الأمة لا تصدق عليها هذا الاسم إلا إذا كانت تقتدي بإمام يؤمها في حياتها، فالإمام هو المُقتدى به، والصراط الذي تسير عليه أمته في مسيرتها، فموت الإمام هو الكارثة التي تقع على رؤوس أمته، فكيف إذا كان مثل الإمام جعفر الصادق(ع) الذي ملأ الدنيا وشغل...
تقديم حضاري
الحضارة لها جانبان أساسيان وهما بمثابة الجناحين لها ولذا لا يمكن أن تطير سليماً وسوياً غلا بهما، وهما: جناح الروح والمعنويات؛ وجناح المادة والعلم والتقنيات.
فما أجمل الدِّين والدنيا إذا اجتمعا بها وأقبح أن تكون الحضارة مادية بلا معنوية ولا قِيم ولا أخلاق ولا فضيلة كما نرى ونعيش في أتون الحضارة الرقمية التي تعملقت فيها المادة وتقزَّمت فيها الروح والمعنوية وفي كثير من الأوساط اندثرت، وحتى الإله دفنوه وقتلوه كما قالوا مأثومين.
فالحضارة فعل منسوب إلى الإنسان حيث نقول: "حضارة إنسانية" فإذا خلت من القِيَم مُسخت من اصلها، وخرجت عن غايتها التي بُنيت من أجله، وهي خدمة الإنسان، وتحقيق سعادته ورفاهه في هذه الحياة، ولكن الحضارة المادية عندما تخلَّت عن القيم "الإنسانية" استخدمت الإنسان فصار خادماً مطيعاً لها فأذلَّته، وأخضعته فصار سلعة رخيصة في أسواقها، والعجيب أنها تحوَّلت بوصلة القيم فيها تجاه الحيوانات، فأسكنوا الكلاب والقطط في القصور، وراحوا يُغدقون عليها الحب والعطف والمال بكل سخاء، وعمدوا إلى الإنسان فرموه في الشوارع ليعيش عيش الكلاب والقطط.
فالتقدم العلمي والتقني والرقمي (الحضاري)، يجب أن يرافقه تقدماً قيمياً وأخلاقياً وإلا تحول ذلك كله إلى وبال على البشرية جمعاء كما رأينا بأم العين وسمعنا عن كثير من الهبوط والتدني القيمي في الدول التي تدَّعي التقدم والتطور والحضارة، التي ضربتها جائحة الكورونا فكشفت زيفها وأظهرت للعالم كله أنها عورة، وفي غاية التسافل والانحطاط الأخلاقي.
موت العالِم موت العالَم
ورد في الكثير من الروايات والأحاديث الشريفة هذا المضمون، قال أمير المؤمنين (ع): (إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة)
وقال الإمام الصادق (ع): (إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء).
وذلك لأن موت العالم يعني موت العالَم، وجُرح الإسلام جُرحاً عميقاً لا يُسدُّ ولا يندمل، وذلك لأن العالم هو القلب النابض في جسد العالَم، بل هو العقل المفكر، والرأس المبر لهذه الحياة، فالخالق خلق الحياة بالعلم، لا بالجهل، وللتقدم لا للتراجع، وللخير لا للشر، وبالحق لا بالباطل.
فالعلماء هم خُلاصة البشرية، ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة).
فتأثير العالِم لا يُعرف إلا إذا فُقد من بين الناس، كما البدر في كبد السماء إذا غاب عرفنا قيمته ونوره وبهاءه وفائدته لأهل الأرض، وكذلك العالِم فكيف إذا كان الفقيد إماماً؟
موت الإمام (ع) موت الأمة
وذلك لأن الأمة لا تصدق عليها هذا الاسم إلا إذا كانت تقتدي بإمام يؤمها في حياتها، فالإمام هو المُقتدى به، والصراط الذي تسير عليه أمته في مسيرتها، فموت الإمام هو الكارثة التي تقع على رؤوس أمته، فكيف إذا كان مثل الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بعلمه، وفقهه، وفضله، ومجالسه العلمية النورانية، ومحاوراته التي سارت بها الرُّكبان؟
يقول الإمام الراحل (قدس الله روحه الطاهرة) في تأريخه لشهادة الإمام الصادق (ع): " توفي الإمام الصادق (عليه السلام) مسموماً شهيداً يوم الاثنين في 25 شوال سنة 148، وعمره 68، وقيل: 65 سنة، وقيل: 71 سنة". (حيث قال محمد بن سعيد: مات الإمام (عليه السلام) لسنة ثمان وأربعين ومائة في خلافة أبي جعفر، وهو يومئذٍ ابن إحدى وسبعين سنةً).
