لقد شهد الله تعالى، وشهادته أعظم شهادة، بأن النبي صلى الله عليه وآله هو عظيم في قوّته النظرية، كما انه عظيم في قوّته العملية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
لتسليط الضوء على حياة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله؛ نقسّم الحديث إلى قسمين: القسم الأول، حول جوانب من عظمة شخصية النبي الأعظم، والقسم الثاني، عن جوانب من عظمة المنهج الذي جاء به النبي الأعظم صلى الله عليه وآله.
القسم الأول: عظمة الشخصية
هناك شهادات كثيرة عبر التاريخ وإلى اليوم حول عظمة شخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله:
أولاً: شهادة الأنبياء السابقين.
ثانياً: شهادة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين.
ثالثاً: شهادة الأصحاب الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله.
رابعاً: شهادة الأعداء الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله.
خامساً: شهادة علماء الغرب وعلماء الأديان الأخرى الذين وقفوا بإعجاب، بل وقفوا بانبهار أمام عظمة شخصية خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله.
لكن مع ذلك نقتصر على شهادة واحدة هي أعظم من تلكم الشهادات جميعاً، وهذه الشهادة هي أكبر شهادة في هذا الوجود وهي التي يُشير إليها القرآن الكريم بقوله: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله...)[1]، فهي أعظم شهادة في هذا الوجود كله، وقد شهد الله تعالى لخاتم أنبيائه بالعظمة.
يقول أحد العلماء كلاماً لطيفاً نوّضحه بسطر واحد أو أكثر؛ إنَّ للإنسان قوتين: القوة الأولى هي القوة النظرية، والقوة الثانية هي القوة العملية، فهنالك كمال للقوة النظرية، كما هنالك كمال للقوة العملية، فكمال القوة النظرية يكون بالعلم، إذ كلما كان العلم أكمل كان الإنسان أكمل في بعد العقل النظري، فيما يكون كمال القوة العملية بالأخلاق، إذ كلما كان الإنسان أكمل في أخلاقه كان أكمل في قوّته العملية وفي عقله العملي.
وقد شهد الله تعالى، وشهادته أعظم شهادة، بأن النبي صلى الله عليه وآله هو عظيم في قوّته النظرية، كما انه عظيم في قوّته العملية، حيث يقول الله تعالى بالنسبة للقوة النظرية لخاتم الأنبياء: (...وعلمّك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما)[2]، إذن فان النبي صلى الله عليه وآله بلغ مستوى الكمال في القوة النظرية والعقل النظري، لأن فضل الله تعالى عليه في هذا البعد كان عظيما.
وفي بعد القوة العملية أو العقل العملي، يقول الله تعالى: (...وإنك لعلى خلقٍ عظيم)[3]، فالعظيم يشهد لخاتم أنبيائه بأنه عظيم في عقله النظري وعظيم أيضاً في عقله العملي، أي أنه عظيم في علمه وعظيم في أخلاقه، وتكفي هذه الشهادة دليلاً على عظمة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله.
ومع هذه العظمة الذاتية - الواقعية التي شهِد لها الله العظيم، وهي شهادة عظيمة جداً، كانت هنالك عظمة أخرى وهي العظمة الإجتماعية، حيث كان النبي صلى الله عليه وآله عظيماً جداً في أنفس المؤمنين و إلى الآن.
هذه العظمة رآها حاكم ثـقيف عروة بن مسعود الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله موفداً من قبل قريش، فرأى العظمة الظاهرية التي كانت للنبي الأعظم، فتعجّب وعاد إلى قومه وإلى قريش وقال لهم: إني دخلت على كسرى في ملكه، وعلى قيصر في ملكه وعلى النجاشي في ملكه، ولم أرَ أحداً أعظم في أصحابه من محمد...[4] فما رآه هذا الرجل من العظمة عند النبي صلى الله عليه وآله، لم تكن موجودة في قيصر، حيث رأى المسلمين وهم يتسابقون لأخذ القطرات المتساقطة من وضوء النبي صلى الله عليه وآله لأنه لامس ذلك الجسد المطهَّر، وعندما كان يحلق رأسه كان المسلمون يبتدرون إليه حتى يأخذوا شعرة من تلك الشعرات المباركة، وهو ما لم يفعله أصحاب كسرى معه أو أصحاب قيصر... وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله بأعوام، كان بعض القادة المسلمين يأخذون شعرات أو شعرة واحدة من شعر رسول الله ويضعونها في خوذتهم الحربية ليكتب الله لهم النصر ببركة هذه الشعرة.
ومع هذه العظمة الواقعية التي شهد بها الله، والعظمة الظاهرية، يكتب النبي صلى الله عليه وآله إلى ملك مصر كتاباً يدعوه إلى الإسلام؛ وأجد من الضروري مطالعة هذه الكتب في مكتبتنا التاريخية؛ فقرأ ملك مصر الكتاب وأراد أن يسلم، إلا أن علماء السوء من الذين كانوا حوله منعوه من ذلك، فكتب للنبي صلى الله عليه وآله: (وصلني كتابك، وأنا أعلم أنك النبي الذي بشّر به المسيح، وودت أني بين يديك أغسل رجليك...)[5]، فمع كل هذه العظمة – وهو جانب من جوانب عظمته- كان صلى الله عليه وآله في قمة التواضع حتى لأدنى شخص عنده، ولا نجد في التاريخ حاكماً أو نبياً أو رسولاً كان له هذا القدر من التواضع؛ نعم... نجد هكذا نماذج في حياة أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم فهم بضعة منه، كما نجد هكذا نماذج في حياة الكثير من علماء الدين، وهم يحاولون أن ينهلوا شيئاً من هذا المنهل.
