ينبع جوهر الأزمة في أي جماعة أو مجتمع أو أمة من خلال ذلك العقد المنفرط الذي يوجه الطاقات الداخلية ويستنفرها لاستهلاك نفسها واستنزاف تماسكها، وبالتالي يفضي إلى الصدام الذي يؤدي بمختلف الاتجاهات المتناحرة لتفكيك لحمة المجتمع، وتهديم أسسه القائمة على التكافل والتعاون والعيش المشترك؛ فقد...
في وضع تاريخي لا يحسد تقع الأمة في دائرة مغلقة من التفكك واليأس والإحباط، يخيم عليها في شكل كابوس يجثم على حيويتها، فيخنق حركتها، ويحولها إلى أطلال حزينة، تحوم حولها كواسر تنتظر أن تفترس ما تبقى منها!..
لكن القدر التاريخي لا يستطيع أن يحبس إرادة الإنسان في زنزاناته، مادامت هناك إرادة حية تبحث عن النهوض والتحرر من أسر التخلف والبؤس، إرادة تهمس برموز التغيير، وتفكر بروح الإصلاح، وتتطلع إلى المستقبل بحيوية التجديد؛ فالإنسان قادر على تحويل اليأس إلى أمل والحزن إلى فرح، والترهل إلى حركة، عندما يمتلك الإرادة الحقيقية للإصلاح والتجديد، الإرادة التي تنبعث من الوعي والمعرفة والاخلاص والأصالة.
الحركة في طريق الإصلاح والتجديد لا يمكن أن تكون فردية بل هي حركة تعتمد في نتائجها الإيجابية على تحويلها إلى حركة جماعية، يشاركها أصحاب القضية أهدافها وهمومها ووعيها؛ لذلك تصبح هذه الحركة مجرد نظرية عندما تكون حبيسة أذهان المفكرين والمثقفين؛ فالإصلاح اتجاه إيجابي يتحقق من خلال الإرادة الجماعية لمختلف التوجهات والأفكار، وهذا لا يمكن أن يصبح في حيز الوجود ما لم يوجد قبله اتفاق عام يصب مجمل الجهود والطاقات في هذا الاتجاه؛ وهذا يعني وجود قنوات حوار مسبقة تسعى إلى تقريب الأفكار، ومجانسة النفوس، ورفع الحواجز، وترسيخ القواسم المشتركة، وإلا فإن حركة الإصلاح والتجديد سوف تلفظ انفاسها عندما تفتقد قنوات التنفس الطبيعي لها وهو الحوار.
جوهر الأزمة
ينبع جوهر الأزمة في أي جماعة أو مجتمع أو أمة من خلال ذلك العقد المنفرط الذي يوجه الطاقات الداخلية ويستنفرها لاستهلاك نفسها واستنزاف تماسكها، وبالتالي يفضي إلى الصدام الذي يؤدي بمختلف الاتجاهات المتناحرة لتفكيك لحمة المجتمع، وتهديم أسسه القائمة على التكافل والتعاون والعيش المشترك؛ فقد أصبحت لغة الصدام هي اللغة التي تتحدث بها فصائل الأمة واتجاهاتها وطوائفها وأحزابها، بحيث أصبح الصدام بأقصى سرعة هو الطريق الأوحد لانتحار الأمة ونهاية تاريخها!!.
فكيف يمكن لأي إنسان أن يعيش دون أن يتعايش مع أخيه الإنسان؟ وكيف يمكن لجماعة أو طائفة أن تتكيف مع الحياة وهي تجرّد أسلحتها ضد الآخر الذي يعيش ضمن نطاقها الاجتماعي؟ فبالصدام نتخلى عن حكمة الحياة، ونسير ضد غايات البشر في السلام، نحو جحيم ممتلئ بالبؤس والتخلف والدم؛ ويمكن أن تنظر للتاريخ من بدايته حتى تستكشف أن آلام البشر لم يجلبها إلا أولئك الذين اختاروا طريق الصدام بديلاً وحيداً لمصالحهم وأهدافهم ونزعاتهم التسلطية والشهوانية، منذ أن قتل قابيل هابيل.. والحروب هي -غالباً- من بُناة أفكار عنصرية واستعمارية وطائفية، اختار مهندسوها لغة الصدام لتحويل التاريخ البشري إلى أنهار دم تضرم النفوس بالثأر والانتقام؛ ليستحيل على الإنسان أن ينعم بجانب أخيه بالعيش المشترك والتكافل الطبيعي.
وإذا كانت المشكلة هي مشكلة تضاد الأفكار؛ فالحوار هو الطريق الأمثل لتحقيق التجانس، وإذا كانت المصالح هي جوهر التصادم، فإن المصالح المشتركة لا يمكن تقنينها دون وجود الحوار الحقيقي، ولكن طغيان الإنسان وجبروته واستعلائه يأبى على الآخرين أن يحققوا الخير المشترك؛ فيخسر الجميع روح الحياة ويخسر الإنسان أطماعه، وقد قال المسيح (ع): (ماذا يفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه).
فالصدام هو لب الأزمة وجوهرها؛ إذ يكرس حالات التفكك والانفراط، والحوار هو الطريق الأمثل لتحقيق العقد المشترك والاتفاق العام الذي يضمن للجميع مصالحهم وحرياتهم وحقوقهم.
اضف تعليق