قتله المنصور الدوانيقي بالسُّم، حيث أعدَّ المنصور عِنباً مسموماً، وأجبر الإمام على أكله.
قال المسعودي في مروج الذهب: ولعشر سنين خلت من خلافة المنصور، توفي أبو عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب سنة 148، ودُفن بالبقيع مع أبيه وجده، وله 65 سنة، وقيل: إنه سُمَّ. (مروج الذهب: ج3 ص285، وفاة محمد بن جعفر الطالبي)
وعن أبي بصير، قال: "قُبض أبو عبد الله جعفر بن محمد وهو ابن خمس وستين سنةً في عام ثمان وأربعين ومائة، وعاش بعد أبي جعفر (عليه السلام) أربعاً وثلاثين سنةً" (بحار الأنوار: ج47، ص6)
وفي الكافي: "ومضى (عليه السلام) في شوال من سنة ثمان وأربعين ومائة، وله خمس وستون سنةً، ودفن بالبقيع" (الكافي: ج1 ص472)
وفي المصباح للكفعمي: "وتوفي (عليه السلام) يوم الاثنين في النصف من رجب سنة ثمان وأربعين ومائة مسموماً في عنب". (مصباح الكفعمي: ص523)
وقال أبو جعفر القمي: "سمَّه المنصور، ودُفن في البقيع، وقد كمل عمره خمساً وخمسين سنةً". (مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج4 ص280)
وفي رواية خمساً وستين". (من حياة الإمام الصادق (ع) الإمام الشيرازي: ص347)
والمشهور في سبب وفاة الإمام جعفر الصادق (ع) أن المنصور الدوانيقي دسَّ إليه السُّمَّ بالعنب، فانتقل إلى الله مسموماً مظلوماً في الخامس والعشرين من شوال، وكان أطول الأئمة عمراً لأنه الوحيد الذي تجاوز عمر جَدَّيْهِ رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع)، فهو تجاوز الخامسة والستين، ولذا اشتبه (أو تصحَّف) مَنْ قال غير ذلك والله العالم.
الإمام الصادق وريث جامعة الإمام الباقر (ع)
فالتاريخ المكتوب والمنقول وما تسالمت، وتوترت فيه الأخبار؛ أن الإمام الصادق (ع) هو وريث تلك الجامعة العلمية التي أنشأها أبوه العظيم الإمام الباقر (ع) الذي بقر العلم وتوسَّع فيه وجمع الطلاب في مسجده وراح يفيض عليهم من نمير علمه الإلهي، والكوني، حتى اجتمع غليه ما لم يجتمع لغيره من أهل الإسلام قديمهم وحديثهم، وكان ولده الإمام الصادق (ع) الذي عاش معه حوالي أربعة عقود من الزمن ينهل من ذلك الفيض الرباني، والبحر الصَّمداني.
وعندما انتقل إلى الرفيق الأعلى وجنة الخلد، سلَّمها بكل ما فيها من عظمة، وجموع وعلوم إلى ولده البار، ووريثه العظيم، الذي جمع الفضائل في شخصه الكريم، واجتمعت القِيم في شاخصه العظيم فكان لا نظير له في فضله، ولعمه، يقول عنه الجاحظ: "جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه"، وقال عنه مالك: (اختلفت إلى جعفر بن محمد زمانا، فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إما مصلّياً، وإما صائماً، وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدّث عن رسول الله (ص) إلا على طهارة، ولا يتكلّم بما لا يعنيه، وكان من العلماء العباد والزهّاد الذين يخشون الله، وما رأت عين، ولا سمعت أُذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادةً وورعاً).
أبو حنيفة النعمان قال: (لولا السنتان لهلك النعمان)، وقال حين سئل: مَن أفقه مَنْ رأيت؟ فقال: (ما رأيتُ أحداً أفقه من جعفر بن محمد)
قال الشهرستاني: (وهو ذو علم غزير في الدِّين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات، وقد أقام بـالمدينة مدة يُفيد الشيعة المنتمين إليه، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل العراق، وأقام بها مدة ما تعرض للإمامة قط ولا نازع أحداً في الخلافة قط، ومَنْ غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شَط، ومَنْ تعلَّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حَط).