نذكر بعض ما أورده المؤرخون[6] عن تواضع رسول الله صلى الله عليه وآله:
أولاً: يخصف نعله تواضعاً لله تعالى، واليوم ليس فقط الملوك، بل نحن أيضاً غير قادرين على القيام بهذا العمل.
ثانياً: يرقّع ثوبه.
ثالثاً: يفتح الباب للطارق.
رابعاً: يحلب الشاة.
خامساً: يعقِل البعير.
سادساً: يطحن مع الخادم.
سابعاً: يعود المرضى في أقصى المدينة.
ثامناً: لا يترفّع على عبيده وإمائه في مأكلٍ ولا ملبس.
تاسعاً: لا يأتيه أحدٌ، حرٌ أو عبدٌ في حاجة إلّا قام معه في حاجته.
عاشراً: يبدأ مَن لَقِيَهُ بالسلام حتى الطفل.
أحد عشر: يجلس حيث ينتهي به المجلس.
أثني عشر: يقطع اللحم في البيت ويُعِينُ أهله في عملهم.
القسم الثاني: عظمة المنهج
أذكر محاور رئيسية من المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله:
أولاً: الحرية
يقول الله تعالى في وصف خاتم أنبيائه: (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم...)[7]، فالحرية التي جاء بها رسول الله لا نجدها حتى في عالم اليوم، فهل نحن اليوم أحرارٌ في أن نسافر أينما نشاء؟ أو أن نقيم أينما نريد؟ أو نبني كما نريد؟ أو نعمّر أية أرض نريد؟ حتى في أكبر حضارات اليوم، لا نجد الحرية التي جاء بها رسول الله؛ لا في طول التاريخ، ولا في أية حضارة أخرى.
فالنبي صلى الله عليه وآله كان يقول: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)[8]، أي إن عنده قانون صلى الله عليه وآله يقول بان الأراضي كلها لكم أحيوها كما تحبّون، (...فمن سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به)[9].
ثانياً: الشورى
تعاني اليوم أغلب بلاد العالم من الاستبداد، وقبل بزوغ فجر الدعوة الإسلامية كان العالم غارقاً في الاستبداد، لكن النبي صلى الله عليه وآله جاء وقال: (وأمرهم شورى بينهم)[10]، أي في كل شيء، إلا ما خرج(*)، حتى في القضية الصغيرة المتواضعة في داخل البيت، - مثلاً- مسألة فطام الطفل، القرآن الكريم يقول: (...فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما)[11]، فالتشاور واردٌ حتى في هذه القضية الجزئية.
ثالثاً: المساواة
اليوم لا نجد المساواة في العالم، ولكن النبي صلى الله عليه وآله سوّى بين الجميع؛ بين الأحمر والأبيض والأسود... حيث كان النبي صلى الله عليه وآله جالساً ذات يوم فدخل سلمان وهو أعجمي من إيران، ففسح له الصحابة صدر المجلس، فأتى وتصدّر، وفي هذه الأثناء دخل الثاني، وكان عنده عرق قومي، وقد حكّم هذه الرؤية واتّبع هذا العرق عندما حكَم، فقال غاضباً: ما لهذا الأعجمي قد تصدر مجلس العرب؟!
فغضب النبي صلى الله عليه وآله وصعِد المنبر وقال: (إنّ الناس من لدن آدم إلى يومنا هذا كأسنان المشط، ألا إنه لا فضل للعربي على الأعجمي ولا للأبيض على الأحمر، إلا بالتقوى؛ إن أكرمكم عند الله أتقاكم)[12].
رابعاً: احترام الأقليات المذهبية
وبهذا يفتخر الغرب بأنه يحترم الأقليات، لكن هذا المنهج هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله، وهناك قانون في القواعد الفقهية- وبالحقيقة يُعد من مفاخر الإسلام- وهو قانون (الإلزام)، أي أنَّ الأقليات الدينية حرة في الإطار الفقهي القائل: (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم)[13]، وتوجد مسألة في (شرائع الاسلام) تقول: إذا أَتلَفَ مُسلِمٌ خمرَ ذِمِّيٍّ يَضمن له، لأن هذا الذمي محترم في ظل النظام الإسلامي؛ ويقول النبي صلى الله عليه وآله: (من آذى ذمياً فقد آذاني...)[14]، أو في حديث آخر عنه: (أن من آذى ذميّاً كنت خصمه يوم القيامة...)[15].
