q

من الأمور الأساسية التي ميزت الشريعة الإسلامية أنها حينما أسست مبادئ العقيدة، وأمرت المسلمين بسلوك الطريق الموصل إلى رضوان الله تعالى، بالتزام الطاعات، واجتناب المحرمات، فإنها -في الوقت ذاته- قدمت من يجسد هذه المهام والمسؤوليات على أرض الواقع، وهم رسول الله وأهل بيته (صلوات الله عليهم). والإمام محمد بن علي الباقر(ع) هو أحد هؤلاء القادة والمجسدين للشريعة المقدسة، وخامس أئمة أهل بيت العصمة والطهارة الذين خصهم الله تعالى بالعلم والفضل، ووهبهم الدرجات العلى من الكمال الإنساني.

وقد استأثر الإمام الباقر(ع) باهتمام صاحب الشريعة الغراء قبل مولده، فقد روي أن النبي (ص) قال لجابر الأنصاري "يوشك أن تبقى حتى تلقى وليدا لي من الحسين يقال له (محمد) يبقر العلم بقرا، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام". حتى أدركه جابر واستقى من علومه، "وكان جابر والله يأتيه ويتعلم منه." [ابن شهراشوب، مناقب آل أبي طالب: 3/328]

وكانت الفترة التي عاشها الإمام الباقر(ع) في ظل حكم بني أمية قد تفشى فيها التخلف الاجتماعي في البلاد الإسلامية، وكان الولاة ينتهبون الأموال ويظلمون العباد، وكانت البلاد الإسلامية تعيش حياة الجاهلية، مبتعدة عن روح الإسلام، وفي ظل هذه الأوضاع كان الإمام الباقر(ع) الملجأ والملاذ الآمن لأمة جده المصطفى(ص) بما يحمله من خلق وسيرة عظيمين، تحكي خلق وسيرة جده(ص)، ليكون المثل الأعلى لمصلحي المجتمع الإسلامي وقيادة الأمة نحو التكامل الإنساني.

وكان للإمام الباقر(ع) الفضل في استقلالية الاقتصاد والنقد الإسلامي من تبعية الدول المعادية للإسلام، وذلك حينما أشار على عبد الملك بن مروان بسك العملة الإسلامية، على الرغم من العداء الذي كان يبطنه عبد الملك بن مروان لأهل البيت(ع)،إلا أنه كان يلجأ إلى الإمام(ع) حينما تدلهم عليه الأمور، فيجود عليه بالنصح والتوجيه، ويحل لهم ما أشكل عليه من الأمور.

وورث الإمام الباقر(ع) الكمال من آبائه(ع)، وتأثر بشخصية أبيه زبين العابدين: سيرة وسلوكا وعبادة وانقطاعا عن الدنيا وتوجها إلى الله تعالى. يقول الإمام الصادق(ع) متحدثا عن أبيه الباقر(ع): كان أبي كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وهو يذكر الله، وآكل معه الطعام وهو يذكر الله، ويحدث القوم وما يشغله عن ذكر الله. وقد أبطأ ذات ليلة فأتيت المسجد أطلبه، فإذا هو ساجد في المسجد، وليس في المسجد غيره، فسمعت حنينه وهو يقول "سبحانك اللهم أنت ربي حقا حقا سجدت لك يا رب تعبدا ورقا، اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي".

ويعد الإمام الباقر من مؤسسي جامعة الفقه والحديث وبقية العلوم في مسجد جده (ص)، مستفيدا من هدوء الأوضاع السياسية، وضعف حكام بني أمية، فقد كانت الدولة الأموية في نهايتها واهية البنيان، وانشغل حكامها بألوان الترف واللهو والمجون، فضلا عن الخلافات السياسية العميقة بينهم والتي أدت إلى تصفية بعضهم بعضا. فاستكمل الإمام الباقر(ع) ما بدأه أبوه زين العابدين(ع) من بناء الأمة فكريا وعقائديا وأخلاقيا. فقصده رجال الفكر من المذاهب الإسلامية كافة، للاستفادة من علومه والانتهال من فيض معارفه، أمثال: أبان بن تغلب وزرارة بن أعين ومحمد بن مسلم الثقفي ومحمد بن عيسى بن النعمان، المعروف بـ(مؤمن الطاق) والفضيل بن يسار وجابر الجعفي. يقو ل عبد الله بن عطاء المكي "ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، ولقد رأيت الحكم بن عيينة، مع جلالته في القوم، بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه" [ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: 54/278]

وأما السلطة الأموية، والمتمثلة بهشام بن عبد الملك في حينه، فلم يكن ليهدأ له بال وهو يرى الآلاف من علماء المسلمين وهم ينهلون من علومه، وقد ملك قلوب الناس بأخلاقه وحسن سيرته، وارتقى منصب المدافع عن شريعة المسلمين، وهو يبين للناس ما اشتبه عليهم من أمور دينهم، ويناظر أهل الأديان والملل على اختلافهم حتى صرح كبير النصارى بقوله "جئتموني بأعلم مني وأقعدتموه معكم حتى يهتكني ويفضحني، وأعلم المسلمين أن لهم من أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا" [محمد بن جرير الطبري الشيعي، دلائل الإمامة: 239]

ولم يكن رد الجبابرة والظلمة يوما على من يفوقونهم في خصال الكمال، أن يقل عن التآمر عليه بالتصفية والقتل، فأوعز هشام بن عبد الملك إلى عامله بالمدينة أن يدس سما في سرج ويقدمه هدية للإمام الباقر(ع). وما إن ركب الإمام السرج حتى أحس بحرارة السم، وهو ينتقل إلى جوفه، وبقي أياما يصارع الألم والمرض، حتى انتقلت روحه إلى بارئها.

فسلام على الإمام المسموم محمد بن علي الباقر(ع) يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.

* السيد نبأ الحمامي، باحث ومدرس في الحوزة العليمة في النجف الاشرف

اضف تعليق