كان الإمام الحسن العسكري في قمة الأخلاق ومكارمها، كآبائه الطاهرين وهي متواترة عنه وعنهم وقد اعترف الجميع من أوليائه وأعدائه بعلو مكانته وعظيم خُلُقه وعلمه. ما رأيتُ ولا عرفت بسرّ من رأى من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام)، ولا سمعتُ به...
كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في قمة الأخلاق ومكارمها، كآبائه الطاهرين (عليهم السلام)، وهي متواترة عنه وعنهم (عليهم السلام).. وقد اعترف الجميع من أوليائه وأعدائه بعلو مكانته وعظيم خُلُقه وعلمه.
قال أحمد بن عبيد الله بن خاقان ـ وكان من أشدّ النواصب عداوةً لأهل البيت (عليهم السلام)، وكان من ولاة بني العباس: (ما رأيتُ ولا عرفت بسرّ من رأى من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام)، ولا سمعتُ به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء والكتّاب وعوام الناس.
وما سألت عنه أحداً من بني هاشم والقواد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلاّ وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل، والتقديم لـه على أهل بيته ومشايخه وغيرهم، ولم أرَ لـه ولياً ولا عدواً إلاّ وهو يحسن القول فيه والثناء عليه)(1).
يقول: كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس إذ دخل حجّابه فقالوا: أبو محمد ابن الرضا بالباب، فقال بصوت عال: ائذنوا لـه، فتعجبت منه ومنهم من جسارتهم أن يكنّوا رجلاً بحضرة أبي، ولم يكن يُكنّى عنده إلاّ خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يُكنّى.
فدخل رجل أسمر، أعين، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حديث السن، لـه جلالة وهيئة حسنة، فلما نظر إليه أبي قام فمشى إليه خطوات، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد وأولياء العهد، فلما دنا منه عانقه وقبّل وجهه وصدره ومنكبيه وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلّمه ويفديه بنفسه وأبويه، وأنا متعجب مما أرى منه، إذ دخل الحاجب فقال: جاء الموفق، وهو أخو المعتمد الخليفة العباسي، وكان الموفق إذا دخل على أبي تقدمه حجابه وخاصة قواده فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد العسكري (عليه السلام) يحدثه حتى نظر إلى غلمان الموفق.
فقال لـه حينئذ: إذا شئتَ جعلني الله فداك أبا محمد، ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين لا يراه هذا ـ يعني الموفق ـ فقام وقام أبي فعانقه ومضى.
فقلت لحجاب أبي وغلمانه: ويحكم من هذا الذي كنّيتموه بحضرة أبي وفعل به أبي هذا الفعل؟.
فقالوا: هذا علوي يقال لـه: الحسن بن علي.. يُعرف بابن الرضا.
فازددت تعجباً ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيته منه حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من الأمور وما يرفعه إلى السلطان، فلما صلى وجلس جئت فجلست بين يديه، فقال: ألك حاجة؟.
قلت: نعم، فإن أذنت سألتك عنها؟.
قال: قد أذنت.
قلت: مَن الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة، وفديته بنفسك وأبويك؟.
فقال: يا بنيّ، ذاك إمام الرافضة الحسن بن علي (عليه السلام) المعروف بابن الرضا -وسكت ساعةً ثم قال- لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، لفضله وعفافه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه، ولو رأيت أباه لرأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً.
فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي، وما سمعته منه فيه، ورأيته من فعله به، فلم تكن لي همة بعد ذلك إلاّ السؤال عن خبره والبحث عن أمره، فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلاّ وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام، والمحل الرفيع والقول الجميل، والتقديم لـه على جميع أهل بيته ومشايخه، فعظم قدره عندي إذ لم أرَ لـه ولياً ولا عدواً إلاّ وهو يحسن القول فيه والثناء عليه(2).
كلام ابن حجر
ويقول ابن حجر الهيتمي -وهو من علماء العامة المتعصبين ومن أشد الناس على شيعة علي (عليه السلام)- في كتابه (الصواعق المحرقة):
أبو محمد الحسن الخالص ـ وجعل ابن خلكان هذا هو العسكري ـ ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، ووقع لبهلول معه أنه رآه وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون، فظن أنه يتحسر على ما في أيديهم. فقال: اشتري لك ما تلعب به؟.
فقال: (يا قليل العقل، ما للّعب خلقنا).
فقال له: فلماذا خلقنا؟. قال (عليه السلام): (للعلم والعبادة).
فقال له: من أين لك ذلك؟. قال: (من قول الله عزوجل: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ)(3))، ثم سأله أن يعظه فوعظه بأبيات، ثم خرّ الحسن (عليه السلام) مغشياً عليه، فلما أفاق قال له: ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟. فقال (عليه السلام) : (إليك عني يا بهلول، إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا تتقد إلا بالصغار، وإني أخشى أن أكون من صغار حطب نار جهنم).
