جميع أهل البيت أكدوا على العلم والتعلّم ولكن في عهد الإمام الصادق حيث الصراع العلمي والشبهات الفكرية وظهور العديد من الفرق- استدعى الأمر أن يُسلّح الموالون بسلاح العلم أكثر من العصور الأخرى. ولذا كان الإمام الصادق يؤكد بشكل حثيث على العلم والتعلّم ومن ذلك قوله...
قبل أن نبيّن المعالم الأساسية لحركة الإمام الصادق (عليه السلام) العلمية لا بأس ببيان بعض الأمور ومنها:
1- قد يقال: لاشك أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) أحدث نهضة علمية رائدة في عصره وامتدت هذه الحركة العلمية عبر العصور المختلفة، ولكن حتى تثبت بعض الأمور التي تُنسب إليه لابد من ثبوتها بأدلّة صريحة واضحة.
فما يُنسب اليوم إلى الإمام الصادق (عليه السلام) مثل أنّه فتح باب الاجتهاد وربّى التلامذة واعتمد التخصّصات وغير ذلك لايتجاوز الاستظهارات من بعض الأدلّة وإثبات مثل هذه الأمور لايخلو من تكلّف وتحميل.
وفي جوابه يقال: من يدقّق في الأدلة يستظهر منها- كما استظهر الكثير وفيهم أهل العلم- أنّ ما نُسب للإمام الصادق (عليه السلام) صحيح وليس فيه أيّ تحمّل بدليل:
أولاً: دلالة الأدلّة- الروائيّة منها والتأريخية- إمّا بالمطابقة أو بالالتزام على ذلك.
ثانياً: تصريح أعلام العامّة والخاصة بذلك.
ثالثاً: تغيّر بعض المفاهيم عمّا هي عليه اليوم لايعني نفيها والتشكيك بها كما في الاجتهاد، فاختلاف الاجتهاد اليوم عن عصر الإمام الصادق (عليه السلام) لايسوّغ لنا نفي أصل النسبة في كون الإمام (عليه السلام) هو أوّل من فتح باب الاجتهاد.
2- حتى نستوعب كل حدث لابد أن نستعرض ظروفه التي مرّت به، ولذا كان من المفترض لنا أن نستعرض حياة الإمام الصادق (عليه السلام) كاملة ونضع النقاط على المواضع الدخيلة في الحركة العلمية له ولكنّنا أعرضنا عن ذلك رعاية للاختصار.
وبعد ذلك نقول: أهم معالم الحركة العلمية التي قادها الإمام الصادق (عليه السلام) هي:
1- التأكيد على البعد العلمي: لايخفى أنّ جميع أهل البيت (عليهم السلام) أكدوا على العلم والتعلّم ولكن في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) حيث الصراع العلمي والشبهات الفكرية وظهور العديد من الفرق- استدعى الأمر أن يُسلّح الموالون بسلاح العلم أكثر من العصور الأخرى.
ولذا كان الإمام الصادق (عليه السلام) يؤكد بشكل حثيث على العلم والتعلّم ومن ذلك قوله (عليه السلام): (ليت السياط، على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام) (1).
وقال (عليه السلام): (حديث في حلال وحرام تأخذه من صادق، خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضة) (2).
وروى بشير الدهّان، قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (لا خير فيمن لا يتفقّه من أصحابنا يا بشير ! إنّ الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم) (3).
وقال (عليه السلام): تفقّهوا فإنّه يوشك أن يُحتاج إليكم(4).
وقال (عليه السلام): (إذا كان يوم القيامة جمع الله عزّ وجلّ الناس في صعيد واحد، ووضعت الموازين فيوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء) (5).
وقال (عليه السلام): (عالم أفضل من ألف عابد وألف زاهد(6).
2- الإرجاع إلى الأصحاب: اعتاد المسلمون منذ بدء الإسلام على تلقّي أمور دينهم من أهل البيت (عليهم السلام) بدءاً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى سائر الأئمة الأطهار (عليهم السلام) الذين أمر الله عزّ وجلّ بالرجوع إليهم والسؤال منهم، فقال: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) (7).
وحيث إنّ المسلمين انتشروا في مختلف البلاد وكثر عددهم وصار من الصعب عليهم الرجوع إلى الأئمة (عليهم السلام) والتلقّي منهم مباشرة وتكالب الآخرين على الشيعة وتحيّنهم الفرص كي يضلّوهم عن خط أهل البيت (عليهم السلام) لذا عمد الإمام الصادق (عليه السلام) إلى طريقة أخرى تصونهم من أهل الفتن وتبصّرهم أمور دينهم ألا وهي إرجاعهم للثقات من أصحابه ممّن أخذوا معالم دينهم عنهم (عليهم السلام) وتربّوا عليهم تربية سليمة بحيث يمكنهم بيان أحكام الله وحل مشاكل الناس.
وينبغي الالتفات إلى أنّهم (عليهم السلام) أرجعوا الموالين إلى خيرة أصحابهم ممّن زقّوا العلم زقاً، وتميّزوا بالتقى والصلاح والصلابة في العقيدة ولم يرجعوهم إلى أناس عاديين لا يفقهون أمور الدين.
فمن الذين أرجع إليهم الإمام الصادق (عليه السلام) زرارة بن أعين، قال (عليه السلام) للفيض بن المختار: (إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس مشيراً إلى زرارة) (8).