ويقول ابن حجر بعد حديثه عن ورثة الإمام الباقر (ع): (وأكملهم جعفر الصادق، ومن ثم كان خليفته ووصيه، ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر)
قال أبو نعيم في حلية الأولياء: (ومنهم الإمام الناطق، ذو الزِّمام السَّابق، أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق، أقبل على العبادة والخضوع، وآثر العزلة والخشوع، ونهى عن الرئاسة والجموع).
وروى بسنده، عن عمرو بن أبي المقدام، قال: (كنتُ إذا نظرتُ إلى جعفر بن محمد الصادق، علمتُ أنه من سُلالة النبيين) (حلية الأولياء: ج3 ص192)
والعلامة الشبلنجي الشافعي قال في نور البصار: (ومناقبه كثيرة تكاد تفوت عدّ الحاسب، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب) (نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار: ص145)
هذا الطود العلمي الشامخ، وهذا البحر من الفضائل، إذا مات أو قُتل فالأمة تموت وتُقتل به، لأنه روحها المتحركة، وقلبها النابض، وعقلها المفكر، ولذا كانت تداعيات شهادة الإمام الصادق كبيرة جداً على الأمة الإسلامية لا سيما وأن طغاة بني العباس وسلطاتهم أخذوا وريثه ووصيه الإمام موسى بن جعفر (ع) وأودعوه السجون المختلفة ومنعوه من النور وشمِّ الهواء، ولم يدعوه حتى قتلوه بالسم روحي له الفداء.
الإمام الصادق (ع) وتربية العلماء
ورث الإمام الصادق (ع) كل ما كان لأبيه الإمام الباقر (ع) وأضاف عليه الشيء الكثير مما أعطاه الله، فجمع من الطلاب والتلاميذ ما يُشكل جامعة كبرى من أعظم وأكبر وأهم جامعات التاريخ القديم، وذلك لما وفّرت فترة الانفتاح والانفراج التي حدثت ما بين نهاية الدولة الأمويّة وقيام الدولة العباسيّة التي قامت باسمه، فشهد في زمن إمامته حرية الحركة لنشر معالم الدِّين، وأنواع العلم، وصنوف المعارف، فذُكر أنه بلغ عدد تلامذته، بنقل بعض المؤرخين: أنه كان للإمام الصادق (عليه السلام) اثنا عشر ألف تلميذ، ربَّاهم على العلم والعمل، وأصبحوا فضلاء علماء، وانتشروا في مختلف أنحاء الأرض، وأنَّ مَنْ روى عنه 4000 شخص. (من حياة الإمام الصادق (ع) الإمام الشيرازي: ص60)
ففي رجال النجاشي روى عن محمد بن عيسى قال: خرجتُ إلى الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن علي الوشاء فسألته أن يخرج لي (إليَّ) كتاب العلاء بن رزين القلاء وأبان بن عثمان الأحمر فأخرجهما إليَّ فقلتُ له: أحب أن تجيزهما لي، فقال لي: يا رحمك الله وما عجلتك اذهب فاكتبهما واسمع من بعد، فقلتُ: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمتُ أن هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإني أدركتُ في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلٌّ يقول: حدثني جعفر بن محمد) (رجال النجاشي: ص40)
ويروي السيد الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله)، فيقول: " الإمام جعفر الصادق (عليه الصلاة والسلام) تمكن في فترة معينة من تأسيس جامعات علمية كبيرة، ونشر العلوم التي يحتاجها البشر، وثقَّف المسلمين علمياً، وطوَّر الأمة الإسلامية في مختلف العلوم، حيث رُويَ عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر: إن المنصور قد كان همَّ بقتل أبي عبد الله (عليه السلام) غير مرة، فكان إذا بعثَ إليه ودعاه ليقتله، فإذا نظر إليه هابَه ولم يقتله، غير أنه منع الناس عنه (عليه