حقيقة العلاقة
بين |
|
مرتضى معاش |
|
في نهاية العقد
التسعيني وبداية الالفية الثالثة
برز الفكر الاسلامي المعاصر كأحد
المعطيات الاساسية في ساحة الحوار
العالمي، بحيث طرحت الكثير من
التساؤلات والاشكاليات في قدرة هذا
الفكر على التجاوب مع الانطلاقة
العالمية الحديثة، وخصوصا بعد
التجارب غير الجيدة التي مر بها
العالم الاسلامي من خلال تمرير
مفاهيم وسلوكيات الاستبداد والارهاب
والعنف التي خلقت انطباعا ضبابيا في
افكار الرأي العالم العالمي ساعدت
عليه سوء نية بعض وسائل الاعلام. ومن هذه
المفاهيم والافكار مبحث ولاية
الفقيه الذي برز كأطروحة بنيوية
ترتكز عليها الشيعة الامامية في عصر
الغيبة، بحيث اصبحت الاطار الشرعي
لممارسة الاسلام السياسي الحديث
وإضفاء الصبغة الشرعية على اداء
الادوار الحيوية الفاعلة ورفع لواء
الاسلام. هذه النظرية في ظل
افرازاتها الميدانية والتطبيقية
خلقت تموجات كبيرة ونقاشات واسعة حول
ابعادها واشكاليتها. احد اهم هذه
الاشكاليات ان نظرية ولاية الفقيه هي
مسعى لمؤسسات رجال الدين من اجل
احتكار السلطة وحكم الامة من جانب
واحد بلا وجود واسطة اعتمادا على
التفويض الالهي الذي يدعونه بحيث
يؤدي ذلك عمليا الى سلب حريات الامة
والجمهور في ممارسة السياسة والتدخل
في انتخاب السلطة او انتقاد الحاكم
اوتغييره. وحسب هذا الادعاء فان
حكومة ولاية الفقيه تتم من طرف واحد
ليس للاخر أي تأثير او دور او تلازم
في هذا الامر، وهذا يعني ان هناك
تناقضاً واضحاً بين الحرية وولاية
الفقيه. ويلاحظ ذلك من
خلال قراءة منهجين: منهج يؤيد بقوة
الولاية المطلقة للفقيه وانها ولاية
كولاية النبي(عليه السلام) وولاية الائمة
المعصومين(عليه السلام) فللفقيه سلطات مثلما
للمعصوم منها، بحيث ان من يقف امام
الفقيه ويعارضه كمن وقف ضد الامام
لذلك يدعون ان هذه الولاية محتومة
لايمكن معارضتها او مناقشتها، وليس
هناك حرية للامة في محاسبة الولي او
عزله او انتخابه وليس مسؤولا امامها،
بل ان بعضهم ادعى اكثر من ذلك وقال
بأنه لايوجد هناك شيء في الاسلام
اسمه الحرية وادعى عصمة ولي الفقيه
بصورة غير مباشرة. ومنهج يعادي
بقوة ولاية الفقيه ويعتبرها مرادفة
للاستبداد والدكتاتورية ويراها
اجترارا لحكومة الكنيسة في القرون
الوسطى. فهل تصدق
ادعاءات المنهجين وتكون ولاية
الفقيه نقيضا للحرية ومرادفة
للاستبداد ام ان هناك حقيقة اخرى
مدفونة في ادبيات الفكر الديني
والاسلامي لابد من استكشافها
ومحاولة الوصول الى مضامينها
الاصلية بتجرد وموضوعية ودقة..؟ هذا الامر
يقودنا الى اسئلة كثيرة منها: هل هذه
الولاية هي حقا من طرف واحد من
الناحية الشرعية؟ وهل يعطي الدين
الاسلامي الشرعية لولي الفقيه ان
يتصرف في الناس انفسهم ودمائهم
واموالهم بدون ان يستجيزهم؟ واذا لم
يتصرف الفقيه حسب مصلحة الامة فهل هو
مسؤول عن ذلك امام الامة ام ان امره
نافذا في كل الاحوال..؟ وبعبارة ملخصة
هل ان ولاية الفقية تعني انه لاحرية
للامة ولاتعددية ولاشورى بحيث يكون
رأي الفقيه حاكما على رأي الامة في كل
الظروف والاحوال..؟وما هي النسبة بين
ولاية الفقيه والحرية وخصوصا الحرية
من المنظور الاسلامي..؟ نحاول في هذه
القراءة الملخصة ان نلقي النظرة علـــى
بعض الابعاد الاساسية في هذه النظرية
من خلال محاولة قراءة الادلة الشرعية
والعقلية التي قامت عليها ومن ثم
نحاول ان نفهم حقيقة التناقض والنسبة
بين ولاية الفقيه والحرية عبر
استكشاف المضامين من الادلة الشرعية
من القرآن والسنة والسيرة والتاريخ
والعقل والعرف. |
|
لايوجد هناك دليل شرعي قاطع على ان ولاية الفقيه هي مثل ولاية المعصوم(عليه السلام)، بل ان معظم الادلة الواردة في باب الولاية تتحدث عن ولايتهم(عليه السلام) دون ذكر الفقهاء، واذا كانت هناك روايات في ذكر العلماء والفقهاء فان الكثير من الفقهاء يشيرون الى انها واردة في باب التقليد والاحكام الشرعية ورجوع الجاهل الى العالم، اما ولاية الفقيه وبهذا الاطلاق فليس هناك مورد قطعي يستند عليه. يقول الشيخ النائيني: المقصود من اثبات الولاية للفقيه هو اثبات ما كان للاشتر وقيس ومحمد بن ابي بكر ونظرائهم ولااشكال في انه كان لهم اجراء الحدود واخذ الزكاة جبرا