ويقول عبد الله بن أبي يعفور: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه، فقال: (ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنّه سمع من أبي، وكان عنده وجيها) (9).
وقال (عليه السلام) ليونس بن عمّار: أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) فلا يجوز لك أن تردّه(10).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) لشعيب العقرقوفي، حيث قال له: ربّما احتجنا أن نسأل الشيء فممّن نسأل؟
قال: عليك بالأسدي، يعني: أبا بصير(11).
وروی عن يونس بن يعقوب، قال: كنّا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: أما لكم من مفزع؟!أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟!ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النصري؟(12).
وقوله لابن أبي يعفور حين سأله عمّن يرجع إليه إذا احتاج: «ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي إلخ».
3- فتح باب التخصّصات: وذلك بعد تشخيص مؤهّلات الأصحاب وكفاءاتهم وميولاتهم، فخصّ أبان بن تغلب بالفقه، وكان أبان كما عن إبراهيم بن يزيد النخعي مقدّماً في كل فن من العلوم ومنها الفقه والحديث والأدب واللغة والنحو وله كتب كثيرة، وكان الإمام (عليه السلام) يُرجع إلى أبان في تلقّي الأحاديث، فعن عثمان: أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال له: (إنّ أبان بن تغلب روى عنّي ثلاثين ألف حديث، فاروها عنّي) (13).
وعن عن سليم بن أبي حيّة، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) ، فلما أردت أن أفارقه ودّعته وقلت: أحب أن تزودني، فقال: ايت أبان بن تغلب فإنه قد سمع منّي حديثا كثيرا فما روى لك فاروه عنّي(14).
وأوكل (عليه السلام) محمد بن علي بن النعمان الكوفي الصيرفي علوم العقيدة والمناظرة، وقد بلغ الأمر أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) نهى تلامذته عن مناظرة الآخرين ماعداه.
يقول أبو خالد الكابلي: رأيت أبا جعفر صاحب الطاق وهو قاعد في الروضة قد قطع أهل المدينة أزراره، وهو دائب يجيبهم ويسألونه، فدنوت منه فقلت: إنّ أبا عبد اللَّه ينهانا عن الكلام.
فقال: أمرك أن تقول لي؟
فقلت: لا واللَّه، ولكن أمرني أن لا أُكلَّم أحداً، قال: فاذهب إليه وأطعه فيما أمرك.
فدخلت على أبي عبد اللَّه (عليه السلام) فأخبرته بقصة صاحب الطاق، وما قلت له، وقوله لي: اذهب فأطعه فيما أمرك، فتبسّم أبو عبد اللَّه (عليه السلام) وقال: يا أبا خالد إنّ صاحب الطاق يكلَّم الناس فيطير وينقض، وأنت إن قصوك لن تطير(15).
وجعل مؤمن الطاق للمساجلة في الكلام، وهشام بن الحكم للمناظرة في الإمامة والعقائد.
وبل بلغت مرتبته هشام وعلوّه عند الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه دخل عليه بمنى وهو غلام أوّل ما اختط عارضاه وفي مجلسه شيوخ الشيعة: كحمران بن أعين، وقيس الماصر، ويونس بن يعقوب، وأبو جعفر الأحول، وغيرهم، فرفعه على جماعتهم وليس فيهم إلّا من هو أكبر سنّا منه، ولمّا رأى الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ ذلك الفعل كبر على أصحابه، قال: (هذا ناصرنا بقلبه، ولسانه، ويده).
وقال (عليه السلام) له بعد أن أجابه على سؤاله عن أسماء اللّه عزّ وجلّ واشتقاقها: (أفهمت يا هشام فهماً تدفع به أعدائنا الملحدين مع اللّه عزّ وجلّ؟
فقال هشام: نعم.
فقال الإمام الصادق (عليه السلام): (نفعك اللّه به وثبّتك.
قال هشام: فو اللّه ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا) (16).
وقال الفيض بن المختار للإمام الصادق (عليه السلام) : (إنّى لأجلس في حلقات أصحابنا بالكوفة، فأكاد أشك باختلافهم في حديثهم، حتى أرجع إلى المفضّل، فيقضي من ذلك عليّ ما تستريح إليه نفسى، و يطمئن إليه قلبي، قال الإمام: أجل هو كما ذكرت) (17).
3- التأكيد على نشر العلوم: لم يقتصر الإمام الصادق (عليه السلام) على حث الموالين على التعلّم بل دعاهم إلى نشر علومهم وإنقاذ الناس من هلكات الشبهات وبدع المُحدثين من أهل الضلال، فقد ورد عنه (عليه السلام) أنّه قال: (زكاة العلم أن تعلّمه عباد الله) (18).
وقال (عليه السلام): (لكل شيء زكاة وزكاة العلم أن يعلّمه أهله) (19).
وعن أبي بصير، قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من علّم خيراً فله أجره، قلت: فإن علّم ذلك غيره، قال: يجرى له وإن علّمه الناس كلّهم وزاد فيه بعضهم، قلت: وإن مات؟ قال: وإن مات) (20).
وقال (عليه السلام): (قرأت في كتاب علي (عليه السلام): إنّ الله لم يأخذ على الجهّال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهال، لأنّ العلم كان قبل الجهل) (21).
