لأن العلاقات الحضارية هي أعلى شكل ممكن من الصلات الوجودية في التاريخ، فإن لكل أمة أو شعب أو قوم أو دولة، نصيبه القليل أو الوافر من الإكراهات والضغوط من الأطراف الأخرى. وإذا أخذنا مثالًا العالم الإسلامي، فإننا سنجده منذ بواكير تشكله الأولى قد مُني بوابل من الضغوط...
بقلم: الدكتور الحاج دواق-أستاذ فلسفة الدين، قسم الفلسفة، جامعة باتنة 1 -الجزائر.
مدخل
إذا اندفع التاريخ تلقاء قدره، كشفت مساحة العالم عن أشكال حضارية مختلفة، دلّت على ألوان كثيرة من التدافعات بين شعوب الأرض وسكانها. ولأن من الحقائق الملازمة والمصوِّرة لتطور أوضاع العالم وأحواله؛ تبرز أن الكيانات التاريخية الكبرى تقع بينها احتكاكات جمة بقصد إظهار المُكنة الثقافية والجدوى الاجتماعية لما تحمله من قيم، فإنها ولا بدَّ أن تميل إلى نوع من العمل في اتجاه كبت الأطراف المقابلة لتأبيد تسلطها على الأوضاع، وضمان مصالحها باستمرار في سياق استغلالات عميقة تسنزف الثروات والمقدّرات وقبلها الإنسان.
ولأن العلاقات الحضارية هي أعلى شكل ممكن من الصلات الوجودية في التاريخ، فإن لكل أمة أو شعب أو قوم أو دولة، نصيبه القليل أو الوافر من الإكراهات والضغوط من الأطراف الأخرى.
وإذا أخذنا مثالًا العالم الإسلامي، فإننا سنجده منذ بواكير تشكله الأولى قد مُني بوابل من الضغوط التي قصدت القضاء على تجربته الحضارية، وخنق عطاءاته الثقافية، لعلة أو لأخرى خاصة من قبل أكبر التسلطات المتاحة آنئذٍ من الروم والفرس، واستمر الحال في جدل انبساط وانقباض تاريخيين، مرة في صورة انكفاء ومدافعة، وأخرى خروج وامتداد.
ومع الوقت استطاع أن يحقق لنفسه إنجازات نوعية واستثنائية بالنظر إلى عمره التاريخي وإمكاناته الحضارية، لكن استمرار ذلك كان مرهونًا بضرورة وجود وفرة عارمة من الإرادة الحضارية التي تتيح له المقدرة على توظيف الإمكانات والمقدرات التي يحوزها. فخبا بريق الغاية التاريخية الكبرى وتراجعت الطاقات المعنوية التي أمدته لقرون طويلة، فترهّلت أوصاله، ودخل في دوامة صراعات متوالية، تَجلّيها البارز؛ التناحرات السياسة بين العائلات الحاكمة وباعثة الباطني فقدان المبرر النظري والفكري إزاء جدوى أن يستمر الإسلام في التاريخ، فانقلب الكل ضد الكل.
هذه الحال أسلمته في إطار منطق التداول الكوني بين التجارب الحضارية الكثيرة إلى أن يتولى زمامه غيره، خاصة لما قويت رغبة المتسلطين في الانتقام التاريخي واستعادة الجغرافيات المفقودة، وتلقين القوي السابق حضاريًّا درسًا يجعله يقرّ بخطيئة إسقاط حضاراتهم في السابق.
ومن أبرز التجارب التي مارست إكراهها وعنفها على العالم الإسلامي، الغرب، أو ما أنعته بالظاهرة الغربية. ومن أهم مفكرينا الذين تعاطوا فلسفيًّا معها المفكر الجزائري مالك بن نبي (رحمه الله) (1973م)، واعتبار اختيارنا له في تناول بنية الظاهرة الغربية وتكوينها، أنه صاحب نظريات إزاءها، وحيث تعتبر من أهم المدونات الفكرية التي تعاطت معها معرفيًّا، وعملت على سبر عمقها الرؤيوي وانعكاساتها المدوية على كل نطاقات التاريخ، وتقاطعاتها الدموية والاستغلالية للعالم الإسلامي.
فما هي الظاهرة الغربية عند مالك بن نبي؟ ومن أين نشأت واستلت مبررات تكونها وتطورها ومآلها؟ ما هي التجليات والأنماط الثقافية والحضارية لهذه الظاهرة؟ وكيف انعكست بحمولاتها على العالم والعالم الإسلامي؟ وما أبرز آثار ذلك؟
أولًا: في التشكُّل التاريخي والبنية المفهومية للغرب
1- مفهوم الغرب
مصطلح الغرب the west يدل في خضم استخداماته الجمة، على استقراره دلاليًّا على جملة عناصر، بالتأليف بينها تعطينا حقيقة معقولة بها، نتصور ونملك ونفسر ونحكم على هذه الظاهرة التاريخية الممتدة.
والغرب يدل في مستوى أول على موقع جغرافي من الأرض، قبال المناطق الأخرى كالشرق مثلًا، أو يدل على نمط وُحدوي من الخصائص التاريخية والإثنية والثقافية والحضارية عمومًا، والتي تشكل في مجموعها ملمح النقاء إزاء الأنماط المفارقة أو المختلفة، قوميًّا ولسانيًّا، وما إلى ذلك من معايير التفريق[1].
وهنا يكون الغرب هو الوحدة النسبية بين سكان أوروبا خاصة ومن انحدروا منها وتوزعوا في العالم، حيث يشتركون في الخلفية التاريخية ذات الأصول الإغريقية والرومانية والجرمانية أساسًا، إضافة لبعض الإثنيات الصغيرة، وأعرافها من الفلسفة اليونانية والقانون الروماني، والديانتين المسيحية واليهودية، والتي تقطن جميعها منطقة غربية من الأرض، وانفتحت على العالم الجديد (جديد حسبهم وهو من أقدم العوالم والأمم) أي الولايات المتحدة الأمريكية، وتبادلت بينها وأوروبا القيادة التاريخية للمجموع المنعوت بالغرب[2].
