من جديد يُطل يوم الثامن من شوال من شرفة الحزن المقيم في قلوب أتباع أهل البيت عليهم السلام حاملاً معه وجوداً دامعاً يستنفر الآهات لذكرى تهديم قبور البقيع، تلك الشواهد المضيئة التي ضمت أولياء الله الصالحين وأوصياء رسوله صلى الله عليه وآله في جريمة كبرى لايتفرّد بوحشيتها إلاّ الذين انسلخوا من آدميتهم منغمسين بأدلجة قام مشروعها على إطفاء الوهج المحمدي الأصيل.
إذن، نحن على موعد مع ارتحال حمائم القلوب والأرواح الموالية ؛ لترفرف بأجنحة الشوق على تلك الشواهد مستنفرة أمانيّها بظهور قائم آل محمد (عج) فيضيء عتمة الحياة بعدالته المنتظرة.
إن الخوض في ذكرى تهديم قبور البقيع يحيلنا إلى جذور الإنحراف التأريخية عن الفكر عن المنهج الإسلامي الأصيل، وكيف صارت قضية إلغاء الآخر ومصادرة حقه الإنساني في إقامة شعائره وطقوسه هاجساً تنتعش به الأفكار المضلة التي أفضت إلى سلوكيات بالغة الوحشية بحيث صارت مشروعاً تنظيرياً وتطبيقاً لهدم ماجاء به الإسلام.
وعند استذكار هذه الحادثة المؤلمة وإحيائها، ينبغي عدم التوقف عند آليات الاستذكار بشكلها الكلاسيكي التقليدي حيث مهرجانات الرثاء والخطابة وإلقاء القصائد الشعرية على أهمية هذه الممارسات على صعيد التجديد العاطفي، بل لابد من استحداث طرائق أخرى جديدة تقدح الوعي في الذهنية العامة ؛ من أجل إيصال هذه القضية إلى المديات الأوسع فتمارس الصحوة في عالم يبدو سابحاً في غفوة مفاهيمية وقيمية كبيرة، واستحداث الطرائق الأخرى يتأتى من آلية ربط خيوط الأحداث ببعضها؛ حتى يكون من السهولة الحصول على نتائج ما يمر به العالم الإسلامي من تداعيات وانحرافات.
وجاءت جريمة تفجير قبور البقيع استكمالاً للمشروع الناصبي الذي بدأ بالإتفاق المشبوه بين بين عرّاب الوهابية التكفيرية (محمد بن عبد الوهاب) وأمير منطقة الدرعية ( محمد بن مسعود) والذي يقضي بتوسيع رقعة الوهابية لتشمل مساحات أوسع في البلدان المجاورة.
وكان لهم ماأرادوا حيث خاضوا معارك أسفرت عن دخولهم العراق واحتلال كربلاء المقدسة وهدموا قبة الإمام الحسين عليه السلام وأحرقوا الكتب والمخطوطات الثمينة، كما حاولوا تفجير مرقد أمير المؤمنين عليه السلام لكن مسعاهم فشل فعادوا إلى الدرعية واحتلوا مناطق في الحجاز وهدموا القبة التي تدل على مولد الرسول الأكرم (ص) وذلك في عام ١٢٢٠ هجرية - ١٨٠٥ ميلادية قبل أن يقتحموا المدينة المنورة ويهدموا أضرحة أئمتنا الحسن والسجاد والباقر والصادق عليهم السلام، كما قاموا بهدم قبة لعثمان بن مضعون أيضاً.
وكانت هذه تمثل المرحلة الأولى من منهجية إبادة أضرحة وشواهد الرموز الإسلامية، حيث سقطت دولة آل سعود على يد العثمانيين الذين أعادوا بناء الأضرحة، لكن الإرادة الناصبية ظلت مستعرة حتى بدأت المرحلة الثانية بعد مئة عام من سيطرة العثمانيين بعد مساعدة بريطانية إذ حدثت مجزرة دموية في المدينة المنورة سنة ١٣٤٤ هجرية - ١٩٢٥ ميلادية ليتم تهديم الشواهد والأضرحة بشكل كامل.
التناقض مع القيم
يعبر السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) في محاضرة قيمة تناول فيها هذه الجريمة وشرح أبعادها حيث وصفها بأنها " تتناقض مع كل القيم، فهي تحمل طابع التناقض مع ذاتها أولاً، ومع القيم الدينية ثانياً، ومع الحالة الحضارية ثالثاً، ومع واقع الأمة الإسلامية وواقعها رابعاً"، ويسأل أصحاب المنهج القائم على تهديم الأضرحة عن سبب تهديم قبور دون أخرى، ألا ينطوي الفعل على تناقض مع ذات الفكرة؟.