والخراج والجزية ونحو ذلك من الامور العامة(1). وهذا لاينفع دليلا لان ولاية ولاة الامام(عليه السلام) كانت بالنيابة الخاصة وفي ظل حكمه(عليه السلام) ومراقبته، بينما ولاية الفقهاء بالنيابة العامة حددت ضمن اطر لايمكن فهم ذلك الاطلاق منها، لذلك يقول الشيخ الانصاري: اما الولاية على الوجه الاول اعني استقلاله في التصرف فلم يثبت بعموم(2). حيث حصر رحمه الله الولاية في بعض الامور الخاصة كولاية الايتام والسفهاء والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي ولاية عامة اعم من كونها خاصة بالفقيه، نعم من باب الاهم والمهم ورفع اختلال النظام يتصدى الفقيه لبعض الموارد، وهذا لايشكل دليلا اوليا واصليا على ثبوت الولاية المطلقة. بل ما ثبت من المجموع العام للايآت والروايات هو ولاية محدودة بشروط وقيود وأطر حيث يرى الامام الشيرازي: أن لا ولاية للفقيه في التشريع الخارج عن الاطار الاسلامي اذ الادلة لاتدل عليه والاصل العدم(3). وهذا يعني ان الولاية محصورة ضمن الاطار الاسلامي الذي من اسسه الاولية الحرية والشورى. |
|
مع غض النظر عن
الادلة الشرعية الواردة فـــان الاصل
الاولي هو الحرية للانسان وعدم ولاية
احد على احد، لان الله سبحانه وتعالى
خلق الانسان حرا، وحريته هي مدار
وجوده في الحياة فمع عدم الحرية تسقط
فلسفة الامتحان والابتلاء بل ان
التكليف قائم على كونه حرا، لذلك
تسقط الكثير من التكاليف في موارد
الاكراه والاضطرار والحرج وموارد
مثل العبد والمجنون كما ذكر الفقهاء
ذلك. يقول الامام امير المؤمنين(عليه السلام):
ايها الناس ان آدم لم يلد عبدا ولا
أمة وان الناس كلهم احرار ولكن الله
خول بعضكم بعضا(الكافي3/57). وعنه(عليه السلام)
في
نهج البلاغة: لاتكن عبد غيرك وقد جعلك
الله حرأ. ويرى الشيخ احمد النراقي:
ان الاصل عدم ثبوت ولاية احد على احد
الا من ولاه الله سبحانه وتعالى او
رسوله او احد من اوصيائه على احد في
امره وحينئذ فيكون هو وليا على من
ولاه فيما ولاه فيه(4). ويرى الامام
الشيرازي: والاصل في الولاية
استقلالا او اشتراطا العدم(5). وهذا
يعني ان كل ولاية لاحد على احد يحتاج
الى دليل لاثباتها، وولاية النبي (عليه السلام)
وولاية المعصومين(عليه السلام) ثابتة بالادلة
القطعية النصوصة، اما غيرهم(عليه السلام) فانه
لايثبت الا بإثباتها بالدليل. والقول
بانهم(عليه السلام) قد وكلوها للفقهاء نيابة عامة
فهذا مما كثر الخلاف في اصل كونها
واردة في مقام الولاية وانها واردة
في مقام التقليد. ويرى الشيخ
المنتظري: ان الاصل عدم ولاية احد على
احد وعدم نفوذ حكمه عليه فان افراد
الناس بحسب الطبع خلقوا احرارا
مستقلين، وهم بحسب الخلقة والفطرة
مسلطون على انفسهم وعلى ما اكتسبوه
فالتصرف في شؤونهم واموالهم
والتحميل عليهم ظلم وتعد(6). وهذا
الاصل يدل على حرية الانسان على نحو
ذاتي وليس اكتسابي وهو يعني ان كل
تصرف يحتاج الى اجازة منه للتصرف
حريته وتحديدها. فالمسلم الذي يؤمن
بالاسلام يتنازل عن بعض حريته عندما
يلتزم بقوانين الشريعة وذلك ليس جار
في غير المسلم الذي يعيش في دولة
الاسلام اذ يعامل بقانونه وشريعته
عملا بقاعدة الزموهم بما التزموا به،
الا في موارد معينة يلتزم بقانون
الدولة الاسلامية لحفظ النظام ودفع
الضرر للحق الاجتماعي العام. |
|
الولاء
والتوالي: ان يحصل شيئان ليس
مابينهما ما ليس منهما ويستعار ذلك
للقرب من حيث الصداقة والنصرة
والاعتقاد، والولاية: النصرة وتولي
الامر، والولي والمولى في معنى
الفاعل أي الموالي، وفي معنى المفعول:
أي الموالى (بفتح اللام).وقولهم تولّى
اذا عدّي بنفسه اقتضى معنى الولاية
وحصوله في اقرب المواضع منه، يقال
ولّيت وجهي: اقبلت به عليه، قال الله
عزوجل:((فلنولينك قبلة ترضاها)، واذا
عدّي بعن لفظا او تقديرا اقتضى معنى
الاعراض وترك قربه(7). اما الولاية فهي
تفيد التصدي لشأن من شؤون الغير وفي
قبالها العداوة وهي التجاوز والتعدي
على الغير، فالتصرف بمصلحة الغير
ولاية وبضرره عداوة(8). ومن هذه
المعاني يظهر ان الولاية تعني القرب
والمتابعة لايجاد تصرف بين فردين
فالولي يجبر نقص ما يليه ويرفع
حاجته، لذلك فهي في الانسان تعني
النصرة والمحبة والاقبال والطاعة.