و«كانت الاستعمالات الأقدم للغرب، أو نظائرها في اللغات الأخرى تشير إلى اتجاه أو منطقة على خارطة سياسة معينة، مثل تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى غرب – شرق في أواسط القرن الثالث، وانقسام الكنيسة المسيحية إلى غربية وشرقية بدءًا من القرن الحادي عشر، والعالم الجديد للأمريكيتين منظورًا إليهما من أوروبا أو المحيطات التي تقع إلى الغرب البعيد من المملكة الوسطى (في الصين) على أن التعبير الذي اكتسب طابعًا عالميًّا عن الغرب لم يقع في الاستعمال العام، إلَّا عبر القرنين المنصرمين بوصفه التكوين الرئيس في أوروبا الغربية التي صار ينظر إليها باعتبارها كلية الحضور في السيطرة الاستعمارية على عموم أرجاء العالم»[3].
تبدو المقاربة السالفة متراوحة بين معاني متعددة للمصطلح، ومرد ذلك الأساس الذي شكَّل المنظور وبناه، فإذا اعتمدنا التاريخ، وجدناه كيانات موحدة انفصلت لدواع سياسة أو دينية، فظهرت داخلها أجزاء بعضها يقع غرب المقر الرئيسي السابق –أي العاصمة- وأخرى شرقه، فكان الغرب للمقابل. أو يكون التعين تبعًا للموقع الجغرافي للناظر من أدنى نقطة بالنسبة إليه إلى أقصاها، فيكون الغرب موقعًا متبدّلًا باستمرار.
لكن القارّ في هذا التوظيف؛ الإشارة إلى غرب الأرض دائمًا، أو مغرب الشمس، وأدل مفهوم هنا أوروبا كلية، كلية الحضور، بداعي الهيمنة والسيطرة والتخارج الذي مارسته بعيدًا عن حدودها لتعميم نموذجها الحياتي على العالم، أو غربنة الآخرين، فتشكل الوعي الشرقي إزاء الغرب، أي انطباع الناظرين باعتبارهم مجالًا لتنفيذ الطموحات، والآخر الناظر إليه بما هو نموذج نهائي يحتذى في إطار تحقيق يوتوبيا الخلاص العام.
2- الأسس التكوينية ومصادر التشكُّل
«على أن المفهوم الذي يقول: إن الأوروبيين يمثلون نظامًا يكاد يكون مختلفًا للكائنات لم يكن مجرد نزعة للتركيز العرقي على الذات، لولا مجرد محصلة لنرجسية دفاعية، لقد جاء مستندًا إلى منجزات عصر النهضة الأوروبية والثورة العلمية ومرحلة التنوير، ومن ثم جاء التشديد على المعرفة وعلى العقل... وكذلك على القوة وعلى العقل. ولكن فيما كانت تلك المنجزات حديثة العهد، فقد كانوا يعودون بجذورها إلى عصور سبقت تكمن في هيكل الثقافة، وفي التراث الذي تناهى من الإغريق أو الجرمان، وفي الأنعم التي جاد بها الله عزّ وجل وأضفاها على شعب مختار، ثم إلى مقدم المسيحية...»[4].
إذن المفهوم تشكل عبر تراكمات تداخلت فيما بينها ولم تستقر فوق بعضها كما الطبقات الجيولوجية، فلا يمكننا القول: إن كل مرحلة ألغت سابقتها، بل رفدتها بأهم سماتها وميزاتها، وبتشابكها واستحالتها تكونت روح متقاربة المعالم أو موحدتها، يمكن وسمها بالغرب.
فإذا كانت الأصول هناك، فاستعادتها هنا، وبإصرار قاد إلى بناء روح مغامرة تواقة للعلم والمعرفة، ومترجمة لذاتها في تقنية كبرى، سمحت لها بالسيطرة على الطبيعة ومن ثم على التاريخ، في مزيج متنوع بخصائص تم الوعي بها بالتدريج.
«ويؤكد بول فاليري Paul Valéry أن ثلاثة تقاليد شكلت أوروبا [الغرب كما في الكتاب]:
- المسيحية وبأكثر دقة الكاثوليكية في المجال الأخلاقي.
- التأثير المستمر للقانون الروماني في مجالات القانون والسياسة والدولة.
- التراث الإغريقي في مجال الفكر والفنون، ولماذا نفصل هذه التيارات عن مصادرها؟ لأنه هكذا يتولد الإيهام بأن الغرب ما هو إلا بداية مطلقة (ليس قبله شيء)، وأنه ظهر كنبتة قد نمتنع عن تتبع جذورها، نبتة منعزلة ووحيدة من المعجزة التاريخية»[5].
إذن؛ هي خصائص متكررة ذات سمة يشبه أن تكون قارة، مغرقة في تكريس مفهوم التكوين المنعزل، والتشكّل الاستثنائي ضمن مزيج خاص، جمع العقل إلى الروح فالأخلاق، وقبلها الجغرافيا، التي ضمت اليونان وأطلت على المحيط الأطلسي، في البداية، ثم ذهبت إلى أطراف عوالم أخرى، صبغتها بلونها الثقافي الخاص، ما أدى إلى نمط من الخصوصية الفريدة في الظهور والتطور، سمّاها غارودي (رحمه الله) بالمعجزة التاريخية.
و«رغم ذلك يحقق الغرب بوصفه بناء أسطوريًّا آثارًا قوية، حين يجمع إلى ذاته خصائص متنوعة ومتناقضة... فهو كعنصر أسطوري ما زال ينظم طريقتنا التراتبية في إسناد مكان إلى شعوب ومؤسسات على الخريطة العالمية - التاريخية»[6].
يقودنا المعنى المتضمن في التعريف السالف، إلى حقيقة أن الغرب ليس واحدًا من حيث ما هو، أي كحقيقة موضوعية ماثلة بشكل صلب، ومتعينة كصخرة صلدة في صفحة العالم وشريط التاريخ، بل هو بوتقة انصهرت فيها معطيات مختلفة، بعضها جاء من الشرق، كما هو حال المسيحية، وأخرى من الغرب، كالقانون الروماني وقبله الفلسفة الإغريقية في عصريها الهليني والهلينستي. ثم إضافات العبقرية الحداثية، وفتوح المعرفة وتطورات العلم ومنجزات التكنولوجيا وتأويلات الأيديولوجيا للتاريخ الكوني.
