر على هذه الوتيرة.
الحضور الإسلامي المتصاعد في العالم الغربي
إن أحد الأسباب الأخرى لاستمرار هذه الظاهرة هو الحضور المتزايد للمسلمين في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة. فعندما نُفكّر اليوم في عدد سكان فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وإسبانيا، وبريطانيا، وأمريكا، وحتى السويد، يجب الاعتراف بأن الإسلام لم يعد على هامش الهوية الغربية، وإنما غدا جزءًا لا يتجزَّأ منها. ولكن هذا الحضور الإسلامي الواسع دائمًا ما يُستدعى فيه ذلكم الشعور بالتهديد للهوية الأوروبية، التي تستبطن في ذاكرتها تلكم الفتوحات العربية الإسلامية الواسعة، التي بدأت في القرن السابع الميلادي والتي، كما كتب المؤرخ البلجيكي الشهير هنري بِيرَيْن (Henri Pirenne)[17] في كتابه التاريخي المتميّز «محمد وشارلمان» (Mohammed and Charlemagne) (1939)[18]، حطمت في لحظة واحدة تلكم الوحدة المتوسطية القديمة، ودمرت التوليفة التاريخية بين المسيحية والرومانية وأدت إلى صعود حضارة جديدة هيمنت عليها القوى الشمالية (ألمانيا وفرنسا الكارولنجية) التي كانت مهمتها، كما يظهر من حديثه، هو استئناف الدفاع عن «الغرب» ضد أعدائه تاريخيًّا وثقافيًّا. وما أهمل بِيرَيْن الحديث عنه، للأسف، هو أن إنشاء هذا الخط الجديد من حماية الغرب وجَّه الأنظار إلى تلكم القيم الإنسانية، ومبادئ العلوم، والفلسفة، وعلم الاجتماع وعلم التاريخ في الإسلام، الذي كان بالفعل [أي الإسلام] وسيطًا بين عالم شارلمان[19] والعصور الكلاسيكية القديمة. كان الإسلام متغلغلاً في العمق الأوروبي من البدء، وهو أمر يقرّه دانتي (Dante)، العدو الأكبر لـ [لنبي] محمد [(صلى الله عليه وآله وسلم)]، الذي كان عليه أن يعترف بذلك عندما وضع النبي في قلب «جحيمه»[20].
التعدديات الدينية والقواسم المشتركة
وبجانب ذلك، هناك استمرارية الإرث التوحيدي نفسه من خلال الانتماء إلى الأديان الإبراهيمية، كما أطلق عليها في تسمية مناسبة لويس ماسينيون. بدءًا من اليهودية والمسيحية، حيث كل منهما ملتزمة خلافةَ الأخرى حسب تقدم إحداهما على الأخرى؛ وحسب المسلمين، فإن الإسلام امتداد لهما، وبه يكتمل ويُختتم خط النبوة. وما يؤسف عليه، أنه لا يوجد حتى الآن تاريخ محايد يُميط اللثام عن حقيقة ذلكم الصراع متعدد الجوانب بين أتباع هذه الأديان الثلاثة، التي لا يوجد بين أي منها تجانس أو تآلف [في الواقع] بأية وسيلة من الوسائل بحيث تكون في معسكر يوحدها فيه محبتها لله تعالى الذي يجمعهم.
وفي مقابل البعد الديني، تشهد فلسطين تصادمًا دمويًّا يقدّم نموذجًا خصبًا في صورته المدنيّة لما يمكن أن يمثّل تناقضًا مأساويًّا بين هذه الأديان. ولذلك ليس من المستغرب، أن يتحدّث المسلمون والمسيحيون بسهولة عن الحروب المقدّسة والهجمات الجهادية فيما بينهم، متجاوزين ذلكم الحضور اليهودي في حالةٍ غير مبالية. إن مثل هذه الأجندة، كما يقول إقبال أحمد، تحمل في طياتها «حالاً من الاطمئنان العالية لكل من الرجال والنساء الذين تقطعت بهم السبل في منتصف المخاض، بين مأزق التشبّث بما تمليه عليهم التقاليد وبين تبنّي الحداثة».
ولكننا جميعًا نخوض غمار ذلكم الصّراع المحتدم، الغربيين والمسلمين وغيرهم على حدٍّ سواء. وما دام ذلكم الصّراع جزءًا من المحيط الكبير للتاريخ، تظل محاولة القضاء عليه أو تقسيمه من خلال حواجز مصطنعة أمرًا غير مجدٍ. فهناك لحظات تاريخية متوترة، من الأفضل إعادة نمط التعاطي معها على أنها نتيجة صراعات بين مجتمعات قوية وأخرى ضعيفة، وأنها سياسة مدنية بين العقل والجهل، ومبادئ عالمية تتصارع فيها العدالة مع الظلم، بدلاً من تسوّل أفكار غامضة وواسعة قد تعطي لحظة من الارتياح النفسي مع قليل من المعرفة والتحليل المستنيرين. إن نظرية «صراع الحضارات» هي وسيلة للتحايل تماثلها أطروحة ويلز في روايته «حرب العوالم» (The War of the Worlds)[21]. وهي نظرية لتبرير الاعتزاز بالذات أكثر منها أن تكون فهمًا نقديًّا لتداخل العلاقات في عصرنا الحاضر.
اضف تعليق