ووجود حالة الفعلية في التوالي
والقرب والاقبال بين الاثنين في شيء
ثالث خارج عنهما يدل على وجود اختيار
وانتقاء، وفعل قائم على سد النقص
الاجتماعي وحفظ المصالح، لذلك الولي
يلي اليتيم ليحافظ على مصلحته. وتولى
عنه تباعد عنه ولم يرض ان يليه ويقبله. فتحصل ان
المعنى اللغوي والعرفي في معنى
الولاية يقتضي ان الفعل ليس ماديا
حتى يحصل القرب وليس هو المعنى
المقصود من الولاية، بل المقصود هو
قرب روحي ومعنوي وهذا يقتضي الاقبال
والطاعة الاختيارية، والا فأن
الاجبار والاكراه لايسمى ولاية لانه
لايدل على القرب وان كان هناك قربا
ماديا. ولايمكن لأركان الولاية
معنويا ان تتم ما لم يحصل تولّي من
الطرف الذي يراد التولي عليه، وهذا
هو المراد من الولاية في السلطة التي
يحتاج فيها لارادة الانسان واختياره
وحريته. وفي ولاية المعصوم هناك ادلة
ونصوص قطعية على وجوب الطاعة
والتولي، اما في غيرهم فاننا يجب ان
نرى ما تحدده النصوص من اطر وشروط.
فالمعنى اللغوي بحد ذاته لايدل على
السلطنة المطلقة ولا استبداد الفقيه
ولا الطاعة المطلقة ولا الولاية
الايقاعية من جانب واحد، بل يدل بشكل
واضح على حرية الولاء والطاعة
والنصرة والقرب. وقد روي عن رسول الله
كما في شرح النهج لابن ابي الحديد انه
قال: انكم ان تولوها عليا تجدوه هاديا
مهديا. ويلاحظ ان التولية نسبت الى
الامة، وهذه هي التولية بالنسبة الى
المعصوم هي التولية الظاهرية، اما
بالنسبة الى غيرهم فنسبة حرية
التولية هي التولية الواقعية
القائمة على حرية المولى عليهم في
انتخاب الولي. |
|
الحرية هي احد
المفاهيم العقائدية الاساسية التي
تناولتها الآيات القرآنية بشكل واسع
في عدد كبير منها وبألفاظ متعددة
تؤدي الى معنى واحد هو وجود ارادة حرة
يتصرف الانسان فيها بأختياره ويؤمن
بالدين عبر اعتقاد ومعرفة سليمة
وبدون اكراه وجبر. يقول الله
تعالى في كتابه الحكيم:(لا إكراه في
الدين)(البقرة 256)، ورفع الاكراه هذا
يقصد منه الحرية الاعتقادية التي
تعني حرية الانسان في غيرها بشكل
اولى، لان كل ايمان وسلوك وتصرف
يرتكز على العقيدة المصححة. وفي آيات اخرى
يقول الله تعالى:(انا هديناه السبيل
اما شاكرا او كفورا).(الانسان3)
(قد جاءكم بصائر
من ربكم فمن ابصر فلنفسه ومن عمي
فعليها).(انعام104) وفي آية اخرى
نجد الربط واضحا بين الايمان والحرية
ومشيئة الانسان واختياره: (وقل الحق
من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر).(الكهف29) ويستفاد من
آيات اخرى ان هدف الرسالات والكتب
السماوية ارشاد الانسان الى التفكير
والاستدلال بعقله والاهتداء بفطرته
بحرية واقتناع دون وجود سلطة اجبار
واكراه على اتباع الرسول حين يقول
الله تعالى:(فمن اهتدى فانما يهتدي
لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها وما انا
عليكم بوكيل)(يونس108)،
(فذكر انما انت
مذكر لست عليهم بمسيطر)(الغاشية21)،
(وما
انت عليهم بجبار)(ق45) الجبار تعني
المتسلط، (ولو شاء ربك لأمن من في
الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس
حتى يكونوا مؤمنين)(يونس99). وفي آية اخرى
نرى ارتباط فعل الانسان بحركته
الذاتية الحرة وسعيه الدؤوب لتغيير
نفسه واتخاذ طريق الايمان والهداية
وان نتائج عمل الانسان تعتمد على ما
يختاره ويسعى اليه عبر تصميم سابق : (ان
الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم)(الانفال 53)،
(وان ليس
للانسان الا ما سعى)(النجم39)،
(اقرا
كتابك كفى اليوم بنفسك حسيبا)(الاسراء14)،
(لتجزى كل نفس بما تسعى)(طه15)،
(كل نفس
بما كسبت رهينة)(المدثر38). هذه الآيات
تقودنا الى استنتاج بديهي وهو ان
الحرية من الاصول الاساسية
العقائدية في الاسلام بل من الاوليات
التي قامت عليها عقيدة التوحيد بان
تسقط كافة الاصنام التي تغل الانسان
وتقيده ويبقى الانسان حرا تحت ظلال
عبودية الله سبحانه وتعالى. |
|
إن الحرية اصل
عقائدي لان حكمة الـــتكليف قائمة على
اساس وجود ارادة حرة عند الانسان
تقتضي ان يختار بنفسه طريقه في
الحياة، والا فان فلسفة الثواب
والعقاب سوف تبطل. واذا لم نقل
ببطلانها مع وجود التكليف وعدم حرية
الانسان ونفي اختياره فأن ذلك سيكون
ظلما ببديهة العقل، وحاشا لله عزوجل
ذلك حيث يقول سبحانه تعالى: (فما كان
الله ليظلمهم ولكن كانوا انفسهم
يظلمون)(التوبة71)،
(الذي خلق الموت
والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملا)(الملك2)،
(فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضل
فانما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر
اخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)(الاسراء
15)، (لايكلف الله نفسا الا وسعها لها