كل هذا تدامج، فانبثقت عنه ظاهرة أدركت نفسها كيانًا واحدًا مقابل الآخرين «...وهكذا يؤدي الغرب دورًا أيديولوجيًّا في الرغبات التنظيمية للمجتمعات غير الغربية، بقدر ما يؤديه فيما يسمى بالمجتمعات الغربية. وحتى الثمانينات من القرن الماضي كان كثير من سكان بقية العالم يتخيلون أن الغرب هو المؤشر على مستقبلهم، والهدف الذي ينبغي أن تتطور مجتمعاتهم نحوه...»[7].
بالإضافة للمعنى المفهومي الذي قد يمنحه مصطلح الغرب، فإنه يتيح شكلًا من التحليل الإجرائي بتصنيف أنماط معيشة وأساليب حياة بالنظر إليه، وقد يتعدى الاعتبار المعرفي البحت في تصوير أجزاء العالم وتطوراته، إلى ناحية أيديولوجية تقوم على الدعوى إلى التبشير بنموذج الحياة الغربية بوصفها أعلى مثال ممكن لتطور الحضارات، أو بالنظر إليه كسقف متجاوز تغلّب عل التخلف وحقق التقدم المطلق.
«ولا يتركز تصور التقدم المطلق تصورًا وضعيًّا إلا على التطور العلمي والتقني، الذي يقيس قدرة الإنسان على الطبيعة وعلى أخيه الإنسان، ومن المهم أن تكون عصور البشرية قد أخذت اسمها من التقنيات المستعملة، عصر الحجر المنحوت، الحجر المصقول، عصر البرونز، عصر الحديد... إلى عصر الآلة البخارية والكهرباء وعصر الطاقة النووية...»[8].
يظهر أن نزوع السيطرة، والتسلط التقني، بل كما سماها غارودي الدكتاتورية التقنية، تعد لازمة تصورية في بناء مفهوم الغرب، فبعيدًا عن التقدم اللانهائي في التاريخ، والممتد في المكان، لا نجد لدلالة الغرب معنى كما حدده نقاده حتى من الفلاسفة الغربيين، فالمعرفة قوة في الأساس، ولا يؤشر على جدواها سوى استخدامها، والاستخدام يبدأ عند التكنولوجيات الرفيقة، وصولًا عند الآليات الإعلامية في أدوات الحرب والتنافس في تطويرها.
إلى هذه النقطة نجدنا –تحليليًّا- أمام فوات مفهومي لا يسمح بتجميع مادة معرفية منضبطة وذات مقدرة تفسيرية عالية تشير إلى المصطلح الغرب، «... وهذا المفهوم ذو الدلالات المتموجة،لم يمتثل أبدًا للمعنى الجغرافي الذي يوحي به، فقد راهن منذ البدء على المقاصد السياسية والدينية والثقافية، ومن ثمة ثبّت مجموعة من الصفات والخصائص العرقية والحضارية والدينية على أنها ركائز قارة، تشكل أسس هويته... وتتجلى إشكالية هذا المفهوم من أنه تقصّد أن يؤسس وجهة نظر حول –الغرب- بناء على إعادة إنتاج مكونات تاريخية توافق رؤيته معتبرًا إياها جذورًا خاصة به، ومستحوذًا في الوقت نفسه على كل الإشعاعات الحضارية القديمة، وقاطعًا أواصر الصلة بينها وبين المحاضن التي احتضنت نشأتها، إلى ذلك تقصد ذلك المفهوم أن يمارس إقصاء لكل ما هو ليس غربيًّا، دافعًا به خارج الفلك التاريخي الذي أصبح –الغرب- مركزه...»[9].
وهنا لا نعدم تقريرًا مفاده أن الإشكالية التعريفية ليس منشؤها منطقيًّا غالبًّا، أي تنبعث من تداخلات التصورات والأحكام العقلية، بمقدار ما تنبثق عن استعمالات خاصة ترجع إلى التدافعات والمعارك الاصطلاحية بين الثقافات المختلفة، لذلك نلقف الغرب ظاهرة متماوجة الدلالة بل متلاطمة، نظرًا لما تسوقه من مادة ذات مصادر كثيرة ومختلفة، في بنائه ومفهمته والقار عندنا أن المعنى تشكل بتطورات كثيرة وتداخل عقول علمية وفكرية بل وأيديولوجية في تشكيله.
وتبرز ميزة لافتة في تكوين معنى الغرب، وهي التشابك والتمازج الاستثنائي لمعطيات بعضها مادي جغرافي، والأخرى عسكرية سياسية اقتصادية، وقبلها جميعًا ثقافية ودينية، «ولم يكن حظ الحضارة المسيحية في نفوس أهلها وبنيها كحظ الحضارة الإسلامية، فقد نشأت المسيحية في وسط فيه الخليط من الديانات، والثقافات العبرية، والرومانية واليونانية، فلم تُتِحْ لها أن تدخل قلوب الناس وسط الزحام الفكري الثقافي لتؤثر فيها تأثيرًا فعّالًا، ولم يكتب لها أن تعمل عملها إلا عندما بلغت وسط البداوة الجرمانية في شمال أوروبا، حيث وُجدت النفوس شاغرة، فتمكنت منها، وبعثت فيها الروح الفعالة التي اندفعت بها لتكون حلقتها في سلسلة التاريخ... إلى مرحلة التوسع العقلي، التي انطبعت بطابع ديكارت، والتوسع في البلاد الذي حققه كريستوف كولومبوس باكتشاف أمريكا [بتأثير] شروط خلقية وعقلية ضرورية للإنسان لكي يستطيع أن ينشئ ويبلغ حضارة...»[10].
3- المكون المسيحي وطبيعة التشكّل الحضاري للظاهرة الغربية
يظهر أن التحليل الذي أوردناه فيما يخص المسيحية وحضارتها، لا صلة له بمعنى الغرب، وهو تفسير يختص بنشأة المسيحية وارتحالاها، لكن الممعن فيه جيدًا، يستنتج أن مالك بن نبي قد عبّر عن أوروبا وحضارتها أي الغرب الأول، ثم المتطور فيما بعد، قد تلقفت المسيحية وحقنتها بروحها، والعكس منطبق، والتأمت مكوناتها الكثيرة ضمن روحانية أخلاقية خاصة دفعت بها إلى الوعي الذاتي المجتمع من قوة القبائل الجرمانية، وعبر قانون الرومان، ووازعهم الإمبراطوري، وقيم المسيحية كلها، كوَّن ما نسميه الغرب.