السلام)، ومنعه (عليه السلام) من القعود للناس، واستقصى عليه أشدَّ الاستقصاء، حتى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح، أو طلاق، أو غير ذلك، فلا يكون علم ذلك عندهم، ولا يصلون إليه، فيعتزل الرجل وأهله، فشقَّ ذلك على شيعته وصعب عليهم، حتى ألقى الله عز وجل في روع المنصور، أن يسأل الصادق (عليه السلام) ليُتحفه بشيء من عنده، لا يكون لأحد مثله، فبعث إليه بمَخْصرة كانت للنبي (صلى الله عليه وآله) طولها ذراع، ففرح بها فرحاً شديداً، وأمر أن تُشقَّ له أربعة أرباع، وقسَّمها في أربعة مواضع، ثم قال له: "ما جزاؤك عندي، إلا أن أطلق لك، وتفشي علمك لشيعتك، ولا أتعرض لك ولا لهم، فاقعد غير محتشم، وأفتِ الناس، ولا تكن في بلد أنا فيه"، ففشى العلم عن الصادق (عليه السلام) (بحار الأنوار: ج47 ص180)
ويُعلِّق السيد الإمام الشيرازي: "ثم إن العلم هو الأساسٌ في تقدُّم الأمم وتطورها، وفي المقابل من أهم أسباب الاستبداد والدكتاتورية الجهل.. الجهل بالله، الجهل بيوم المعاد، الجهل بفقه الحياة، الجهل بأن الاستبداد يضرُّ حتى الدكتاتور، الجهل بمحكمة التاريخ.. والمتصور أن من أهم أسباب تخلف وتأخر المسلمين في زماننا هذا ناشئ من جهلهم، وقد استغل الحكام الظلمة هذا الجهل وسيطروا عليهم، وقاموا بتأخير الأمة، واضطهادها أكثر فأكثر". (من حياة الإمام الصادق (ع) الإمام الشيرازي: ص55)
وجميل ما لخَّص به جناب السيد المرجع المدرسي في حديثه عن تلك المدرسة الكبرى حيث يقول: " لعلنا لن نجد في التاريخ الإنساني مدرسة فكرية استطاعت أن تُوجِّه الأجيال المتطاولة، وتفرض عليها مبادئها وأفكارها، ثم تبني أمة حضارية مُتوحِّدة لها كيانها وذاتيتها، مثلما صنعته مدرسة الإمام الصادق (ع)، إن من الخطأ أن نُحدِّد إنجازات هذه المدرسة فيمن درس فيها وأخذ منها من معاصريها وإن كانوا كثيرين جدًّا، وإنما بما خلّفته من أفكار، وبما صنعته من رجال غيرّوا وجه التاريخ ووجهوا أمته، بل وكوَّنوا حضارته التي ظلت قروناً مستطيلة.
لقد أثبت التاريخ أن الذين استقوا من أفكار هذه المدرسة مباشرة كانوا أربعة آلاف طالب، ولكن ذلك لا يهمنا بمقدار ما يهمنا معرفة ما كان لهذه المدرسة من تأثير في تثقيف الأمة الإسلامية التي عاصرتها والتي تلتها إلى اليوم" (الإمام الصادق (ع) قدوة وأسوة: ص17)
هذا الرقم الكبير، والعدد الجم من التلاميذ والطلاب في ذلك العصر أي قبل حوالي ثلاثة عشر قرناً من الآن ليس بالأمر السهل أبداً، ولذا قلنا بأنها جامعة من أعظم جامعات التاريخ التي خرَّجت كل أولئك الأعلام والفقهاء والعلماء والأدباء الذين كان واحد منهم جابر بن حيان الكوفي الذي كتب خمسمائة رسالة في الكيمياء عن الإمام الصادق (ع) وهو إلى اليوم رمز هذا العلم.
فشهادة الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) كأنما هي شهادة الأمة الإيمانية، لأنها بمثابة شهادة المشروع العلمي والحضاري العملاق في الأمة الإسلامية، وثلمته في الأمة الإسلامية لا تندمل إلى يوم القيامة لما له من تأثير كبير على الحياة برمتها والأمة التي كان يقودها ويسددها ويعلمها في مختلف العلوم، ويُفيضُ عليها ما يكفيها لتكون أمة حضارية من أرقى الأمم في هذه الدنيا، ولكن الحكام والسلاطين يريدون الأمة بلا إمام ليتقمصوا هم هذا الثوب الإلهي كما فعلت سلاطين قريش منذ البداية.
اضف تعليق