ما كسبت وعليها ما اكتسبت)(البقرة256). اما ولاية الفقيه فليست من الاصول الاعتقادية بل هي من الفروع الفقهية التي كثر الاختلاف فيها بل ولم تكن مطروحة في الفقه الشيعي بهذا الاسهاب الا في القرن الاخير من التاريخ الحديث، وقد خالف هــــذه النظرية معظم كبار الفقهاء ورأوا اقتصار دور العلماء في الافتاء والتقليد والولاية في الامور الحسبية وولاية الايتام وهذه الولاية عامة حتى لعدول المؤمنين وغيرهم. لذلك يرى البعض ان ولاية الفقيه ليست من الضروريات التي يؤدي انكارها الى محذور. وهنا تتوضح النسبة بين الحرية وولاية الفقيه حيث الاولى من الاصول والثانية من الفروع المختلف فيها. |
|
ما يستفاد من
الايات القرآنية والروايات الشريفة
والمفهوم اللفظي والعرفي للولاية هي
الولاية العامة للمؤمنين ويسثنى
منها ولاية المعصومين(عليه السلام) للنصوص
الواردة، فلفظ الولاية الذي يدل على
القرب والمتابعة والنصرة يعني
بدلالة اوسع على الولاية بين
المؤمنين حيث تؤدي هذه الولاية الى
ايجاد مجتمع متحد منسجم يسير وفق
قواسم مشتركة واهداف واحدة، وفي
الواقع فأن ولاية الفقيه تنبثق من
هذه الولاية باعتبار ان الفقيه عندما
تتكامل فيه الشروط الشرعية يجسد
المصداق الاقوى والاصلح والاكفأ
للولاية بين المؤمنين في صورة
انتخابهم وتراضيهم عليه وباعتبار ان
الفقيه اقدر على وضع الحركة
الاجتماعية في الاطار الشرعي. لذلك
يرى بعض الفقهاء وهو المحقق
الاردبيلي (قده) ان ولاية المؤمنين في
عرض ولاية الفقيه وليست في طولها(9).
وتتجلى الولاية العامة بين المؤمنين
في الاية القرآنية: (والمؤمنون
والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله
ورسوله اولئك سيرحمهم الله ان الله
عزيز حكيم)(التوبة71). ولاشك ان هذه
الولاية لاتعني المحبة والنصرة بين
المؤمنين فقط بل هي اعم وتشمل
ولايتهم في السلطة ونفوذ تصرفاتهم،
وان بيدهم انتخاب الولي والحاكم
وحرية عزله ونقده بدليل سياق الاية
وذكر الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر. وكون الولاية مخصوصة بين
المؤمنين فقط فذلك لان الايمان هو
العقد الذي يشكل القاسم المشترك
للاتفاق والتراضي. |
|
فكما ان الحرية
من الاصول الاساسية في الاسلام فكذلك
الشورى، لانه لايمكن تحقق الحرية
وتتجسد بشكل عملي الا عبر وجود شورى
عامة تشمل كافة المجالات والا فان
القرآن لم يكن ليطرحها ويأمر الرسول
الاعظم (عليه السلام)
بتطبيقها، وذلك ان المجتمع
المتكامل والسليم والمؤمن لاينمو
ولا يسترشد الا بعد ان يمارس
المسؤولية العامة ويمارس حريته عبر
الشورى. وقد عمل الرسول الاكرم(عليه السلام)
بالشورى وقدم رأي الاكثرية على رأيه
في موارد مع كونه معصوما عن الخطأ
ولايحتاج الى الشورى، ومع علمه(عليه السلام) ان
رأي الاكثرية في هذا المورد هو خطأ
كما حصل ذلك في حرب أُحد. واذا كان
النبي(عليه السلام) على عظمته يأخذ بالشورى حسب ما
امره سبحانه (وشاورهم في الامر) في
الامور التي كانت اقل خطرا من
الولاية(ولاية الفقيه) كان لزوم
الاخذ بالشورى لغير النبي (عليه السلام)
الذين هم
دونه في العقل والدراية في الامر
الاهم وهو الولاية بطريق اولى، فانا
مأمورون بالاقتداء به (عليه السلام)(10). وكذلك فان
الاية: تدل بالملاك الاولوي على
الشورى في تعيين الحاكم بعد ان لم يكن
المنصوب عن الله حاضرا كما في الحال
الحاضر حيث غيبة الامام المهدي(عليه السلام)، فهل
يمكن وجوب الشورى في الامور العامة
وعدم وجوبها في تعيين القيادة التي
هي الاصل(11). فالغاية من
ممارسة الشورى هو تحمل المسلمين
لمسؤلياتهم الشرعية العامة، وتجنب
الوقوع في الخطأ فاذا كنا مأمورون
عقلا وشرعا وعرفا بالشورى حتى في اقل
الاشياء خطرا، فكيف لاتشمل الشورى
اكثر الاشياء اهمية وخطرا وهي
الولاية والقيادة التي تتصرف في
المصلحة العامة والانفس والاموال
والدماء والاعراض والبلاد. ومن جهة اخرى
فأن المبدأ الشيعي يرى ان حكم الفقية
ورأيه لايمثل الحكم الواقعي بل هو
حكم ظاهري قد يصيب وقد يخطأ حيث ان:
بعد تساوي النسبة في المصلحة وجودا
وعدما فان الاشاعرة لايرون حكما في
الواقع والمعتزلة يرونه لكنه يتبدل
بعدم اصابة الفقيه له، والشيعة يرون
الواقع بلا تبدل مع الخطأ ولذا سمي
الاولان بالمصوبة والاخير بالمخطئة..لاوجه
لترجيح احد الفقهاء على الاخرين في
الامامة بعد التساوي عقلا ونقلا حيث
قال(عليه السلام): ارحم خلفائي، ورواة حديثنا،
وفيما يرويه عنا ثقاتنا، مما يدل على
ان الجميع لهم حكم واحد فيما اذا
اختارتهم الامة مرجعا(12). ان القول
بعدم الشورى والحرية في ولاية الفقيه
يعني نتيجة ترتب العصمة لولي الفقيه
بحيث يصبح حكمه واقعيا في صورة