ثم أضفى عليه ديكارت Descartes (1650) عقلانية المنهج والفهم والتعقل العلميين، لما أبرز ضرورة المعركة العلمية المنهجية. وانبعثت عن فلسفته مغامرة فكرية كبيرة، انتهت إلى تشييد صرح العقل الفلسفي والعلمي الغربي، أي الغرب منظورًا إليه من خلال تطور فكر فلاسفته وعلمائه، ثم بعض الاهتزازات التاريخية التي عبّر عنها فلاسفة الأفول والسقوط كما هو حال اشبنجلر Spengler (1936) في مؤلفه المهم أفول الغرب، أو ألبرت شفيتزر Schweitzer (1965) في فلسفة الحضارة.
فليست المساواة التحليلية، بين أوروبا في مرحلة ما من عمرها التاريخي، وبين المسيحية وامتداداتها الخاصة، خروجًا عن مألوف الاتجاهات التحليلية التي درست تاريخ الحضارة، فالغرب/ أوروبا/ المسيحية، ثالوث مندمج وتركيبة فريدة في نمط علاقات أخرج للعالم هجينًا متميزًا، عدّ بوصف ما، بأنه الحضارة الأفضل التي عرفها الإنسان.
«عندما نتحدث عن الحضارة اليوم في معرض الثناء، فالذي نعنيه بالحضارة هو ذلك المجموع من الاعتقادات والعادات السائدة في أوروبا وفي أجزاء الكرة الأرضية التي يقطنها أناس من أصل أوروبي، وإذا توخينا من هذا التحديد بعض الغايات وجدناه مرادفًا للعالم المسيحي، وإذا توخينا غايات أخرى غيرها وجدناه مرادفًا للبلدان التي حسنتها الثورة الصناعية،... استطاعت بفضل العلم التطبيقي... أن تفرض على الكرة الأرضية بكاملها سيطرتها... هذه الحضارة هي إرثنا، ونحن، ولربما العالم بكامله، مرتبطون بها...»[11].
إذن؛ الغرب هو أوروبا الممتدة من اليونان بعادات خاصة، وتقاليد متوارثة، ثم رفدها بالقيم المسيحية، وإعادة بنائها وتأويلها في عمليات متتالية بدأت مع عصر النهضة، ووصلت ذروة المعاودة الإنشائية في عصور الحداثة الكبرى وتقنياتها العلمية اللافتة.
«ولعل أثر هذه النظرية قد لوحظ في الثقافة الغربية في عهد نهضتها، حيث كان توماس الإكويني ينقيها... -ولو عن غير قصد منه- لتكون الأساس الفكري للحضارة الغربية، ولم تكن ثورته ضد ابن رشد وضد القديس أوغسطين إلا مظهرًا للتجديد السلبي، حتى يستطيع تصفية ثقافته مما كان يراه فكرة إسلامية أو ميراثًا ميتافيزيقيا للكنيسة البيزنطية وأتى بعده ديكارت بالتجديد الإيجابي، الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي، الطريق الذي بُنِيَ على النهج التجريبي، والذي هو في الواقع السبب المباشر لتقدم الحضارة الحديثة تقدمها المادي»[12].
يظهر المنوال الجدلي في تكون الغرب كظاهرة مستقلة في التاريخ، من الأداءات الواعية التي مارستها عبقريته، متمثلة في فلاسفته ومفكريه ولاهوتييه، حين عمدوا إلى فك الارتباط بين المنجزات المعرفية المنقولة من تراثات الغير، والروح الثاوية بين عناصرها تمهيدًا للعملية الثقافية العميقة، التي تعيد تأليف ونسج تلك العناصر، ضمن صياغات خاصة تولد المعنى الجديد وتعمل على ضخه في أوصاله، والدفع به إلى الأطراف التاريخية القصوى في شكل النماذج اليوتوبية التي ستتصور مستقبل أوروبا والغرب، وهكذا كان ديكارت مدركًا لما قام به الإكويني، فقام به، أحدهما سلبًا والآخر إيجابًا.
فالعمليات التأسيسية للمجتمعات غالبًا ما تحتاج لمسوغات تُمنح في هيئة فكرة متعالية ذات طابع ميتافيزيقي أو ديني، وقد تعطى في شكل تبريرات فلسفية أو دينية تتجه إلى مجالات تعريف الإنسان وتعيين دوره في التاريخ، وهذا ما قام به الغرب -وعلى رأسه أوروبا- حالما بنى «مسوغاته التقليدية، المسوغات التي أعطت للشخصية الأوروبية في القرن التاسع عشر أقصى توترها، عندما كانت أوروبا تؤمن بالتقدم العلمي وبالحضارة وبالاستعمار رسالة حضارية، فكانت هذه المسوغات تحرك وتوجه كل الطاقات الاجتماعية؛ اليد والقلب والعقل في أوروبا، وتوحد صفوفها في العالم؛ إذ كان الأوروبي ينظر إلى التقدم العلمي ميزة يمتاز بها عقله، وإلى الحضارة على أنها فطرته، وإلى الاستعمار على أنه امتداد حضارته خارج أوروبا وقد كانت هذه الأشياء وعلى الأقل الشيآن الأولان منها، تحقق الإجماع في الداخل في حدود أوروبا والإعجاب في الخارج خارج حدودها»[13].
فالتوليفة الثقافية بمكونات التاريخ التي وُضِعت أمام أوروبا، إمكانية أن تتكون وتتألف ككيان تاريخي ذي خصوصيات وسمات منحت لها مبرر الانوجاد في المقام الأول، ثم الامتداد والمضي إلى الإعلان عن أعباء تاريخية خاصة، سواء كانت محقة أم مسفة، إلا أنها حركت إرادتها وحشدت قواها للقيام بأدوار ومهام وسمتها بالرسالة التحضيرية للآخرين فالروح الاستعمارية جزء مكيف من طبيعة الغرب، لأنه يرى في الآخر أقل منه شأنًا، وأضعف وضعًا، ودعاه إلى مغادرة حدوده، لتعميم صورته الثقافية، وطرازه الحياتي.
