q
مصادفة سمعت حوارا بين ثلاثة شباب يدور حول العواصف الترابية التي تضرب العراق وبعض الدول المجاورة له، كان السخط واليأس واضحا في وجوه الشباب، وقد رافقت حوارهم نبرة ساخرة حين تطرقوا إلى الأموال الهائلة التي تم صرفها على ما يُسمى بالعواصم الثقافية...

مصادفة سمعت حوارا بين ثلاثة شباب يدور حول العواصف الترابية التي تضرب العراق وبعض الدول المجاورة له، كان السخط واليأس واضحا في وجوه الشباب، وقد رافقت حوارهم نبرة ساخرة حين تطرقوا إلى الأموال الهائلة التي تم صرفها على ما يُسمى بالعواصم الثقافية، أحدهم سأل قائلا:

ما هو الفارق بين العواصف الترابية والعواصم الثقافية؟، فأجابه أحد الشبان الثلاثة:

العواصف الترابية تؤدي إلى نتائج مؤذية حيث يطلي الغبار كل شيء، ويشل حياة الناس، ويحتاج الأمر إلى مياه وفيرة لتنظيف المنازل والسيارات والشوارع، حتى الأشجار تئن تحت طبقات الغبار التي تطلي أوراقها وأغصانها، فنحتاج إلى غسل الحدائق والبساتين والمساحات الخضراء التي تملأ أرض عراقنا.

الجملة الأخيرة (تملأ أرض عراقنا) قالها بنبرة ساخرة كأنه يريد أن يوحي بالعكس تماما، أي بانعدام المساحات والأحزمة الخضراء في بلادنا، وحين ردّ عليه شاب آخر بأن الظاهرة ليست عراقية، بل عالمية تتعلق بتغييرات المناخ في كوكب الأرض، بادره صديقه بأن الأموال التي قامت حكومات العراق المتعاقبة على (الأحزمة الخضراء) كبيرة جدا، وكفيلة بمضاعفة الأراضي الخضراء وتخليصنا من جنون الغبار.

أحد الشباب الثلاثة قال متسائلا: وهل سمعتم بالمليارات التي تم رصدها لبغداد عاصمة الثقافة، والنجف كذلك؟، وحجم المشاريع الضخمة التي تم الإعلان عن الشروع بإنجازها، فلو أنها صُرفت بشكل صحيح كما مخطط لها على الورق، وتم إنشاء البنايات والمشاريع الثقافية والتطويرية وعلى دور الثقافة، لأسهم ذلك في تنوير العقول العراقية، وساعد الناس لاسيما الشباب على فهم الحياة بصورة أفضل، أليس كذلك؟؟

أجابه صديقه: وما علاقة العواصم الثقافية بالعواصف الترابية؟، لا يوجد رابط بين الاثنتين!!، فردَّ عليه بإصرار، إن الربط بين العواصم الثقافية والعواصف الغبارية واضح ولا يحتاج إلى ذكاء كبير للكشف عنه، ويمكن تفسير هذا الترابط بالهدر المزدوج للأموال، فقد تم هدر مليارات على عواصم ثقافية، ولم يتحقق إلا القليل مما أُعلن عنه من منشآت ثقافية هائلة، ومشاريع تنويرية مستدامة، لكن الذي حدث صرف قليل من الأموال لذر الرماد في العيون.

كذلك الحال مع الأحزمة الخضراء والمساحات التي أُعلِن عن تشجيرها وتحويلها إلى مناطق متوّجة بالخضرة لكي تمتص الموجات الغبارية التي لم تتوقف عن ضرب المدن بشكل يومي تقريبا، فقد تم هدر وابتلاع المليارات على مشاريع التشجير الكاذبة، والدليل أنها لم تصمد أمام العواصف الرملية ولو بنسبة قليلة، بل تحولت أشجارها إلى سيقان جرداء يابسة وأوراق جدباء مصفرّة لم تستطع التقليل من الغبار، لكن أموالها تحولّت إلى جيوب الفاسدين الذين عاثوا في الأرض تجريفا وتدميرا.

صديقهم الشاب الآخر قال: أعرف مسؤولا كبيرا أفاد من مشاريع الأحزمة الخضراء الكاذبة، واستولى على مبالغ طائلة، وفي يوم وليلة أصبح من الأثرياء بعد أن كان الفقر واضحا عليه كل الوضوح، فلم يكتف بالمشاركة بقتل مشاريع الاخضرار التي كان من المؤمل أن تمنع العواصف الترابية، بل أول شيء قام به هو شراء بساتين خضراء كبيرة وقام بتجريفها وتقسيمها إلى أراض صغيرة وباعها إلى الناس وحصد مليارات أخرى.

أحدهم قال بصوت واضح، نعم أنا شخصيا أرى ترابطا واضحا بين العواصف الترابية والعواصم الثقافية ومشاريع الأحزمة الخضراء المزيّفة، كل منهم يتداخل مع الآخر، والنتيجة فساد واضح، في الثقافة، وفي الزراعة، وفي الأمانة، وفي المسؤولية، مما أدى بالنتيجة إلى تدمير العراق، وهدر فرص الأكثرية الفقيرة لصالح الأقلية الغنية التي أهدرت فرص الثقافة الصحيحة، وأعاقت بثّ روح الاخضرار ومضاعفة البساتين والأشجار لدرء خطر الغبار.

ثالثهم تحدث عن الحلول من وجهة نظر متفائلة فقال: نحتاج إلى الكثير الكثير لكي نوقف الانحدار السريع نحو الهاوية، ولكن أهم شيئين نحتاجهما هما، الثقافة أولا، وزيادة الخضرة والأشجار ثانيا، فكلاهما من وجهة نظري تتداخلان وتتلازمان، نحتاج الأولى (الثقافة) لكي تصبح عقولنا أكثر وعيا وسلوكنا أكثر انتظاما وتحضّرا، ونحتاج الثانية (الخضرة) لكي تتضاعف مساحات البساتين، وتمنحنا رونقها وخيراتها، وحين تلتقي الثقافة بالبساتين والمساحات الخضراء، تُهزم العواصف الترابية ويكف الغبار عن موجاته المتتالية.

ثم ختم الحوار أحد الشباب الثلاثة قائلا: في الحقيقة نحن لا نحتاج إلى عاصمة ثقافية مزيّفة وكاذبة، بل نحتاج إلى عاصفة ثقافية كبيرة قبل حاجتنا لأي شيء آخر، فهذا النوع من العواصف إيجابي، وله القدرة على تحجيم نتائج العواصف الغبارية المؤذية، لذا علينا أن نرفع شعارا واضحا نقول فيه (كن مثقفا واعيا، كي تتخلص من عواصف الغبار)....

اضف تعليق