وعن الحارث بن المغيرة، قال: (لقيني أبو عبد الله (عليه السلام) في بعض طرق المدنية ليلاً فقال لي: يا حارث، فقلت: نعم، فقال: أما لتَحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم، ثم مضى، قال: أتيته فاستأذنت عليه، فقلت: جعلت فداك لم قلت: لتحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم، فقد دخلني من ذلك أمر عظيم؟
فقال لي: نعم، ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهونه ممّا يدخل علينا به الأذى والعيب عند الناس، أن تأتوه فتؤنّبوه وتعظوه، وتقولوا له قولاً بليغاً، فقلت له: إذاً لا يقبل منّا ولا يطيعنا، قال: فقال: إذاً فاهجروه عند ذلك واجتنبوا مجالسته(22).
4- فتح باب المناظرات: ومن الأمور التي اعتمدها الإمام الصادق (عليه السلام) في حركته العلمية هي فتح باب المناظرات والنقاش والمجادلة بالتي هي أحسن.
وقد ربّى الإمام (عليه السلام) عدّة من أصحابه ممّن لهم الأهلية في الحوار والسجال على المناظرة ودعاهم إلى محاججة الآخرين.
ففي الحديث عن أحمد بن محمد بسنده عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) ، قال(: قال لي: خاصموهم وبيّنوا لهم الهدى الذي أنتم عليه، وبيّنوا لهم ضلالهم وباهلوهم في علي (عليه السلام) ) (23).
وعن أبان بن تغلب، قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): جالس أهل المدينة فإنّي أحب أن يرى في شيعتنا مثلك) (24).
وقد أعطى الإمام الصادق (عليه السلام) أصحابه من المكانة في المناظرة بحيث كان يصرّح أنّ من يغلبهم فهو غالب له، ففي الحديث عن عن هشام بن سالم، قال: (كنا عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) جماعة من أصحابه، فورد رجل من أهل الشام فاستأذن فأذن له، فلمّا دخل سلّم فأمره أبو عبد اللّه (عليه السلام) بالجلوس، ثم قال له: حاجتك أيّها الرجل؟
قال: بلغني أنّك عالم بكل ما تسأل عنه فصرت إليك لأناظرك.
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): في ما ذا؟
قال: في القرآن وقطعه وإسكانه وخفضه ونصبه ورفعه، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): يا حمران دونك الرجل، فقال الرجل: إنّما أريدك أنت لا حمران، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): إن غلبت حمران فقد غلبتني) (25).
وقال (عليه السلام) لبعض أصحابه: (حاجّوا الناس بكلامي، فإن حاجّوكم فأنا المحجوج) (26).
وقال (عليه السلام) لطائفة من أصحابه: بيّنوا للناس الهدى الذي أنتم عليه، وبيّنوا لهم ضلالهم الذي هم عليه وباهلوهم في علي بن أبي طالب(27).
وكان (عليه السلام) قد خصّص من صحابته من لهم الأهلية في خوض المناظرات والجدال ولم يسمح للجميع المناظرة مع الآخرين.
يقول عبد الأعلى: (قلت للصادق (عليه السلام): إنّ الناس يعيبون عليّ بالكلام، وأنا أكلّم
الناس؟
فقال: أمّا مثلك من يقع ثم يطير، فنعم، وأمّا من يقع ثم لا يطير فلا) (28).
وروي عن الطيار، قال: (قلت للصادق (عليه السلام): بلغني أنّك كرهت مناظرة الناس؟
فقال: أمّا مثلك فلا يكره من إذا طار يُحسن أن يقع، وإن وقع يُحسن أن يطير، فمن كان هكذا لا نكرهه) (29).
وروي عنه (عليه السلام) أنّه نهى رجلاً عن الكلام وأمر آخر به، فقال له بعض أصحابه: (جعلت فداك، نهيت فلاناً عن الكلام وأمرت هذا به؟
فقال: هذا أبصر بالحجج، وأرفق منه) (30).
بل إنّه (عليه السلام) كان يتابع مناظرات أصحابه ويأنس بها ويخبر بها سائر أصحابه ويشهد لذلك مارواه يونس بن يعقوب، قال: (كان عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين، ومحمد بن النعمان، وهشام ابن سالم، والطيّار، وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟
فقال هشام: يا ابن رسول الله إنّي أجلّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبد الله: إذا أمرتكم بشيء فافعلوا.
قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك علي فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء مُتزر بها من صوف، وشملة مرتد بها والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت: أيها العالم إنّي رجل غريب تأذن لي في مسألة؟
فقال لي: نعم، فقلت له: ألك عين؟
فقال: يا بني أيّ شي هذا من السؤال؟
وشيء تراه كيف تسأل عنه؟
فقلت: هكذا مسألتي، فقال: يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء قلت: أجبني فيه، قال لي: سل. قلت: ألك عين؟
قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟
قال: أرى بها الألوان والأشخاص، قلت: فلك أنف؟
قال: نعم قلت: فما تصنع به؟
قال: أشم به الرائحة قلت: ألك فم؟
قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟
قال: أذوق به الطعم، قلت: فلك اُذن؟
قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟
قال: أسمع بها الصوت، قلت: ألك قلب؟
قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟
قال: أميز به كلما ورد على هذه الجوارح والحواس، قلت: أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟
فقال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة، قال: يا بني إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك، قال هشام: فقلت له: فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟
قال: نعم، قلت: لابد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح؟
قال: نعم، فقلت له: يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح ويتيقن به ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك؟
قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً، ثم التفت إلي، فقال لي: أنت هشام بن الحكم؟
فقلت: لا، قال: أمن جلسائه؟
قلت: لا، قال: فمن أين أنت؟
قال: قلت: من أهل الكوفة، قال: فأنت إذا هو، ثم ضمّني إليه، وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتى قمت، قال: فضحك أبو عبد الله (عليه السلام) وقال: يا هشام من علّمك هذا؟
قلت: شيء أخذته منك وألفته، فقال: هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى) (31).