ولما حبس قحط الناس بسر من رأى قحطاً شديداً، فأمر الخليفة المعتمد ابن المتوكل بالخروج للاستسقاء ثلاثة أيام فلم يسقوا، فخرج النصارى ومعهم راهب كلما مدّ يده إلى السماء هطلت، ثم في اليوم الثاني كذلك، فشك بعض الجهلة وارتد بعضهم، فشق ذلك على الخليفة، فأمر بإحضار الحسن الخالص (عليه السلام)، وقال له: أدرك أمة جدك رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل أن يهلكوا.
فقال الحسن (عليه السلام): (يخرجون غداً وأنا أزيل الشك إن شاء الله). وكلم الخليفة في إطلاق أصحابه من السجن فأطلقهم، فلما خرج الناس للاستسقاء ورفع الراهب يده مع النصارى غيمت السماء، فأمر الحسن بالقبض على يده فإذا فيها عظم آدمي، فأخذه من يده وقال: (استسق). فرفع يده فزال الغيم وطلعت الشمس، فعجب الناس من ذلك.
فقال الخليفة للحسن: ما هذا يا أبا محمد؟. فقال (عليه السلام): (هذا عظم نبي ظفر به هذا الراهب من بعض القبور، وما كشف من عظم نبي تحت السماء إلا هطلت بالمطر). فامتحنوا ذلك العظم فكان كما قال وزالت الشبهة عن الناس.
ورجع الحسن (عليه السلام) إلى داره وأقام عزيزاً مكرماً وصلات الخليفة تصل إليه كل وقت إلى أن مات بسر من رأى، ودفن عند أبيه وعمه وعمره ثمانية وعشرون سنة، ويقال: إنه سُمّ أيضاً. ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة ويسمى القائم المنتظر. انتهى ما في الصواعق(4).
عفو وصفح
- أرسل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إلى داود بن الأسود: (إذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي أمرت بها، وإياك أن تجاوب من يشتمنا، أو تعرفه من أنت)(5).
جود وسخاء
- روي عن إسماعيل بن محمد بن علي بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس، قال: قعدت لأبي محمد ـ العسكري ـ (عليه السلام) على ظهر الطريق، فلما مر بي شكوت إليه الحاجة وحلفت لـه أنه ليس عندي درهم واحد فما فوقه، ولا غداء ولا عشاء!.
قال: فقال (عليه السلام): (تحلف بالله كاذباً وقد دفنت مائتي دينار، وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطية، أعطه يا غلام ما معك).
فأعطاني غلامه مائة دينار(6).
- في كتاب (إعلام الورى) بسنده عن أبي هاشم الجعفري ـ في حديث ـ قال: كنت مضيقاً فأردت أن أطلب من أبي محمد ـ العسكري (عليه السلام) ـ دنانير فاستحييت، فلما صرت إلى منزلي وجّه إليَّ بمائة دينار وكتب إليَّ: (إذا كانت لك حاجة فلا تستح ولا تحتشم واطلبها، فإنك ترى ما تحب)(7).
- روى الحميري في (الدلائل): عن أبي يوسف الشاعر القصير ـ شاعر المتوكل ـ قال: وُلد لي غلام وكنت مضيقاً، فكتبت رقاعاً إلى جماعة أسترفدهم فرجعت بالخيبة، فقلت: أجيء فأطوف حول دار أبي محمد العسكري (عليه السلام) طوفة لعل الله يفرج عني، وصرت إلى الباب فخرج أبو حمزة ومعه صرة سوداء فيها أربعمائة درهم فقال: يقول لك سيدي ـ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام):
(انفق هذه على المولود بارك الله لك فيه)(8).
وهذا من عظيم أخلاق الإمام (عليه السلام) حيث كان ينفق حتى على مثل شاعر المتوكل العباسي.
- قال علي بن إبراهيم بن موسى بن جعفر لابنه محمد: امض بنا حتى نصير إلى هذا الرجل ـ يعني أبا محمد العسكري (عليه السلام) ـ فإنه قد وصف عنه سماحة، فأعطاهما ثمانمائة درهم(9).
- قال أبو جعفر العَمري: حج أبو طاهر بن بلال فنظر إلى علي بن جعفر وهو ينفق النفقات العظيمة، فلما انصرف كتب بذلك إلى أبي محمد ـ العسكري ـ (عليه السلام) فوقع في رقعته: (قد كنا أمرنا لـه بمائة ألف دينار، ثم أمرنا لك بمثلها)(10).
وفي رواية قال: ودخل على أبي الحسن العسكري (عليه السلام) فأمر لـه بثلاثين ألف دينار(11).
- قال محمد الشاكري: كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قليل الأكل، كان يحضره التين والعنب والخوخ وما شاكله، فيأكل منه الواحدة والاثنين ويقول: (شل هذا يا محمد إلى صبيانك).
فأقول: هذا كله؟.
فيقول: (خذه).
قال: ما رأيت قط أسدى منه(12).
إلى غيرها وغيرها..
اضف تعليق