المطابقة والخطأ، وهذا هو مذهب
المصوبة والاشاعرة. |
|
مع ان الرسول
الاكرم(عليه السلام) وائمة اهل البيت(عليه السلام) كانوا
معصومين بحسب النصوص الواردة القرآن
والحديث فانهم لم يفرضوا على الامة
ولايتهم وسلطانهم، بل تركوا المجال
للامة لكي تختار وتمارس حريتها. ذلك
ان الطاعة والقبول عن اكراه السلطة
وقمعها لا يزيد الا من الكراهية
والجهل والنفاق. بينما الطاعة
النابعة من حرية الاختيار عن معرفة
وتعقل هي التي ترسخ المحبة والايمان
والالتزام الواقعي وهذا هو شأن اهل
البيت وعظمتهم التي بقت راسخة في
قلوب المؤمنين. وكذلك فان النبوة
والامامة التي هي من اصول الدين
والعقيدة لاتستقيم مع الاكراه
والاجبار كما قلنا ذلك سابقا. فمن
الواضح: ان الرسول(عليه السلام) جاء الى الحكم
بواسطة اعوان جمعهم حول نفسه بأخلاقه
الكريمة وانجذبوا الى الاسلام بسبب
مارأوا فيه من الصلاح والفائدة
ولمسوا فيه من الحق والحقيقة(13).
وكذلك الحال مع امير المؤمنين(عليه السلام) الذي
لم يقبل بالخلافة الا بعد حصول اجماع
من المسلمين على انتخابه، وقد قال (عليه السلام)
في ذلك بعد ان جاءه الناس وهو في
السوق بعد مقتل عثمان وقالوا: ابسط
يديك، قال: لاتعجلوا وامهلوا الناس
تجتمع ويتشاورون. وكذلك قال(عليه السلام)في نهج
البلاغة بعد مقتل عثمان: فان بيعتي
لاتكون خفيا ولاتكون الا برضى الناس.
وقال(عليه السلام) ايضا في النهج: لولا حضور
الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما
اخذ الله على العلماء ان لايقاروا
على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت
حبلها على غاربها. وروى ابن ابي
الحديد انه(عليه السلام) قال: اما بعد فان الناس
قتلوا عثمان عن غير مشورة وبايعوني
عن مشورة واجتماع. وفي كتاب لامير
المؤمنين الى شيعته: وقد كان رسول
الله(عليه السلام) عهد الي عهدا فقال: يابن ابي
طالب لك ولاء امتي فأن ولوك في عافية
واجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم وان
اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه.(كشف
المحجة لابن طاووس-180) وسيرة الامام(عليه السلام)
مع معارضيه تعتبر نموذجا رائعا
للحرية حيث يعطي الحاكم المجال للامة
للتعبير عن آرائها بدون أي وزر او
جريرة. وعن الحسن بن الجهم قال: كنا
عند ابي الحسن الرضا(عليه السلام) فذكر اباه فقال
كان عقله لاتوازن به العقول وربما
شاور الاسود من سودانه، فقيل له:
تشاور مثل هذا؟ فقال: ان الله تبارك
وتعالى ربما فتح على لسانه، فقال:
فكانوا ربما اشاروا عليه بالشيء
فيعمل من الضيعة والبستان.
|
|
ان ولاية
الفقيه لاتنعقد الا بتوفر شروط معينة
ذكرتها الادلة الشرعية كما يعتقد
الفقهاء بذلك، وهذه الشروط على نوعين:
شخصية حيث يشترط ان تكون هناك
مواصفات ذاتية كالاجتهاد والورع
والتقوى...، واجتماعية او عامة وهو ما
يرجع الى اختيار الناس له بحرية،
لذلك يقول بعض الفقهاء ان الفقيه
لايكون وليا الا عندما يكون مرجعا قد
اختاره البعض وحينئذ فانه لايكون
وليا الا على من رجع اليه ولاتسري
ولايته على الاخرين. فالادلة الشرعية
من الايات والروايات ارجعت الناس الى
العلماء الفقهاء بشكل عام فلذلك لا
تتحقق الولاية الا بعد الرجوع. وعن
امير المؤمنين(عليه السلام): والواجب في حكم الله
وحكم الاسلام على المسلمين بعدما
يموت امامهم او يقتل ضالا كان او
مهتديا مظلوما كان او ظالما حلال
الدم او حرام الدم، ان لايعملوا عملا
ولايحدثوا حدثا ولايقدموا يدا
ولارجلا ولايبدؤوا بشيء قبل ان
يختاروا لانفسهم اماما عفيفا عادلا
عارفا بالقضاء والسنة يجمع امرهم
ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم
حقه ويحفظ اطرافهم(14). هنا جعل الامام(عليه السلام)
الاختيار بيد الناس وذلك يدل على ان
شرعية الولي في غير المعصوم لاتكون
الا بعد انتخاب الامة له بحرية
واختيار. وفي باب الرجوع
الى القاضي هناك روايات في حرية
اختيار القاضي، فعن الامام الصادق(عليه السلام):
انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا في
قضايانا فاجعلوه بينكم فاني جعلته
قاضيا فتحاكموا اليه(15). حيث رتب جعله(عليه السلام)
بعد اختيار الناس وجعله بينهم. فاذا
كان القاضي الذي يكون اقل اهمية من
الولي والحكم ويحكم في القضايا
الشخصية للناس يرجع الامام(عليه السلام) اختياره
الى الناس فكيف بالولي الذي يمسك
بمصالح الامة ومصائر الناس. وفي
مقبولة عمر بن حنظلة عن الامام
الصادق(عليه السلام): ينظر الى من كان منكم قد روى
حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف
احكامنا فليرضوا به حكما فاني قد
جعلته عليكم حاكما. حيث يستفاد منه ان
الامام ربط جعل الحاكم برضى الناس.