إن مثل هذه المساعي تجعلنا بعيدين عن الحالة الحالة الحضارية التي توجب الإهتمام بالتراث والتأريخ وهو من سمات الأمم المتحضرة النابضة بالحياة والتطور والتجدد دون أن تنسى العظماء وآثارهم، ودائماً تخلد ذمراهم وتحتفي بها.
فالمراقد كانت موجودة في مكة المكرمة والمدينة المنورة حتى في فترة النبي الأكرم (ص)، ولم تكن هناك أوامر صريحة منه بعدم زيارتها او هدمها. ومن هذه القبور قبر السيدة هاجر زوجة النبي إبراهيم عليه السلام وقبر ابنه اسماعيل، فأين هم من سنة الرسول التي يدعون أنهم عليها؟
وهناك بلدان أخرى تحتوي على المراقد والقباب المشيدة كالأردن وفلسطين وغيرها، يقول ابن تيمية في كتابه (الصراط المستقيم) : " عندما تم فتح القدس كانت لقبور الأنبياء هناك أبنية ".
وهنا نسأل : إذا كانت هذه الأبنية (بدعة وضلالة) بحسب مزاعم القوم، لماذا لم يتم تهديمها؟
عالمية البقيع
لابد من استنفار الجهود والإمكانيات المختلفة؛ من أجل الضغط باتجاه إعادة بناء قبور البقيع، وإدانة جريمة تهديمها، فالعالم اليوم أصبح اليوم في متناول اليد بفضل السوشال ميديا، ويمكن إيصال هذا المطلب بسهولة إذا ما تظافرت الجهود.
والدفع بتحقيق هذا المطلب لابد أن ينفتح بفعالياته ومؤتمراته بمختلف عنواناتها على الآخر المختلف (المعتدل والمنصف)، فليس من المنطقي اختزال القضية عند اتباع اهل البيت عليهم السلام فقط، فتكون هذه الفعاليات مصداقاً لمقولة (بيع الماء في حارة السقائين) ؛ لأن قضية ولائنا لأئمتنا وعقيدتنا أمر مفروغ منه، لابد من تعريف الآخر المختلف بهذا المطلب، فمالذي يمنع إقامة مسابقات بحثية وأدبية بعنوان (البقيع) تقدم فيها جوائز مالية كبيرة تضمن مشاركة الآخرين فيها؟، ما المانع من مفاتحة الجامعات الكبرى بإقامة ندوات ومؤتمرات -حقيقية لاقشرية - حول هذا الموضوع من باب الحفاظ على الإرث التأريخي والحضاري للأمم وليس فقط اختزال الموضوع ببعده الديني على أهميته؟، هل فكرنا مثلاً بإصدار كتب أدبية تتضمن أجناس الأدب المختلفة من شعر وقصة ورواية تتناول حادثة البقيع من زاوية الأدب الإنساني المعاصر بحيث تحاكي الآخر وتنفتح عليه؟، ماذا لو كانت هذه الإصدارات مترجمة لأكثر من لغة؟، هل باستطاعتنا إقامة معارض للفن التشكيلي في العواصم والمدن الغربية ودعوة كبار الفنانين العالميين للمشاركة فيها عبر لوحات تقدم رؤاها وانطباعاتها عن هذه الجريمة غير الأخلاقية؟،
هل يمكن الإستثمار التأريخي لمرحلتي هدم القبور في إنتاج فيلم سينمائي بإمكانيات عالمية متطورة؟.
قد يُعتقد للوهلة الأولى أن الحديث في هذه المواضيع حديث ترف، لكننا نقول أن انجاز هذه المشاريع الأدبية والفنية يأتي من باب تعزيز الإنتماء للتأريخ والحضارة، وليس بالمتعسر إقامة فعاليات من هذا القبيل، فلا عذر لتقاعسنا اليوم في تصدير قضية البقيع في ظل ازدهار عالم الاتصالات.
ومن الجانب المالي، لنا -ولله الحمد- العديد من المؤسسات والعتبات التي يمكن أن تسخر إمكانياتها فتشرع بتنفيذ بعض من هذه المطالب، وعلى الصعيد الرسمي، يمكن مفاتحة وزارة الثقافة العراقية للمساهمة في إقامة الفعاليات المستذكرة لحادثة البقيع المؤلمة، فنظام العراق السياسي اليوم نظام تعددي قائم على احترام العقائد، هذه الفعاليات لو أقيمت برعاية رسمية من شأنها ان تضغط على السعودية من خلال توصيات ومقترحات تخلص الى ضرورة إعادة بناء ماتم تهديمه من شواهد وأضرحة.
أخيراً وليس آخراً، يجب التفكير جدياً بعالمية البقيع، والكف عن الانتقاص من إمكانياتنا وقدراتنا وعن التكاسل تجاه قضايانا ومنها قضية قبور البقيع التي آن أوان تطبيب طعنتها الموغلة في خاصرتنا الإسلامية.
اضف تعليق