وكان (عليه السلام) يُقيّم أصحابه في جودة المناظرة والأهلية في مجابهة آراء الآخرين ويبين لهم نقاط القوة والضعف لديهم.
يقول يونس بن يعقوب- في حديث الشامي الذي قصد الإمام الصادق (عليه السلام) في موسم الحج ليناظره فناظره أصحابه-: (ثم التفت أبو عبد الله (عليه السلام) إلى حمران، فقال: تجري الكلام على الأثر
فتصيب، والتفت إلى هشام بن سالم، فقال: تريد الأثر ولا تعرفه، ثم التفت إلى الأحول، فقال: قياس رواغ، تكسر باطلاً بباطل إلا أنّ باطلك أظهر، ثم التفت إلى قيس بن الماصر، فقال: تتكلّم وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبعد ما تكون منه، تمزج الحق مع الباطل وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل، أنت والأحول قفازان حاذقان، قال يونس: فظننت والله أنّه يقول لهشام قريباً ممّا قال لهما، ثم قال: يا هشام لا تكاد تقع، تلوي رجليك إذا هممت بالأرض طرت، مثلك فليكلّم الناس، فاتق الزلّة، والشفاعة من ورائها إن شاء الله(32).
وهو صريح في أنّه (عليه السلام) كان يقيّم مستويات أصحابه ويرشدهم إلى نقاط القوة والضعف لديهم حين المناظرة.
5-: تأسيس القواعد: لم يدع أهل البيت (عليهم السلام) أصحابهم إلى الفتيا دون أن يزوّدوهم بالقواعد والأصول التي يستنبط منها الأحكام الشرعية خاصة أنّ الظروف آنذاك لم تكن متاحة في جميع الأوقات للوصول إلى المعصوم (عليه السلام) وتلقّي الحكم منه.
ومن هنا عمد المعصومون خاصة الإمام الصادق (عليه السلام) إلى تعليم الأصحاب بالقواعد الكلية المُمهدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة.
ففي تعارض الأحاديث مثلاً أسس الإمام (عليه السلام) قواعد ميتنة لتمييز الوظيفة والضابطة للأخذ بالخبر.
يقول العلاء بن الفضيل: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يُغمى عليه يوماً إلى الليل ثم يفيق، قال: إن أفاق قبل غروب الشمس فعليه قضاء يومه هذا، فإن أغمي عليه أياماً ذوات عدد فليس عليه أن يقضي إلا آخر أيامه إن أفاق قبل غروب الشمس، وإلا فليس عليه قضاء) (33).
ومن القواعد المهمّة قاعدة رفع التعارض والتنافي بين الأخبار التي تعد من أهم القواعد المؤثّرة في استنباط الحكم الشرعي.
يقول عمر بن حنظلة: (سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما- إلى أن قال: فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم، فقال: الحكم ماحكم به أعدلهما وافقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال: فقال: يُنظر إلى ما كان رواياتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه- إلى أن قال: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال: يُنظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة.
قلت: جعلت فداك إن رأيت أن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة و وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟.
فقال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد، فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟
قال: ينُظر إلى ما هم اليه أميل حكّامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر.
قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟
قال: إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات) (34).
وهناك العديد من القواعد الفقهية التي علمها الإمام الصادق (عليه السلام) تلامذته ومنها:
قاعدة سوق المسلمين التي لها مدخلية في كثير من الأحكام منها الطهارة والحلية، ومن أدلتها ما ورد عن الحلبي، قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخفّاف التي تباع في السوق؟
فقال: اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميّت بعينه) (35).
ومنها قاعدة يد المسلم، يقول بكر بن حبيب: (سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الجبن وأنّه يصنع فيه الإنفحة، قال (عليه السلام): لا يصلح ثم أرسل بدرهم، فقال: اشتر بدرهم من رجل مسلم ولا تسأله عن شيء) (36).
وغيرها من القواعد التي أسّسها الإمام الصادق (عليه السلام) وعلّمها تلامذته.
6- فتح باب الاجتهاد: من الأمور التي تميّز بها التشيّع عمّا سواه من المذاهب الأخرى هو فتح باب الاجتهاد بمعناه الصحيح وهو: استنباط الأحكام الشرعيّة من الكتاب والسنّة بمعونة القواعد الأصولية المستدل على صحّتها وفقا للأُسس الموضوعة للمذهب، ولذلك لا يدخل القياس، ولا الاستحسان، ولا الاعتماد على الرأي الشخصي في عملية الاستنباط، لبطلانها وخروجها بصورة موضوعية عن ذلك بعد تأكيد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على بطلانها.
وقبل أن نبيّن تأكيد الإمام الصادق (عليه السلام) على تعليم أصحابه وتصدّيهم للإفتاء ينبغي أن نوضّح مدى تحذيره وتشديده على أن لا يفتي الإنسان بغير علم ومن ذلك ما ورد عن المفضّل بن يزيد، قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال: أنهاك أن تدين الله بالباطل، وتفتي الناس بما لا تعلم) (37).