ويظهر من مجموع الروايات ان رضى
الناس وحريتهم في الاختيار والنصب
شرط وركن اساسي في شرعية الولي
والحاكم. |
|
من الثابت عند
الفقهاء هو وجوب التقليد في فروع
الدين على المكلف، ولكن هذا الوجوب
من باب رجوع الجاهل الى العالم
للتيقن من تحصيل التكاليف الشرعية في
صورتها الصحية ورفع العسر والحرج عن
عموم المكلفين، والا فان كل مكلف
يستطيع ان يسعى للاجتهاد في استنباط
الحكم الشرعي ويقلد نفسه او يقلده
الاخرين. ولكن ما يلاحظ في الروايات
الشريفة الواردة في باب الافتاء
والقضاء هو حرية الرجوع الى أي من
توافرت فيه صفات وشروط التقليد كما
ذكرنا ذلك في المبحث السابق، فعن
الامام العسكري(عليه السلام) في الاحتجاج: فاما من
كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا
لدينه مخالفا لهواه مطيعا لامر مولاه
فللعوام ان يقلدوه. وعن الامام
الصادق(عليه السلام): ينظر الى اعدلهما وافقههما
في دين الله فيمضي في حكمه. ويرى
الشيخ النراقي ان مسئلة وجوب التقليد
يجب على المكلف تحصيلها بنفسه حيث
يقول: وحيث لايجوز له التقليد في هذه
المسألة لاستلزامه الدور يجب عليه
الاجتهاد بنفسه ايضا وعمله في تلك
المسألة باجتهاده...كما يجب على
العامي الاجتهاد في هذه المسألة يجب
عليه الاجتهاد في تعيين الفقيه الذي
يقلده من بين اصناف الفقهاء...وطريق
اجتهاده سهل لاصعوبة فيه(16). واذا كان
الانسان حرا في التقليد وفي انتخاب
مرجعه الديني مع ان التقليد من
الامور الشخصية التي لايوجد فيها
تصرف من الفقيه بصورة مباشرة ولايلزم
بالتكاليف الشرعية بالقوة والاجبار
بل تعتمد على التزام المكلف ووظيفته
امام الله سبحانه وتعالى، فكيف
بولاية الامر التي تشمل التصرف العام
في حق الامة وحقوق الافراد..! |
|
من الادلة
الاساسية التي يستدل بها على ولاية
الفقيه ونفوذ حكمه وامره هو حفظ
النظام ودرء الفوضى لان ترك الامة
بلا قيادة سوف يقودها الى فوضى عارمة
تنتهك فيها الحقوق وتضيع المصالح
وتنتشر المفاسد، وهذا يعني ان
الحكومة من الضرورات العقلية
الواضحة. ولكن عندما يتصرف الولي
بدون رضى الامة ويضيع حقوق الناس
ولايراعي المصالح ويسلب الحريات
ويستبد بالامر فان هذا هو درء للفاسد
بالافسد ويؤدي الى فوضى اكبر وتدمير
النظام الاجتماعي العام. فالعقل:
يحكم بالبداهة بقبح الفوضى ووجوب
اقامة النظام، ولاتستقر الدولة الا
بخضوع الامة وطاعتها، وتحقق الدولة
بقهر قاهر ظلم على الامة يحكم العقل
بقبحه فانه خلاف سلطنة الناس على
اموالهم ونفوسهم ولايحكم العقل ايضا
بوجوب الخضوع والاطاعة له(17). ان
النظام الاجتماعي لايستقر الا عند
وجود مشاركة جماعية مسؤولة على اساس
واقعي وهذه المشاركة تتحقق عبر وجود
الحريات التي من اهمها حرية انتخاب
الحاكم. لذلك نرى ان الانظمة
الاستبدادية هي اكثر الانظمة فوضوية
وفسادا حيث تسحق ابسط الحقوق
الانسانية وتنمو الامراض الاخلاقية
والنفسية والاجتماعية ويستهلك
النظام العام في اشكال من النفاق
والانانية والتفكك والتناحر. ومن هنا
فليس: لاحد ان يحدد حريات الناس او
يتصرف في مقدراتهم بغير اذنهم،
وللافراد ان ينتخبوا الفرد الاصلح
ويولوه على انفسهم بل يجب ذلك بعدما
حكم العقل بان المجتمع لابد له من
نظام وحكم وانهما من ضروريات حياة
البشر(18). فالنظام يتحقق ويتكامل مع
الحرية ويختنق وينهار مع الاستبداد
وقمع الحريات. |
|
وهو ما يحكم به
العقل بالاضافة الى الروايات
الواردة، ففي البحار عن غوالي
اللئالي عن النبي (عليه السلام): ان الناس مسلطون
على اموالهم. وعن الامام الصادق في
الوسائل: ان لصاحب المال ان يعمل
بماله ماشاء مادام حيا. فاذا كان صاحب
المال اولى بماله ولايحق له التصرف
بمال غيره فبشكل اولى ان يكون مسلطا
على نفسه لان النفس اهم من المال، ذلك
ان: السلطة على الذات قبل السلطة على
المال بحسب الرتبة بل هي العلة
والملاك لها حيث ان مال الانسان
محصول عمله وعمله نتيجة فكره وقواه
فهو بملكة ذاته وفكره وقواه تكوينا
يملك امواله المنتجة منها، والله
تعالى خلق الانسان مسلطا على ذاته
حرا مختارا(19). وقد اعتمد الفقهاء
قاعدة: الناس مسلطون على اموالهم
وانفسهم، قاعدة استدلالية في
استنباط الاحكام الشرعية بفحوى
الاولوية. ويرى الامام
الشيرازي ان تصرفات الولي في سلطنة
الناس على اموالهم وانفسهم لاتجوز
الا بعد اخذ الاذن منهم واستشارتهم
حيث يقول سماحته: وجوب اخذ الاذن
بالتصرف، فكل شيء مرتبط بشؤون الامة
لابد من الاستشارة فيه سواء في اصل
الجعل او تابعه مثل المدارس
والمستشفيات و...فانها تفتح وتعمل
بمال الامة ومقدراتها، وذلك لجهتين
انها تصرف بمال الامة سواء اموال
الخمس والزكاة او المعادن ولايحق
لاحد ان يتصرف في مال غيره الا باذنه،
انها تصرف في كيان الامة ولايحق لاحد
ان يتصرف في غيره الا باذنه ومن
الواضح ان رضى الامة في طول رضى الله
سبحانه واجازته، فالازم ان يكون
التصرف حسب الرضائين(20). وهذا هو
مقتضى بديهة العقل وبناء العقلاء على
ذلك فأن من يتصرف في غيره بدون اذن
يقبح فعله ويذم. والله سبحانه وتعالى
الذي انعم على الانسان بالعقل
والحرية لايشرع ما يسلب حرية الانسان
ويخالف حكمة التكليف والامتحان. واذا
كان الشرع قد اعطى الحرية للانسان في
ابسط الاشياء فكيف بالاشياء المهمة
التي تحدد مصيره في طريق الهداية
والايمان. يقول الامام الشيرازي: انه
لو كان القاضي برضى المتخاصمين وهو
تصرف في بعض شؤونهما كان الوالي الذي
يتصرف في كل شئونهم اولى ان يكون
برضاهم(21). |
|
من المعلوم ان
هناك حقوقا اساسية يتمتع فيها منها
الحقوق الشخصية في التملك والزواج
والسفر ومنها حقوق عامة كالانتخاب
والانتقاد والتعبير عن الرأي وتشكيل
المؤسسات، ومن الواضح ان الولاية
المطلقة التي لاتنظر لحريات الناس
واستشارتهم هي تضييع لاهم حقوق
المسلمين التي تأطرها الحرية
باعتبارها القانون الاسمى والاولي.
فعن الامام الباقر(عليه السلام) في الوسائل:
لاتبطل حقوق المسلمين فيما بينهم.
وعنه عليه السلام ايضا في الوسائل:
لايبطل حق امرء مسلم. |
|
اذا انتخب
الولي واجازته الامة في التصرف فانه
لايتصرف الا بمقدار الاجازة وبحسب
المصلحة والوقوف امام المفسدة،
ويستدل بعض الفقهاء بهذه الاية
القرآنية في ضرورة العمل حسب
المصلحة، حيث يقول الله تعالى: (ان
الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما
انما يأكلون في بطونهم نار وسيصلون
سعيرا)(النساء10)، فاذا كان ولي اليتيم
تتحقق تصرفاته شرعا وتصبح نافذة اذا
كانت حسب المصلحة وليس فيها مفسدة،
فبشكل اولى يكون على الولي الفقيه ان
يعمل حسب المصلحة لان مصالح الامة
لاشك اهم من مال اليتيم. وفي الكافي
عن الباقر(عليه السلام) عن النبي(عليه السلام): لاتصلح الامامة
لرجل الا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع
يحجزه عن معاصي الله وحلم يملك به
غضبه وحسن الولاية على من يلي حتى
يكون لهم كالوالد الرحيم.(وفي رواية
اخرى: حتى يكون للرعية كالاب الرحيم). ولاتكفي عدم
وجود المفسدة ذلك بل يرى بعض الفقهاء
رعاية المصلحة لان: جعل الولاية انما
هو باعتبار المحافظة على المصلحة
فعدم رعايتها والتقول الى عدم
المفسدة خلاف الحكمة المجعول لاجلها
الولاية(22). وفي رواية الصدوق في
الفقيه: من حكم في درهمين بغير ما
انزل الله عزوجل فقد كفر بالله. ومن
هنا فان الولي لو لم يعمل بالمصلحة
بحيث: ظهر خطأه لزم عليه التدارك لانه
لم يأت بالتكليف او افسد مال الناس..ولو
انكشف الضرر فهل المعاهدة تحققت
لمعاهدة بينهما فيكون كمعاملة الغبن
او لا، لان الولي منصوب للمصلحة
فغيرها او المفسدة تصرف فيما ليس
بحقه وذلك يوجب عدم الانعقاد الا على
نحو الفضولي في مورده؟ احتمالان ولعل
الثاني اقرب(23). |
|
ان القراءة
السابقة في مختلف الادلة التي روجعت
يمكن ان تعطينا استنتاجا نظريا
اساسيا ومجموعة استنتاجات عملية. اما
الاستنتاج النظري وهو ان الحرية اصل
اولي ينبع من الاسس الاعتقادية وهو
بذلك يكون قانونا اسمى يحكم القوانين
والفروع الاخري مثل مبدأ الولاية في
غير المعصوم (عليه السلام). فالحرية هي حاكمة على
ولاية الفقيه وتقيدها بضرورة كونها
باختيار الامة وتصرفاتها باجازة
الناس وتعمل بحسب المصلحة العامة. اما
الاستنتاجات العملية فهي: اذا كانت
الحرية حاكـــــمة على ولاية الفقيه فان
من اوليات هذا الامر ان يكون انتخاب
الفقيه بيد الناس انتخابا حرا
لااكراه فيه، فالاصل ان: الشارع لم
يعين احدهم (الفقهاء) فالاصل يقتضي
اباحة اختيار أي منهم،فكل شيء مطلق
حتى يرد فيه نهي ويؤيده انه الاقرب
الى الحرية الممنوحة للمسلم حسب قوله: (يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت
عليهم)، وربما يستأنس له بما نشاهده
في سائر الاحكام فالانسان مخير في
تقليد أي مرجع ومراجعة أي قاضي
اسلامي والصلاة خلف أي امام عادل(24).