«وبقدر ما كان مجتمع غربي أوروبا يتحلل ويتفكك، بالمواد المتخلفة عن هذا التحلل ذاتها استطاعت المسيحية أن تبني المجتمع الجديد خطوة خطوة، وهو المجتمع الذي نطلق عليه هذه الأيام بالمجتمع الغربي... لقد خلف اختفاء الإمبراطورية الرومانية في الواقع جميع مكونات المجمع الروماني من أشخاص وأفكار وأشياء على حال من الفوضى، كان من المحتم تنظيمها بطريقة أخرى وكانت الفكرة المسيحية هي التي استخرجت النسق الغربي من غضون الفوضى...»[14].
فالغرب حسب التحرير السابق؛ هو نسق قيمي أتاحته المسيحية بروحها المتوثبة إلى بناء تاريخ عالمي، رتب رممًا حضارية سابقة، موروثة من اندثار الشكل السياسي لروما الإمبراطورية، وأعاد لحمها ضمن عمل شاق، كان نتيجته ظهور الغرب.
ونتيجة لتدخل الاعتبار المسيحي في تجميع الركام التاريخي السابق عن ارتحالها لأوروبا، تلملمت تلكم العناصر في إطار وحدة، وهنا نسأل: «هل تمثل أوروبا من هذه الناحية وحدة ثقافة خاصة؟ بالطبع، إنها من زاوية معينة تجسد قدرًا مشتركًا، وقد ارتسمت صورته في القرون الوسطى خاصة بفضل العلماء ولغتهم اللاتينية، دامت هذه الهوية على مر العصور، أثبتت الثقافة الأوروبية دعوتها العالمية عبر العقل الباروكي (القرن السابع عشر) وبواسطة عقل علمي فاعل من باريس إلى برلين، وحتى أبعد من ذلك، كما لا يجب نسيان الفلسفة ومساهمتها في تحقيق الأهداف العقلانية اللامتناهية، ولدت أوروبا في الشرق السامي، وفي أثينا الفلاسفة وتبدو شخصية ثقافية ذات مهمة عالمية...»[15].
يبدو أن النص الذي سقناه لإثبات المدلول المفهومي والتاريخي للغرب، يخالف السياق التحليلي الذي بنينا عليه استنتاجاتنا عند مالك بن نبي، فالأخير يشير إلى مركزية الوصل الذي قامت به المسيحية لأوروبا فغذتها بروح التجميع والنزوع العالمي، ثم نجدنا أمام عناصر كثيرة شكلتها وأوجدتها، أيعني ذلك أننا انسقنا خلف تناقض تفسيري لم ننتبه له؟
لا نفهم ما فعله ابن نبي إلا بالرجوع إلى نظريته الكلية حول الحضارة، التي تقوم على الفكرة الدينية كأساس رتق البناء التاريخي بلحمة حضارية واحدة متماسكة جعل الأوروبي/الغربي يشعر بالانتماء والهوية الواحدة قبال العالم؛ لذا صدّرنا رؤيته لمعنى الغرب بقوله: إن المسيحية مثّلت الوخزة القيمية الأولى التي وحدت من تصارَع بالأمس القريب. فلا الإسكندر المقدوني، ولا إمبراطورية روما تمكنت –رغم أسوارها وجيوشها- من بلوغ ذروة المادة التاريخية التي جمعت كل تلك الاثنيات واللغات والأعراق تحت مظلة واحدة.
«فلقد شكّلت الفكرة المسيحية (أنا) الأوروبي أو ذاته، كما صاغت (منظر) أوروبا الذي نشهده في منتصف هذا القرن العشرين، ولا ريب أن الناظر المتطلع سوف يذوب دهشة من وحدة هذا المنظر، والشخصية التي تعطيه الحياة وتحركه، فإن أوجه التشابه بين الأشخاص والأفكار والأشياء هناك تعد في الواقع في منتهى الوضوح، وبرغم هذا فإن تلك ظاهرة عامة»[16].
هي في النهاية تبرز الكيان الحضاري والثقافي والسياسي والاقتصادي الذي تَسمّى بأوروبا مبدأ الغرب الأول وقلبه.
ثانيًا: أنماط الظاهرة الغربية وأشكالها الثقافية والحضارية
انتهينا من السّوق المفهومي للعناصر المختلفة التي كونت الغرب إلا أنه ظاهرة مركبة، وليست بسيطة، وأنها عميقة ممتدة إلى عمق الماضي الذي تواردت منه المواد التاريخية الأولى، ثم تألفت مع مكونات أخرى، فأظهرت إلى العالم كيانًا كبيرًا بتجليات مختلفة حددت له نمطية خاصية، وقدمته في أشكال وبنيات يتسلط بعضها أحيانًا ويتأخر أخرى.
وهكذا بدا الغرب في التاريخ، لا «... باعتباره مجرد حوادث تتعاقب، دونما ربط جدلي بينها، فإن هذه النظرة تؤدي إلى نتائج معينة، ليست هي التي تنتج عن نظرنا إليه، حينما نعدّه سيرًا مطردًا، تترتب فيه الحوادث ترتيبًا منطقيًّا كما تترتب عن الأسباب مسبباتها...»[17].
فالغرب إذن؛ كتاريخه أو كالتاريخ، بنية مضطردة. تطورت في مسار طويل، تداخلت أساسيات عديدة في دفعه إلى مصيره، بعد أن يكوّن في صيرورة وجدل مستمرين.
أ- الغرب/ أوروبا ككيان حضاري أساسه فكرة
«إن حضارة ما هي نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ، وبُني هذا المجتمع طبقًا للنموذج الأصلي لحضارته إنه يتجذر في محيط ثقافي أصلي يحدد سائر خصائصه التي تميره عن الثقافات والحضارات الأخرى، إن الفكرة المسيحية قد أخرجت أوروبة إلى مسرح التاريخ، ولقد بنت عالمها الفكري انطلاقًا من ذلك، ومع عصر النهضة استعادت اكتشافها للعالم الإغريقي فتعرفت على سقراط باعث الأفكار، وأفلاطون المؤرخ لتلك الأفكار، وأرسطو مشترعها»[18].