وقال (عليه السلام): (إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك: إيّاك أن تفتي الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم) (38).
وعن مسعدة بن صدقة، قال: (قال لي جعفر بن محمد (عليه السلام): من أفتى الناس برأيه فقد دان بما لا يعلم، ومن دان بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل وحرم فيما لا يعلم(39).
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يحارب الذين يتصدّون للفتيا دون علم ويظهر لهم أنّهم مسؤولون عن فتواهم، وإلى ذلك يشير سعيد بن أبي الخضيب البجلي، قال: (كنت مع ابن أبي ليلى مزامله حتى جئنا إلى المدينة فبينا نحن في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ دخل جعفر بن محمد (عليهما السلام) ، فقلت لابن أبي ليلى: تقوم بنا إليه؟
فقال: وما نصنع عنده؟
فقلت: نسائله ونحدّثه، فقال: قم، فقمنا إليه فسائلني عن نفسي وأهلي ثمَّ قال: من هذا معك؟
فقلت: ابن أبي ليلى قاضي المسلمين، فقال له: أنت ابن أبي ليلى قاضي المسلمين؟
فقال: نعم. فقال: تأخذ مال هذا فتعطيه هذا؟ وتقتل هذا وتفرّق بين المرء وزوجه لا تخاف في ذلك أحدا؟
قال: نعم.
قال: فبأي شيء تقضي؟
قال: بما بلغني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن علي (عليه السلام) وأبي بكر وعمر، قال: فبلغك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إنّ عليا أقضاكم؟
قال: نعم، قال: فكيف تقضي بغير قضاء علي (عليه السلام) وقد بلغك هذا؟ فما تقول: إذا جيء بأرض من فضة ثمَّ أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيدك وأوقفك بين يدي ربك وقال: يا رب إنّ هذا قضى بغير ما قضيت، قال: فاصفرّ وجه ابن أبي ليلى حتى عاد مثل الزعفران ثمَّ قال لي: التمس لنفسك زميلاً والله لا أكلّمك من رأسي كلمة أبداً) (40).
عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: (كان أبو عبد الله (عليه السلام) قاعداً في حلقة ربيعة الرأي فجاء أعرابي فسأل ربيعة عن مسألة فأجابه، فلمّا سكت، قال له الأعرابي: أهو في عنقك؟
فسكت عنه ربيعة فلم يرد عليه شيئاً، فأعاد المسألة فأجابه بمثل ذلك، فقال له الأعرابي: أهو في عنقك؟
فسكت ربيعة، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): هو في عنقه، قال: أو لم يقل كل مفت ضامن) (41).
وبالرغم من ذلك كان الإمام الصادق (عليه السلام) يحثّ أصحابه على الاجتهاد ومزاولة عملية الاستنباط والتصدي للفتيا لكي لا يرجع الناس إلى الجهّال فيفتونهم بغير علم والشواهد على ذلك كثيرة منها: ما ورد عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) امسح عليه(42).
وفي الحديث دعوة جلية لاستنباط الأحكام من كتاب وفق القواعد قاعدة فقهيّة مشهورة تناولها الفقهاء مفصلاً في مباحثهم المختلفة ألا وهي قاعدة(لاحرج).
وعن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبى عبد اللَّه (عليه السلام) قال: (بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟
قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج.
إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدرى من هو، فأقول جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا فأدخل قولكم فيما بين ذلك.
فقال لي أبو عبد اللَّه: «اصنع كذا فإنّي كذا أصنع(43).
وعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا) (44).
7- التأكيد على البعد التربوي: وهو جانب مهم في حركة الإمام الصادق (عليه السلام) حيث أدّب أصحابه فأحسن أدبهم، وربّاهم تربية صالحة بحيث صاروا زيناً للتشيّع وفخراً له.
وقد تجسّد البعد التربوي في مجالين:
الأول: الوصايا التربوية التي كان الإمام الصادق (عليه السلام) يوصي بها أصحابه وهي إمّا وصايا عامّة لكافة الأصحاب ومن ذلك مانقله إسماعيل بن جابر، قال: إنّه (عليه السلام) كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه وأمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها.
وقال إسماعيل بن مخلّد السراج: خرجت هذه الرسالة من أبي عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابه: بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد فاسألوا ربّكم العافية وعليكم بالدعة والوقار والسكينة، وعليكم بالحياء والتنزّه عمّا تنزّه عنه الصالحون قبلكم، وعليكم بمجاملة أهل الباطل، تحمّلوا الضيم منهم وإيّاكم ومماظتهم، دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام، فإنّه لا بد لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقيّة التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم، فإذا ابتليتم بذلك منهم فإنّهم سيؤذونكم وتعرفون في وجوههم المنكر، ولولا أن الله تعالى يدفعهم عنكم لسطوا بكم وما في صدورهم من العداوة والبغضاء أكثر ممّا يبدون لكم، مجالسكم ومجالسهم واحدة وأرواحكم وأرواحهم مختلفة لا تأتلف، لا تحبّونهم أبداً ولا يحبّونكم غير أنّ الله تعالى أكرمكم بالحق وبصّركموه ولم يجعلهم من أهله فتجاملونهم وتصبرون عليهم وهم لا مجاملة لهم ولا صبر لهم على شيء وحيلهم وسواس بعضهم إلى بعض فإنّ أعداء الله إن استطاعوا صدّوكم عن الحق، فيعصمكم الله من ذلك، فاتقوا الله وكفّوا ألسنتكم إلا من خير...) (45).