خامساً: احترام المرأة
في ذلك اليوم الذي كانت المرأة تورث كالمتاع، فكما أن الشخص إذا مات يورّث السجّاد الموجود في بيته –مثلاً- فان المرأة كانت على شاكلة السجّاد في البيت، لكن النبي صلى الله عليه وآله جاء بالآية الكريمة: (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض...)[16]، وكان صلى الله عليه وآله يقول: (ما زال جبرئيل يوصيني بالمرأة)[17].
سادساً: العلم
بالرغم من أن مكة في ذلك اليوم لم تكن مدينة عادية وإنما كانت عاصمة دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية، إلا أنَّ عدد الذين كانوا يتقنون القراءة والكتابة حوالي عشرين شخصاً حسب إحصاء المؤرخين؛ وفي مثل هذا الجو المشحون بالأمية والجهل يأتي نبيّ أميّ، وبمراجعة الأحاديث يتبين معنى الأمي، وهو أنه لم يكن يقرأ ولا يكتب، وهذا ليس بمعنى أنه لم يكن يعرف، وإنما لم يكن يقرأ ولا يكتب.
جاء في بعض الكتب أن العلم والقلم والكتاب والحروف كلها أدوات المعرفة، وتاريخ الحضارة البشرية إنما بدأ عندما اخترع الإنسان القلم، أي قبل هذا الاختراع لم يكن هناك تاريخ، وتسمى بمرحلة ما قبل التاريخ، إذن فهذه الحضارة هي وليدة القلم، وفي القرآن الكريم يُقسِمُ اللهُ تعالى بالقلمِ في سورة القلم: (نون والقلم وما يسطرون)[18]، وكان العلم أول كلمة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله: (بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ...)[19]، فهذه أول كلمة بعد البسملة. وكثيرة هي المفردات في منهج رسول الله صلى الله عليه وآله، وتحتاج إلى مجلدات، وإذا كان سكان العالم يعرفون منهج رسول الله في يوم من الأيام، لدخلوا في دين الله أفواجاً.
في الختام نذكر هذه القضية
يقول أحد العلماء الزمنيين وكان في إحدى بلاد الغرب، أنه في يوم ماطرٍ، حيث كان المطر ينزل بغزارة؛ رأيت أحد كبار علماء الغرب وكان أستاذاً في جامعة من الجامعات المعروفة وأستاذاً في علم الفلك، وهو يمشي تحت المطر الغزير إلى معبد، فيقول: استوقفني هذا المنظر؛ - فأين العالم وأين المعبد؟ وأين الجامع وأين الجامعة؟- يقول: فجئت واستوقفت العالم قائلاً: إن عالماً معروفاً مثلك وأستاذاً في الجامعة لماذا يذهب إلى المعبد؟ علماً أن في ذلك الوقت كانت تسود موجةُ ارتدادٍ عن الدين- بينما اليوم ولله الحمد ثمة موجة إقبال على الدين- فقال: تعال الليلة إلى بيتنا لأجيبك على سؤالك.
يقول هذا العالم: ذهبت مساءً إلى بيته، وهناك أخذ ذلك الأُستاذُ الجامعيُّ يُلقي عليّ محاضرةً علميّةً مطوّلةً في عظمةِ هذا الكونِ وعظمةِ الخالقِ، والأَجرامِ التي تسبحُ في هذا الفضاء ودقة هذا الكون -علماً ان علماء اليوم وبعد آلاف الاعوام من البحث لم يكتشفوا أسرار بدن الإنسان بعدُ- وفيما هو يتكلم كانت دموعه تنهمر على خديه ويده ترتعش من عظمة الله ومن خشيته.
يقول العالم: بعد ما أكمل هذا الأُستاذُ الجامعيُّ كلامَهُ قلت له: إنَّ هذه المحاضرة التي ألقيتَها، ذكرّتني بآية من كتابنا – وكان ذلك الأُستاذُ مسيحياً- فهل تسمح لي أن أقرأ هذه الآية؟ فقرأ: (ومن الجبال جُدَدٌ بيضٌ وحمرٌ مختلفٌ ألوانها وغرابيبُ سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى اللهَ مِن عبادِه العلماءُ)[20]، فبُهت هذا العالم، وقال لي ماذا قلت؟! (إنما يخشى اللهَ من عبادِه العلماءُ)؟ هل حقيقة توجد هذه الآية في القرآن؟ وإذا كانت هذه الآية في القرآن، فمن أين عرف محمد هذا السر الذي توصلتُ إليه بعد خمسين عاماً قضيتها في العلم؟
إن العلماء وبعد خمسين عاماً يفهمون معنى ودلالة (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، فهم في المختبر يكتشفون عظمة الله وقدرته وآياته، وأضاف ذلك الأستاذ الجامعي: بأنه من غير الممكن أنه قد اكتشف هذا السر من قبل نفسه وإنما أخبره به الله، فإذا كانت هذه الآية موجودة في القرآن فاكتب مني شهادةً بأن محمد رسول الله؛ ولمزيدٍ من التفاصيل حول هذه القضية مع بيان الأسماء والتواريخ يمكن مراجعة كتاب (الصياغة الجديدة) للمرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي [21] – رحمه الله -.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للإقتداء بمنهج رسول الله صلى الله عليه وآله، وتطبيقه.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق