كم هو مهم لو تعمقوا في حالة (الاستيقاظ الروحي) الذي تعيشه البشرية العاشورائية مقدمةً تجربة محسوسة وملموسة لعلاقة تكاملية على ضوء حقيقة ماثلة تعمل على إزالة متعلقات الطاقة السلبية، فتحل محلها طاقة التوحد والاندماج برمز التحرر الإنساني، إنها طاقة (النيرفانا) الملونة بأفق كربلائي، أفقٍ من الحزن الذي يمكن تسميته بـ (الحزن المُفَكِّر) وبقيمته المستقبلية...
تُصنَّف الفعاليات والممارسات التي تقام في عاشوراء عند أهل الفقه ــ الشيعي ــ على وجه الخصوص، على أنها شعائر، وتأدية هذه الشعائر مصداق للآية الكريمة "وَمَنْ يُعَظِّمْ شعائرَ اللهِ فإنّها مِنْ تقوى القلوب". بينما هي عند آخرين؛ تصنف على أنها ممارسات طقوسية تتعلق بالتطهر من الآثام، والتكفير عن الذنوب التي تُرتكب؛ بسبب تحريضات النفس البشرية "الأمّارة بالسوء".
وكلَّما تجدَّدَ موسمٌ لعاشوراء، وتجددت معه مظاهر الاستذكار الحزين لواقعة الطف؛ تجدد جدلٌ حول هذا الاستذكار وتمظهراته والصور التي يعبر بها الإنسان عن حزنه وألمه.
وقليل من هذا الجدل نراه مفيداً ومعرفياً حتى مع اختلافه سواء مع أصل الممارسة، أو مع الذين يقيمون هذه الممارسة، وأكثرهم من مدن جنوب العراق وفراته الأوسط، وبكربلاء بطبيعة الحال باعتبارها حاضنةً أزليةً للحزن المضيء. ولهذا النوع من الاختلاف القليل فوائده في الحقيقة؛ لأنه سيزيد من فاعلية قضية استشهاد الإمام الحسين (ع) في الوجدان الإنساني، لماذا؟
لأنَّ المعرفةَ أي معرفة؛ تتوهج مع المختلف، خصوصاً المختلف الذي يناقش فكرةً يقفُ بالضد منها، دون أن يهاجم بشكل انفعالي، أو ربما إيديولوجي من يتبنى تلك الفكرة.
الجدل الأكثر في هذا الموضوع للأسف الشديد جدلٌ استعراضيٌّ؛ لمسايرة ظواهر ونظريات انطفأت، وأخرى في طريقها للانطفاء. ومثل هذا الجدل غير النافع يتفاعل كثيراً في أوساط تمارس الخلط غير المعرفي، وخصوصاً في وسائل التواصل الاجتماعي متخذاً بُعْدين اثنين، أحدهما سياسي، وآخر اجتماعي.
السياسي منه معروف المقاصد، حيث أن الممارسات التي تقام استذكاراً للحسين الثائر على مظاهر الظلم، واستعباد الإنسان، والباذل دمه في سبيل تحريره، تمثل هاجس قلق مزمن للسلطات التي تنتهج الطرق الملتوية للتشبث بالسلطة، واللعب بمقدرات البلدان والشعوب؛ لذلك فمن الطبيعي أن تقابل تلك الممارسات برؤية مخالفة ومعاكسة.
أما البعد الاجتماعي، وهو الذي يهمنا في الحقيقة؛ فإنه يُحَرَّك من قبل أوساط نخبوية ــ العراق أنموذجاً ــ تنقسم بين نخبوين يميلون للنظريات والأفكار التي انطفأت ، أو من أوساط تحب ممارسة مقولة (خالف تعرف) بقصد إرضاء جهات أو مؤسسات تقف بالضد من تفاعل مظاهر الاستذكار العاشورائي.
وفي الحالتين، نرى أن هذه النخب التنظيرية ابتعدت بمسافات شاسعة عن رصد النقطة الوسطية التي تمثلها قضية عاشوراء، وهي النقطة التي تمثل اللقاء الطبيعي بين العاطفة البشرية، وأفكار الإنسان القابلة للتجدد والتطور. أما المناداة بفصل العاطفة عن العقل وكأننا في محاولة يائسة لإحياء نظرية (فردانية العقل)؛ فإن هذا المسعى لايقدم للنخبوي غير المزيد من العزلة عن الملايين الذين يؤكدون حاجتهم الروحية لممارسة الفعاليات الحسينية.
ولانعرف في الحقيقة، لماذا لايكون لهذه النخب سعي في أن تكون لهم نظرة أبعد، وهم يشاهدون تكراراً للحاجات النفسية والروحية في الاندماج بالقضية، وسحب فاعليتها الإنسانية إلى زمنهم الموبوء بكل مسببات قيام الثورة التي يستذكرون بحزن رمزها وبطلها عليه السلام.
وهم لو كان لهم مسعى في النظرة الأبعد؛ لأبدعوا في استكشاف نقطة الالتقاء بين العاطفة والأفكار من خلال المزاوجة بين زمنين في لحظة أنسنة عالية تعود بهم إلى بدايات الفطرة الإنسانية السليمة، فيصلون إلى أهمية تكرار الممارسات بوصفها شعائر أو طقوس تطهير في أماكن لها من الدلالات والرمزية مايديم هذا الزخم الشعوري الذي يتفرد بتأجيج العواطف، وقدح الأفكار من دون أي خلل في المنظومة البشرية التي تخلخلت مراراً بسبب الفصل بين العاطفة والفكر. كم هو مهم لو تعمقوا في حالة (الاستيقاظ الروحي) الذي تعيشه البشرية العاشورائية مقدمةً تجربة محسوسة وملموسة لعلاقة تكاملية على ضوء حقيقة ماثلة تعمل على إزالة متعلقات الطاقة السلبية، فتحل محلها طاقة التوحد والاندماج برمز التحرر الإنساني، إنها طاقة (النيرفانا) الملونة بأفق كربلائي، أفقٍ من الحزن الذي يمكن تسميته بـ (الحزن المُفَكِّر) وبقيمته المستقبلية وهي تؤكد أنها انتاج مستقبلي، وعطاء إنساني كبير، على عكس مايذهب له المخالفون لشعائر وطقوس الحزن العاشورائي من أن هذا الحزن يورث الذل والهزيمة والانكسار؛ ذلك لأنهم لم يتعمقوا في العبارة الشهيرة (كربلاء عَبرة وعِبرة)، فكثير من الثورات التي أعقبت ثورة الإمام الحسين كان أبطالُها من الباكين على مصابه، والمستلهمين لقيم رفضه وأخلاقه ومروءته.
اضف تعليق