لم تكن هجرة العراقيين وليدة اليوم، فقد جرّبها العراقيون بفئاتهم العمرية المختلفة، صغارا وشبابا وكبارا، ولكن الحصة الأكبر من الهجرة كانت من نصيب الشباب، كما تدل الإحصائيات، فهذا البلد الذي ضربته الحروب، ودمرته الأنظمة القمعية، وأنهكته شتى أنواع الحصار، وداهمه الإرهاب المحلي والإقليمي والدولي، ثم اخترقه الفساد الحكومي من أدناه الى أقصاه، بحيث لم يبقَ مرفقاً حكوميا صغيرا او كبيرا إلا وضربه الفساد الاداري والمالي، هذا البلد وفي ظل ظروف كهذه، لازمته منذ اكثر من نصف قرن، ولا تزال تحاصره الى الآن، لا يمكن إلا أن يهجره الشباب طوعا أو فسرا الى أرض الله الواسعة!.
ولا غرابة أن نعيش اليوم هجرة جماعية للشباب العراقي، لم نشهد لها مثيلا في تاريخه، ولعل المفارقة الغريبة، تكمن في تساؤل قادة البلد والسياسيين عن أسباب هجرة الشباب، وكأنهم بعيدون كل البعد عن تلك الأسباب، وكذلك هناك تغاضي واضح لأولئك القادة، عن التداعيات الخطيرة التي تتمخض عن هذه الهجرة التي لا تزال متواصلة، بل يؤكد مراقبون بأنها تتضاعف في كل يوم من دون أن تتحرك الإرادة السياسية لمعالجة أزمات الشباب، كي تسهم في تخفيض مؤشر الهجرة المتصاعد ولو بنسبة قليلة، لكي تقل معها آثارها وتداعياتها على الشعب.
ولأننا نعرف الأسباب التي تقف وراء هذه الهجرة، مثلما يعرفها القائمون على البلد، قادته، والمسؤولون عن الشباب بصورة مباشرة، ولم يتحركوا لمعالجة مشكلاتهم، ولم يهيئوا لهم ابسط مستلزمات الحياة، في بلد غني بثرواته الطبيعية كالعراق، لذلك لم يكن أمام الشباب سوى ابواب الهجرة المفتوحة، مع كل المخاطر التي تحملها لهم، ومع ذلك نحن نقف ازاء تداعيات خطيرة لهذه الهجرة اذا لم يوضع لها حد، فإنها سوف تستمر بإهدار الطاقات الشبابية، وسوغ تهدد النسيج المجتمعي بالانهيار حتما.
تزايد نسبة العوانس وهجرة الشباب
من التداعيات التي تهدد المجتمع العراقي بسبب هجرة الشباب، زيادة نسبة العوانس الى أرقام غير مسبوقة، فقد كشف أكاديميون عراقيون عن ارتفاع خطير في نسبة "العنوسة" بالعراق، بسبب الهجرة المستمرة للشباب من البلاد بحثاً عن الأمان وفرص العمل في دول أوربية، أو دول الجوار، والتي شهدت أرقاماً كبيرة للمهاجرين الشباب، والمقبلين على اللجوء الإنساني في مختلف دول العالم.
فقد أكد عضو مفوضية حقوق الإنسان، فاضل الغراوي، لبعض وسائل الاعلام في هذا الصدد، بأن هجرة الشباب من البلاد ألقت بظلالها على الجانب الاجتماعي بشكل واضح، وأسفرت عن ارتفاع نسبة العازفين عن الزواج من الشباب، وبالتالي ارتفاع نسبة العنوسة، وكشف الغراوي عن أرقام كبيرة للمهاجرين العراقيين من الشباب، مبيناً أن المفوضية السامية للأمم المتحدة استقبلت أكثر من 195 ألف طلب لجوء عراقي، فضلاً عن هجرة آلاف العائلات العراقية بطرق غير رسمية، وتابع قائلا أن النسبة الأعلى من بين المتقدمين للجوء هي من الشباب بزيادة وصلت إلى 33 في المائة عن طلبات اللجوء في العام الماضي، وشملت هذه النسبة 29 ألف مهاجر في الأردن، و13 ألفا في تركيا، و10 آلاف في لبنان، و3 آلاف مهاجر في اليمن.