فما دمنا في سياق تحليل حضاري للظواهر التاريخية، يكون الغرب نتيجة رؤية كونية فسرت له العالم ومنحته مبرر وجوده في التاريخ، وكذا مسوغ بقائه واستمراره وكلما احتدم الواقع بتحدياته، التفت المجموع إلى النموذج الجذري/ الأصلي، المركوز في خبايا هيكل الثقافة، وهو هنا دعامتان، إحداهما؛ تستقي من المسيحية الروح، والأخرى؛ من اليونان شكل الروح وطريقة انتظامها، التي أتاحها مجموع مفكرين هم بمثابة الآباء المؤسسين، إلى جانب المسيح (عليه السلام)، وبولس، هناك سقراط وأفلاطون وأرسطو، كل بلمسته وإضافته.
وبالتجاوب معهم جميعًا نكون أمام الأفكار الكبرى التي شيدت صرح الغرب ورمت به إلى أتون المعترك التاريخي الغاص بالحضارات «فنحن لا نستطيع –في اعتقادي- أن نحلم باكتساب الفهم الذاتي الضروري للتعامل مع مآزقنا الراهنة ما لم نبادر إلى استحضار المنابع الأعمق لعالمنا ونظرتنا العالمية الحاليين...»[19].
وكلما تمّ الكشف عن الأسس الأولى والجذور المتقادمة، ظهرت المبررات المعقولة، لما يحدث في التاريخ، فالحضارة في المحصلة التحليلية النهائية هي نتاج فكرة تم تمثلها بكيفية ما وشُرعَ في نسج الحياة على منوالها التبريري والتعليلي، بل «إن المعجزات الكبرى في التاريخ مرتبطة دائمًا بالأفكار الدافعة... فينبغي أن نلاحظ مع ذلك أن هذه القوى هي التي جعلت تلك المجتمعات تنبثق من العدم، ونشرتها على مسرح التاريخ حيث بقيت قائمة بقدر ما بقيت هذه القوى تدعمها»[20].
ومع ميل مالك بن نبي إلى الفكرة الدينية كأساس أولي في عمليات الإنشاء أو الاستئناف التاريخيين، فهو يؤمن بعوامل أخرى قادت إلى ظهوره، لكن باعثها الجوهري هو الفكرة، بعيدًا عن المضامين واختلافاتها، «فهناك في الواقع علاقة جدلية بين الأفكار والأحداث الاجتماعية والسياسية في كافة مراحل التاريخ»[21]، باعتبار الأخيرة صدى وانعكاسًا لتأسيسات المفكرين وتنظيراتهم، وهنا نجد ضالتنا التحليلية في بسط الحقيقة الثقافية والتاريخية للغرب، من خلال أفكار فلاسفته ومؤرخيه.
ب- موارد التشكل التاريخي للغرب وتجلياته
«إن مصادر الحضارة الغربية جد قديمة ومتنوعة في آنٍ، وهي ترتكز برأي على أقنوم من ثلاثة مفاهيم: المعرفة، الإنسان، التقنية في شكلها الحديث للثورة الصناعية»[22].
فتشترك هذه الأسس الثلاثة في خلق بنية تاريخية ذات نمط متميز، منبثقة ودفّاقة، حركية تؤمن بالإنسان ومركزية في العالم حتى ما يختص بمفهوم الإله/ الشخص/ أو الآلهة/ الأشخاص، وخصوصية المعرفة المنبثقة عن عقله ومنطقه وطريقة تفكيره في العالم، وكيف يصبّ الأخير في قوالب منطق محدد، ثم ترجمته إلى نوع من التكميم الذي يسهل التحكم والسيطرة والاستخدام.
فنحن بإزاء نمطية تصوّر العالم على أنه فضاء كبير يمكن فهمه والتعرف إليه، وأيضًا التحكم فيه، بواسطة التقنية التي لا يقف أمام تطورها واستخدامها شيء، وهي معطيات تراكمت عبر مكابدات تاريخية متطاولة «غير أن نظراتنا العابرة... جعلتنا ننظر إليه وكأن تاريخه قد ابتدأ من يوم التفتت إليه أنظارنا، فأعرناه بعض اهتمامنا في صورته الطارئة لا في جوهره، وهذا شأن شبابنا في نظرتهم إلى الأشياء، فإن أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية أننا ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن توجد، لو لا صلات اجتماعية خاصة لا نتصور هذه الصناعات والفنون بدونها. فهي في الأساس الخلقي الذي قام عليه صرح المدنية الغربية في علومه وفنونه، بحيث لو ألغينا ذلك الأساس لسرى الإلغاء على جميع ما نشاهده من علوم وفنون»[23].
وعمق الصلة بين الجذور المعنوية الناشئة عن حمولة ثقافية، ذات مضامين معرفية خاصة، بررت للإنسان الغربي هويته، وعرفته أمام العالم، ومنحته الدفعات التاريخية المتوالية لكي يتمكن من بناء صرحه الحضاري، ورغم أن الأساس الأخلاقي هو القاعدة التي قامت عليها الأداءات الثقافية المختلفة، من علوم وفنون وصناعات، إلا أننا لا نعدم وجودها في سياق التنظيرات الفلسفية والمعرفية المختلفة، التي تصورت إنسانًا عارفًا متحكمًا في العالم، وخلقت مسوغات مثلت له روابط التواصل مع أخيه الإنسان ومع الوجود.
وقد حدّد روجيه غارودي Roger Garaudy (2012م) مسلمات ثلاث إضافة للسابقة، من جهة كونها الدعائم الأولى التي بنت رؤية الغرب الحديث لله سبحانه، وللعالم والإنسان، والحياة والتاريخ. وتتمثل في:
«– مسلمة ديكارت: نجعل أنفسنا أسياد الطبيعة ومالكيها، طبيعة أخذت بوجهها الآلي إذ قامت مسلمته على علاقات تسيطر على طبيعة جردت من أيّ غاية خاصة.