وهي رسالة طويلة حوت على وصايا تربوية مفصّلة قيّمة، وكان الأصحاب قد اعتنوا بها غاية العناية وتعاهدوها عقيب الصلاة ممّا يدل على شدّة اهتمامهم بها وحرصهم على العمل بمضامينها، والتأملّ في مفاهيمها.
وعن يحيى بن العلاء، وإسحاق بن عمّار جميعاً، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قالا: (ما ودّعنا قط إلا أوصانا بخصلتين: عليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، فإنّهما مفتاح الرزق(46).
وهناك وصايا خاصة من الإمام (عليه السلام) لبعض أصحابه ومنها ما رواه سفيان الثوري، قال: (دخلت على الصادق (عليه السلام) ، فقلت له: أوصني بوصيّة أحفظها من بعدك؟ قال (عليه السلام): وتحفظ يا سفيان؟
قلت: أجل يا ابن بنت رسول الله.
قال (عليه السلام): يا سفيان لا مرّوة لكذوب، ولا راحة لحسود، ولا إخاء لملوك، ولا خلّة لمختال، ولا سؤدد لسيء الخلق.
ثم أمسك (عليه السلام) ، فقلت: يا ابن بنت رسول الله زدني؟
فقال (عليه السلام): يا سفيان ثق بالله تكن عارفاً، وارض بما قسمه لك تكن غنياً، صاحب بمثل
ما يصاحبونك به تزدد إيماناً، ولا تصاحب الفاجر فيعلّمك من فجوره، وشاور في أمرك الذين يخشون الله عزّ وجلّ.
ثم أمسك (عليه السلام) ، فقلت: يا ابن بنت رسول الله زدني؟
فقال (عليه السلام): يا سفيان من أراد عزّاً بلا سلطان، وكثرة بلا إخوان، وهيبة بلا مال فلينتقل من ذلّ معاصي الله إلى عزّ طاعته.
ثم أمسك (عليه السلام) ، فقلت: يا ابن بنت رسول الله زدني؟
فقال (عليه السلام): يا سفيان أدّبني أبي (عليه السلام) بثلاث ونهاني عن ثلاث: فأمّا اللواتي أدّبني بهن فإنّه قال لي: يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن لا يقيد ألفاظه يندم، ومن يدخل مداخل السوء يُتهم.
قلت: يا ابن بنت رسول الله فما الثلاث اللواتي نهاك عنهن؟
قال (عليه السلام): نهاني أن أصاحب حاسد نعمة، وشامتاً بمصيبة أوحامل نميمة) (47).
وقال عمرو بن أبي المقدام: (قال لي أبو عبدالله (عليه السلام) في أول مرّة دخلت عليه: تعلّموا الصدق قبل الحديث(48).
الثاني: المواقف التربوية العملية التي كان يتخذها الإمام (عليه السلام) أمام أصحاب وحرصه البيّن على تجسيد البعد التربوي عملياً وليس نظرياً فحسب.
وهذا كان جلياً لكل من عاشره أو خالطه أو حتى رآه، فإنّ حياته (عليه السلام) كانت مدرسة تربوية كاملة، يقول حمّاد اللحام: (أتى رجل أبا عبد الله (عليه السلام) ، فقال: إنّ فلاناً- ابن عمّك- ذكرك، فما ترك شيئاً من الوقيعة والشتيمة إلا قاله فيك، فقال أبوعبدالله (عليه السلام) للجارية: إيتيني بوضوء، فتوضأ ودخل، فقلت في نفسي يدعو عليه فصلى ركعتين، فقال: يا رب هو حقّي قد وهبته له وأنت أجود منّي وأكرم، فهبه لي ولا تؤاخذه بي ولا تقايسه، ثم رقّ فلم يزل يدعو فجعلت أتعجّب) (49).
ولمّا حضرته الوفاة، قال: (أعطوا الحسن بن علي سبعين ديناراً، فقيل له: أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة؟
قال: ويحك ما تقرأ القرآن: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) (50) (51).
8- الرجوع إلى العترة: مقابل المقولة المشهورة(حسبنا كتاب الله) أكد أهل البيت (عليهم السلام) ومنهم الإمام الصادق (عليه السلام) على الرجوع إليهم وصرّح لأصحابه أنّ وظيفتهم هي الرجوع إليهم وطرق أبوابهم
ففي الحديث أنّ حمزة بن الطيار عرض على أبي عبد الله (عليه السلام) بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعاً منها قال له: (كف واسكت، ثمَّ قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبّت والردّ إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلو عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحق قال الله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (52).
وعن زيد الشحّام، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، في قول الله عز وجل: (فلينظر الانسان إلى طعامه) ، قال: قلت: ما طعامه؟
قال علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه) (53).
وعن الحجّاج الخيبري، قال(: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّا نكون في الموضع فيروى عنكم الحديث العظيم فيقول بعضنا لبعض: القول قولهم، فيشقّ ذلك على بعضنا، فقال: كأنّك تريد أن تكون إماماً يقتدى بك أو به، من ردّ إلينا فقد سلم(54).
من علوم صادق آل محمد (عليهم السلام)
ترك الإمام الصادق (عليه السلام) من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر ذكره في البلدان.