وتسببت أعداد المهاجرين الشباب في تفاقم مشكلة "العنوسة" داخل المجتمع العراقي؛ ما رفع نسبتها إلى معدلات مخيفة، فكثير من الشباب يعزفون عن الزواج بانتظار فرصة اللجوء إلى إحدى الدول الأوربية، فضلاً عن آلافٍ ممن هاجروا، وتشير الأدلة الى أن ما يفكر به الشاب العراقي حالياً هو الهجرة، ولهذا فإن نسبة العنوسة المرتفعة لا تأتي فقط كنتيجة لهجرة آلاف العراقيين، بل نتيجةً لعزوف من لم يهاجر منهم أصلاً عن الزواج بانتظار فرصة للجوء إلى أوروبا، حيث أصبح شغلهم الشاغل هو التفكير في الهجرة فقط، ما يعكس حالة اليأس التي وصل إليها الشباب العراقي.
فيما تؤكد إحصائيات حول هذه المشكلة المتفاقمة نشرتها المسلة، على أن العراق يتصدر الدول العربية في نسبة العنوسة بحسب الخبراء، ما يلقي على المختصين أعباء كبيرة في محاولة علاج هذه الظاهرة التي ظهرت آثارها السلبية على المجتمع، وثمة أسباب مختلفة سببت انتشار العنوسة بين الفتيات منها العادات والتقاليد غير المنطقية، وغلاء المهور، لكن هذه الأسباب أصبحت ثانوية أمام السبب الرئيسي والخطير، وهو هجرة آلاف الشباب بحثاً عن الأمن أو فرص العمل في مختلف دول العالم.
هل توجد حلول ناجعة؟
يتساءل كثيرون، هل سيستمر الحال على ما هو عليه؟ وهل يبقى نزيف الهجرة مستمرا، أم تلوح هناك في الأفق بعض الحلول التي تحد من الهجرة وتقضي على أسبابها، وتحد من مضاعفاتها الخطيرة، لاسيما ما يتعلق بموضوع هذا المقال الذي يناقش الزيادة المفرطة في نسبة العنوسة بسبب هجرة الشباب العراقي الى خارج البلاد، تحت ضغوط عديدة أهمها الإهمال الحكومي والمجتمعي لهم؟.
في الواقع لا يوجد شيء او مرض يستعصي على الحل، فلكل داء دواء، والمشكلة لا تكمن هنا، بل تتجسد في غياب الارادة السياسية على معالجة الاخطار التي يواجهها الشعب العراقي، ومنها مشكلة الهجرة التي بدأت تثير مشكلات صعبة تهدد المجتمع، فالعراق اذاً بحاجة الى ارادة فاعلة من اصحاب القرار، تضع الخطط العلمية العملية الرصينة التي تتصدى لهذه المشكلة التي بدأت تتصاعد نسبتها وتأثيراتها يوما بعد آخر، حيث تلقي بظلالها على زيادة واضحة في نسبة النساء العوانس.
ولعل الثقل الاول والأكبر ينبغي أن يتعلق بالجوانب التي تحد من هجرة الشباب اولا، وهي معروفة للجميع، وخاصة ذوي الحل والعقد من المسؤولين، فعندما يجد الشباب حياة تلائم العصر في العراق، وتضمن للشاب عملا شريفا يؤمن له دخلا يوفر له الحد الادنى من الحياة العصرية المضمونة، لن يفكر في مغادرة وطنه مهما كانت المغريات في الخارج، كذلك سوف ينعكس هذا الامر بصورة او اخرى على تراجع نسبة العوانس في البلد، مع مرور الوقت، شريطة التركيز على اهمية تعاون العائلات والآباء ولاسيما الامهات في التخفيف من شروط الزواج، ومنها وأكثرها صعوبة المهور العالية.
وهكذا ينبغي أن يشترك الجميع في معالجة هذه الظاهرة، على ان يكون الجانب الاكبر من حصة الحكومة والجهات المسؤولة عن اسباب هجرة الشباب خارج البلاد، ثم المساهمة في معالجة أسباب عزوف الشباب عن الزواج، ولكن ينبغي ان يكون الهدف اولا، الحد من هجرة الشباب، لأن استمرار الهجرة تعني تفاقم مشكلات عديدة سوف تقود المجتمع العراقي الى مشكلات كبيرة، ونعتقد على الرغم من تعقيد المشكلة وزيادة معدلات الهجرة، إلا أن الفرصة لا تزال سانحة للمعالجة، على ان تتوفر ارادة صادقة وقوية لصنّاع القرار في العراق لمعالجة هذه المشكلة المتفاقمة والمزدوجة (الهجرة و العنوسة).
اضف تعليق