- مسلمة هوبز: الذي حدد العلاقات بين البشر الإنسان ذئب يهاجم أخاه الإنسان، إنها علاقات منافسة في السوق ومواجهات بين الأفراد والجماعات، علاقة السيد بعبده، وهي توازن الرعب على مستوى قدراتنا النفسية الحالية
- مسلمة مارلو: الذي أعلن موت الربّ، أيها الإنسان كن إلها بعقلك وسيد العناصر كلها، وهكذا يصبح ضعف البعد المفارق لدى الإنسان ورفضه أي قيمة مطلقة مقدسين»[24].
تبدو المسلمات الآنفة متباعدة، كل منها ينتمي إلى سياق فلسفي خاص، إلا أن تحليلنا من خلال التطور الثقافي ومآلاته الحضارية الكبيرة يجعلنا نسلم بارتباطها الوثيق، حيث إن المواضعة الديكارتية عينت أفق الصلة الجذرية للإنسان بالعالم كله، فنصبته سيّدًا عليه/فوقه، وجعلت الطبيعة مضمار تسابق للتسلط على الأشياء والهيمنة على موادها.
فديكارت «أتى... بالتجديد الإيجابي للثقافة الغربية طريقها الموضوعي الذي بني عليه المنهج التجريبي، والذي هو في الواقع السبب المباشر لتقدم الحضارة الحديثة تقدمها المادي»[25]، فالمانح لثقة الظاهرة الغربية في نفسها، هو تعينها في التقدم بوصفه الحالة الثابتة في التاريخ، وكونه لن يكون إلا بتحقق من معرفة توفر بالمنهج الناشئ عن مقدرة الإنسان، وقدرته في التحكم في كل ما يحيط به.
وانعكست المسلمة الديكارتية الناظمة للصلة بالطبيعة، في فحوى التأسيس للاجتماع البشري والشروع من حقيقة تاريخية مفادها؛ أن الناس يتصارعون ويتبادلون الصلات فيما بينهم وفق تسديد طبيعي يقوم على الغلبة للأقوى، والجميع في توجس دائم من الجميع، وهو ما أعلنه هوبز لما كشف عن العمق العدواني للبشر، فإما أن تكون معتديًا، أو تردّ عدوانًا، أو أن تُلغى.
وهذه قيمة عامة سبغت روح التنظيرات السياسية في الغرب وبررت من خلالها الأطروحات الفلسفية المختلفة مقولة العقد الاجتماعي. سواء من خلال الإقرار بالطبيعة الفاسدة ابتداء، أو بالتي ستفسد بعد حين، وهنا نجدنا أمام ثانية الأثافي، فالأولى ضبطت العلاقات الوجودية مع الطبيعة، والثانية الصلات الأخلاقية مع الناس، ثم يكتمل المشهد بإقصاء التعالي والمطلق، والدعوى إلى موت الإله، الذي اضطرته الأسطورة اليونانية أن يكون بشرًا أو شخصًا ثم أكملت المسيحية الإنجاز الكبير، حالما سبغته بمعتقد مقدس.
فدخل الإله في التاريخ ومنه لا يملك انعتاقًا، وحينها فقدت الثقافة الغربية كل صلة بالمتعاليات وارتبطت بالروح المادية والوازع التسلطي على الأشياء، خاصة وأن العلم قدر رفدها بقوة هائلة تمثّلت في التقنية متطوعة الكل، وسالبة الوعي، والمنقلبة على الإنسان ذاته.
«كما ولو أن طبيعة الأوروبي الممتلئة بآدميته لا تدع مجالًا للألوهية، والباعث العميق لذلك موصول بثقافته ذات الجذور الطبيعية المحدودة في سياق تناولات ناشئة عن «ثقافة سيطرة ذات جذور تقنية»[26].
فالسمة العلموية والتقنية التي غلبت على الفكر الغربي لا تنفي وجود جيوب رفض واحتجاج فلسفي يدل على حضور مستويات أخرى في الثقافة الغربية، كالمثاليات المختلفة وكذا النزعات الروحانية، لكن المستبد بها، وما يقدمها في ميدان العرض الحضاري هو الطابع الحسي والتقني؛ «ذلك أن أوربة كانت قبل لوكراس بوعده، وقبل بلانك وبعده الأرض المختارة للفكر الكمي، ولوضعية أوجسنت كونت، ومادية ماركس، فالفكر الغربي يجنح على ما يبدو أساس إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم، وهو عندما ينحرف نحو المغالاة فهو يصل إلى المادية في شكليها: التشكّل البورجوازي للمجتمع الاستهلاكي، والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي»[27].
تلك إذن أهم السمات الحضارية التي طغت على التجربة الحضارية الغربية، وكونتها، ودفعت بها إلى اكتساب الطابع الإمبراطوري ونزعة الامتداد على حساب كل شيء، الأرض-الطبيعة- حسب ديكارت، الإنسان -الذئب- تبعًا لهوبز، المطلق الإله/الميت مع نتشه Friedrich Nietzsche 1900م أو مارلو والتنافس في الغرب تجسيدًا للقيم السابقة أدخل الإنسانية إلى عالم «مثقل بالعلم وبتقانته الإمبراطورية، إنه يضج بروح الحرب وبوسائل الحرب... إن روح القرن التاسع عشر التي ادعت تحقيق سعادة الإنسان بواسطة الآلة قد انتهت إلى إفلاس محزن، فلم يعد العالم ينتظر الخلاص على يد العلم...»[28]، حيث هو سبب مآسيها لتغوله، وتضخمه وقيامه كمطلق مواز لكل شيء.
ومع أن ما سقناه من تحليل لمالك بن نبي يرجع لأواخر الأربعينات من القرن المنصرم، إلا أن جدواه التفسيرية لا تزال ماثلة، خاصة لشيوع روح الحرب الدائمة، وبثّ منطق الفرقة وتسخير مقدرات الإبداع في التسابق نحو التسلح، والاختبارات المهددة للوجود البشري، وبذلك يكتمل الثالوث القيمي من خير وحق وجمال، وتتجلى المعرفة المترجمة لحقيقة الوجود في مشهد تاريخي وحضاري ووجودي كبير، يثقل على صدر العالم بنموذج ذي سمات متينة، سميناه الغرب أو الظاهرة الغربية وقلبه أوروبا.