وليس هذا بغريب أبداً، فهو ينتمي إلى أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وخزّان العلم.
فهو وارث علوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصيّه أميرالمؤمنين (عليه السلام) الذي ملأ الدنيا بعلومه وفضائله.
وما نُقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) لا يبلغ مقدار قطرة من بحر لجّي متلاطم الأمواج ولكن للأسف لم تسنح الظروف له أن ينشر من علوم آل محمد (عليهم السلام) إلا النزير...
وقد يعترض على ذلك، فيقال: إنّ الإمام الصادق (عليه السلام) عاش الفترة الذهبيّة وسنحت له الظروف بأن ينشر من علومه ويمارس دوره الريادي في مختلف المجالات.
وفي جوابه يقال: نعم عاش تلك الفترة وساهم ذلك كثير في إيصال ما يمكن إيصال للعالم من معارف أهل البيت (عليهم السلام) إلا أنّ هذه الفترة كانت قليلة جداً، فلم تستمر طويلاً حتى شرع العبّاسيون بالتضييق عليه والحد دون أن يمارس دوره الإلهي.
وبالرغم من ذلك فقد بلغنا عنه من العلوم الكثير ومن ذلك:
1- العقائد:
حيث نشر الكثير من الأمور الاعتقادية وبيّن الأدلة فيها، ومنها الدليل على وجود الله عزّ وجلّ، وصفاته، وكان ذلك عادة من خلال المناظرات التي كان يخوضها مع المُلحدين.
يروى أنّ أبا العوجاء جاء إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له: (ما اسمك؟
فلم يجبه، وأقبل (عليه السلام) على غيره فانكفى راجعاً إلى أصحابه، فقالوا: ما وراك؟
قال: شر ابتدأني فسألني عن اسمي فإن كنت قلت: عبد الكريم فيقول: من هذا الكريم الذي أنت عبده؟فإمّا أقر بمليك، وإمّا اُظهر منّي ما أكتم، فقالوا: انصرف عنّا، فلما انصرف قال (عليه السلام) وأقبل ابن
أبي العوجاء إلى أصحابه محجوجاً: قد ظهر عليه ذلّة الغلبة، فقال من قال منهم: إنّ هذه للحجّة الدامغة، صدق إن لم يكن خير يرجى ولا شرّ يُتّقى فالناس شُرّع سواء، وإن لم يكن منقلب إلى ثواب وعقاب فقد هلكنا، فقال ابن أبي العوجاء لأصحابه: أوليس بابن الذي نكل بالخلق وأمر بالحلق وشوّه عوراتهم وفرّق أموالهم وحرّم نسائهم(55).
وسأله أبو شاكر الديصاني، فقال: (ما الدليل على أنّ لك صانعاً؟
فقال (عليه السلام): وجدت نفسي لا تخلو من إحدى الجهتين، إمّا أن أكون صنعتها وكانت موجودة، أو صنعتها وكانت معدومة، فإن كنت صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيت بوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يُحدث شيئاً، فقد ثبت المعنى الثالث أنّ لي صانعاً وهو الله رب العالمين) (56).
كما أنه (عليه السلام) نفى شبهة التجسيم التي كان يثيرها الزنادقة وروجوا لها، فقال: (الجسم محدود متناه والصورة محدودة متناهية فإذا احتمل الحد احتمل الزيادة والنقصان وإذا احتمل
الزيادة والنقصان كان مخلوقا قال: قلت: فما أقول؟
قال: لا جسم ولا صورة وهو مجسّم الأجسام ومصوّر الصور، لم يتجزّء ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق ولا بين المنشئ والمنشأ لكن هوالمنشىء فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئاً) (57).
وعن سليمان بن مهران، قال(: قلت لجعفر بن محمد (عليهما السلام) هل يجوز أن نقول: إنّ الله عزّ وجل في مكان؟ فقال: سبحان الله وتعالى عن ذلك إنه لو كان في مكان لكان مُحدثاً لأنّ الكائن في مكان محتاج إلى المكان، والاحتياج من صفات الحدث، لا من صفات القديم) (58).
2- علم الفقه:
كان الإمام الصادق (عليه السلام) أفقه الناس على الإطلاق بشهادة كل من عاصر ومنهم أئمة المذاهب الأربعة الذين أخذوا عنه علومهم.
يقول الحسن بن زياد: (سمعت أبا حنيفة وقد سئل من أفقه من رأيت؟ قال: جعفر بن محمد لما أقدمه المنصور بعث إلي، فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من مسائلك الشداد.
فهيّأت له أربعين مسألة، ثم بعث إلي أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته.
فدخلت عليه، وجعفر جالس عن يمنه، فلما بصرت به، دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت عليه، فأومأ إليّ فجلست، ثم التفت إليه، فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة، قال: نعم أعرفه، ثم التفت إليّ، فقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد الله من مسائلك فجعلت أُلقي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً حتى أتيت على الأربعين مسألة فما أخلّ منها بشيء، ثم قال أبو حنيفة: أليس أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟) (59).
وروى زرارة، فقال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلني الله فداك أسألك في الحج منذ أربعين عاماً فتفتيني، فقال: (يا زرارة بيت يحج قبل آدم (عليه السلام) بألفي عام تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاماً؟!) (60).
3- علم الفلك:
روى أبان بن تغلب في خبر: أنّه دخل يماني على الصادق (عليه السلام) ، فقال له: مرحباً بك يا سعد، فقال الرجل: بهذا الاسم سمّتني أُمّي وقلّ من يعرفني به، فقال: صدقت يا سعد المولى،
فقال: جعلت فداك بهذا كنت اُلقّب، فقال: لا خير في اللقب إنّ الله يقول: (ولا
تنابزوا بالألقاب) ما صناعتك يا سعد؟
قال: أنا من أهل بيت ننظر في النجوم، فقال: كم ضوء الشمس على ضوء القمر درجة؟
قال: لا أدري، قال: فكم ضوء القمر على ضوء الزهرة درجة؟
قال: لا أدري، قال: فكم للمشتري من ضوء عطارد؟
قال: لا أدري، قال: فما اسم النجوم التي إذا طلعت هاجت البقر؟
قال: لا أدري، فقال: يا أخا أهل اليمن عندكم علماء؟
قال: نعم إنّ عالمهم ليزجر الطير ويقفو الأثر في الساعة الواحدة مسيرة سير الراكب المُجد، فقال (عليه السلام): إنّ عالم المدينة أعلم من عالم اليمن لأنّ عالم المدينة ينتهي إلى حيث لا يقفو الأثر ويزجر الطير ويعلم ما في اللحظة مسيرة الشمس فقطع اثنى عشر برجاً واثنى عشر بحراً، واثنى عشر عالماً، قال: ما ظننت أنّ أحداً يعلم هذا ويدري) (61).
4- علم الطب:
روى الربيع صاحب المنصور، قال: (حضر أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
مجلس المنصور يوماً وعنده رجل من الهند يقرأ كتب الطب، فجعل أبو عبد الله الصادق
جعفر بن محمد (عليهما السلام) ينصت لقراءته، فلما فرغ الهندي قال له: يا أبا عبد الله: أتريد ممّا معي شيئا؟ قال: لا، فإنّ ما معي خير مما معك، قال: وما هو؟
قال: أداوي الحار بالبارد، والبارد بالحار، والرطب باليابس، واليابس بالرطب، وأرد الأمر كلّه
إلى الله عزّ وجلّ، وأستعمل ما قاله رسوله (صلى الله عليه وآله) وأعلم أنّ المعدة بيت الداء والحمية هي الدواء، وأعود البدن ما اعتاد، فقال الهندي: وهل الطب إلا هذا، فقال الصادق (عليه السلام): أفتراني عن كتب الطب أخذت؟
قال: نعم، قال: لا والله ما أخذت إلا عن الله سبحانه، فأخبرني أنا أعلم بالطب أم أنت؟
فقال الهندي: بل أنا، قال الصادق (عليه السلام): فأسألك شيئاً؟
قال: سل، قال (عليه السلام): أخبرني يا هندي لم كان في الرأس شؤون؟
قال: لا أعلم، قال: فلم جعل الشعر عليه من فوقه؟
قال: لا أعلم، قال: فلم خلت الجبهة من الشعر؟
قال: لا أعلم، قال: فلم كان لها تخطيط وأسارير؟
قال: لا أعلم، قال: فلم كان الحاجبان من فوق العينين؟
قال: لا أعلم، قال: فلم جعلت العينان كاللوزتين؟ قال: لا أعلم، قال: فلم جعل الأنف فيما بينهما؟ قال: لا أعلم، قال: ولم كان ثقب الأنف في أسفله؟، قال: لا أعلم، قال: فلم جعلت الشفّة والشارب من فوق الفم؟
قال: لا أعلم، قال: فلم احتد السن وعرض الضرس وطال الناب؟
قال: لا أعلم، قال: فلم جعلت اللحية للرجال؟
قال: لا أعلم، قال: فلم خلت الكفان من الشعر؟
قال: لا أعلم، قال: فلم خلا الظفر والشعر من الحياة؟
قال: لا أعلم، قال: فلم كان القلب كحب الصنوبر؟
قال: لا أعلم، قال: فلم كانت الرية قطعتين وجعل حركتها في موضعها؟
قال: لا أعلم، قال: فلم كانت الكبد حدباء؟
قال: لا أعلم، قال: فلم كانت الكلية كحب اللوبيا؟
قال: لا أعلم، قال: فلم جعل طي الركبتين إلى خلف؟
قال: لا أعلم قال: فلم تخصرت القدمان؟
قال: لا أعلم...) (62).
5- علم الجفر:
الجفر في الأصل ولد الشاة إذا عظم واستكرش، ولعل مبدأ هذا العلم كان يُكتب على جلد ولد الشاة فسُمّي به، وهو علم الحروف الذي تُعرف به الحوادث المستقبلية.
وقد تعرّض بعض علماء العامّة إلى علم الجفر وأشاروا بأن الإمام الصادق (عليه السلام) كان يعلمه.
فقد حكي عن ابن قتيبة في كتاب (أدب الكاتب) قال: (وكتاب الجفر كتبه الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر، فيه كل ما يحتاجون إلى علمه إلى يوم القيامة، وإلى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله:
لقد عجبوا لآل البيت لمّا.....أتاهم علمهم في جلد الجفر
فمرآة المنجم وهى صغرى.....تريه كل عامرة وقفر(63).
وهناك العديد من العلوم التي تركها الإمام الصادق (عليه السلام) للبشرية ومنها علم الكيمياء، وعلم الأخلاق، وأصول الفقه، والحساب والهندسة تطلب في الكتب المختصة بذلك.
اضف تعليق