ج- التجلي الأيديولوجي بما هو دين معاد التكييف
ألم نلمح قبلًا إلى الأساس الديني لتكون الغرب، من أساطير اليونان، إلى تحالف الإمبراطورية مع المسيحية، ومنها إلى استدماج العنصر اليهودي، ثم ها نحن الآن أمام إقرارات تفيد بعناصر أخرى وسمت الغرب وأظهرته في مسحة علمية وتقنية مهيمنة ثقافيًّا وتاريخيًّا؟
لم يغب ذلك عن مالك بن نبي، لما أبرز أنه «من الوجهة التاريخية يتعين علينا ملاحظة أن الأفكار الماركسية، قد استخدمت لنموها واكتمالها كل البنية التحتية النفسانية والمفاهيمية المسيحية الذي حول إنجيل يسوع المسيح إلى إنجيل لماركس، وجمع المطامح التوّاقة إلى ملكوت الربّ الإله، إلى مطامع متشبثة بالفردوس الأرضي، فالفكرة الدينية تتدخل إما بطريقة مباشرة، وإما بواسطة بديلاتها اللادينية نفسها، في التركيبة المتآلفة لحضارة ما، وفي تشكيل إرادتها...»[29].
فالوظيفة التعبوية والتجييشية تؤديها الأيديولوجيا والفكر كما يؤديها الدين، فالماركسية في النهاية هي بنية محفزة حاضة على الفعل، ودافعة للقيام بالأعمال التاريخية الاستثنائية، وباعثة على تأمل المستقبل البعيد من خلال الثورة على أوضاع الحاضر، كما هو الشأن تمامًا للعلموية ودعواها إلى التمسك بالمعرفة العلمية الوضعية والمادية، الموصولة بالمنهج التجريبي الواقعي، المحكوم بالرؤية الطبيعية، واستخدامات التقنية.
وهكذا تكون أوروبا قد «... حسمت حالتها الخاصة منذ بضعة قرون، داخل الإطار المسيحي دون ريب، ولكن مع مبادرات في الميدان الفني، والأدبي والفلسفي، كانت تذهب إلى ما وراء المبدأ الإنجيلي. فقد تشكّل الفكر الأوربي المعاصر في جو العقلانية الفرنسية، والجمالية الايطالية، ومع ذلك ففي كل مرة كانت تنتاب هذا الفكر استثارة أو تحد وافد من الخارج، كان يرجع من جديد إلى أصله المسيحي»[30].
تكمن الخلفية الرؤيوية للظاهرة الغربية في العمق الديني لطبيعة الفكرة ذاتها، حتى ولو انقذفت في اتجاه اللادينية المحضة، فالوازع الدفين المحرك لعجلة التاريخ الغربي؛ هو الأساطير المؤسسة في فجر الحضارة الإغريقية، ومنها إلى استمداد المسيحية واللمسة اليهودية، وفي حالات التوتر الكبرى التي تشعره بالتهديد، يلتفت إلى المعنى الديني ويستدعي الحالة اللاهوتية لمجابهة أعبائه وتخطي مشكلاته، سواء كانت فكرة دينية مباشرة أو شبيهتها أو بديلتها، وفي النهاية، اللبوس مختلف والمثوي واحد.
خاتمة
نتمنى أن تكون التحليلات السابقة قد استوفت بعض الخصائص الأركان التي بها وصّف مالك بن نبي الظاهرة الغربية وبين أنماطها، ولكن هناك لأزمة أساسية لا يفوتنا التنويه بأهميتها، وهي أن الغرب لم يكتمل دفعة واحدة، خاصة وأنه لا يزال ماضيًا إلى قدره التاريخي، ثم لأن مركز الثقل فيه تبدل من جهة لأخرى، زيادة إلى مقدرته العالية الآن على استيعاب التنوع وتذويب الانتماءات المختلفة في صياغة مذهلة من الوجهة الحضارية.
ومع ذلك يمكننا إجمال خصائصه وقضاياه الأساسية في جملة ملامح تعد في كليتها «... الأفكار التي نظمت الغرب بالإنسان المرمي في العالم، الذي تهدّد خصومة الأشياء يصوغ أفكارًا تساعده على فهم الطبيعة وعلى السيطرة عليها. الإنسان، الإنسانوية، التاريخ، الشخص، الفرد. هذه التصنيفات الأساسية تنظم فكر الغرب. وأما العقل، والعلم، والطريقة، والجدلية، والنظام، والفوضى والخواء، والمفهوم، والطبيعة، والتقدم، والصيرورة فهي تعطي الثقافة الأوروبية معناها، هذه الثقافة المتأثرة كما رأينا بالإرث اليوناني (الجدلية، العقل...) وأيضًا بالإرث المسيحي (اللامتناهي...)، كل هذه الأفكار نظرية، لكن ثمة أفكار تدير العمل الفردي والجماعي: الأخلاق، العدالة، المساواة، الكرامة، السعادة، الشخص، السياسة، الديمقراطية...إنها مفاهيم تتمازج فيها الرؤية اليهودية-المسيحية والمذهب الطبيعي اليوناني وتؤسس للفكر الأوروبي. أخيرًا، إن فكرة الجميل، والجمال والذوق والجمالية... تذكرنا بأن الإنسان الأوربي هو ذلك الإنسان الجميل، الذي يطارد الجمال المولود في المدينة القديمة حيث الجمال علامة الخير»[31].
رغم الطول النسبي للنص السابق، إلا أنه لخّص معروضات مالك بن نبي في وحدة تحليلية مهمة ولافتة، حيث أبرز امتن المبادئ والعوامل والمعطيات التي ألقت بالغرب في وجه العالم، وسمحت له بأن ينطلق في عمل تاريخي دؤوب، بدأ عند اليونانيين القدامى، ثم فقد قوته وإرادته لما يقارب الألف سنة، ثم عاود دورته الإنجازية من فجر النهضة، مستلهمًا كل تاريخه، بما فيه العصور الوسطى، وبنى حداثة بفتوح مذهلة قدمت للإنسان التفوق والظهور التاريخي الكبير، متخطيًا حتى أعرق الإمبراطوريات وأقواها في التاريخ. لكن في الوقت عينه، أقحمه ضمن مآسٍ غير مسبوقة، أظهرها ما ينعت بالاستعمار/ التدمير، ثم الاستشراق، والاستنزاف المبرمج لثروات الآخرين/ الأغيار.
اضف تعليق