فحرية الانتخاب حكم وحق شرعي يكشف عن
ان ولي الفقيه لاتتحقق شرعيته كاملا
ان لم ينتخب من الناس، وقد ذكرنا
سابقا مجموعة من الروايات في هذا
الباب تحمل الفاظ مثل: اختاروا..انظروا..رضى
الناس..اجعلوا... فاختيار الناس شرط في
تحقق شرعية الولي والا فلا شرعية له.
يقول الامام الشيرازي: ان الحاكم يجب
ان توفر فيه شروط الله من العلم
والعدالة..واختيار الناس فلهم ان
يجعلوه حاكما لمدة خمس سنوات فقط او
يطلقوا حكمه وبعده يعدلون الى غيره(25).
ولذلك فلا تفوق للنظام الديمقراطي
الغربي على النظام الاسلامي في مسألة
الحرية والانتخاب بل ان نظام الشورى
في الاسلام اكفأ واقدر على معالجة
المشاكل الانسانية والاجتماعية
والاقتصادية، ففي نظامهم الحاكمية
المطلقة للشعب الذي تتلاعب برأيه
الشركات والمصالح الاقتصادية
والرأسمالية وهي تشرع ما فيه
مصالحها الخاصة الضيقة ولو كان ذلك
ضد الاخلاق والدين والانسانية كما
شرعوا الربا والاباحية والشذوذ
والاحتكار. وهم يولون على انفسهم أي
شخص كان ولو كان فاسدا لايقدم مثالا
اخلاقيا جيدا يقتدي به الشعب. ولكن في
النظام الاسلامي الحاكمية لله وفي
طولها الحاكمية للرسول والائمة
المعصومين عليهم السلام وفي طولها
الحاكمية للامة التي تتفرع منها
حاكمية الفقيه العادل والكفوء.ومن
هنا فان: اختيار الحكم في غير المعصوم
بيد الناس مع شرائط الله وان يكون
اختياره عن قصد وعمد فان الاول اعم من
الثاني اذ يقسم القصد اليه والى غيره(26).
ويرى البعض ان
الولي ينتخب ولكن ليس عن طريق الامة
بل عن طريق اهل الحل والعقد، لان
الامة غير قادرة على معرفة المؤهل
وتشخيص اعلميته وعدالته لذلك يقتصر
الامر على العارفين وهم اهل الحل
والعقد مع كون السيرة التاريخية على
ذلك. ولكن هناك ملاحظات في هذا الرأي: 1ـ ان الحرية حق
عام لايقتصر على اهل الحل والعقد ولو
قصر على ذلك لضيعت حقوق المسلمين كما
حصل ذلك في السقيفة. لان الحرية من
اوليات الحقوق الانسانية. 2ـ ان الاخذ
برأي اهل الحل والعقد وترك رأي الامة
خلاف اطلاق ايات الشورى، وعمل برأي
الاقلية وتضييع رأي الاكثرية وهذا
لايسمى شورى. يقول امير المؤمنين (عليه السلام):
والزموا السواد الاعظم فان يد الله
على الجماعة واياكم والفرقة فان
الشاذ من الناس للشيطان كما ان الشاذ
من الغنم للذئب.(نهج البلاغة2/11) 3ـ اذا كانت
تصرفات الولي تحتاج الى اجازة من
الامة لنفوذ عمله وسلطته فان الاجازة
لاتتحقق بمجرد انتخاب اهل الحل
والعقد. 4ـ ان السيرة
السابقة كانت في انتخاب اهل الحل
والعقد للولي فان ذلك كان لبعد
المسافات جغرافيا وصعوبة الاتصال،
ولكن اليوم المسافات اصبحت شبه ملغية
لوجود القدرة على الاتصال واعطاء
الامة رأيها في الولي الذي تنتخبه. 5ـ ترى القوانين
الدستورية ان انتخاب اهل الحل والعقد
هو نوع من الدكتاتورية المبطنة التي
تهدف الى مصادرة رأي الامة لصالح
السلطة عبر تعيين مجموعة من الاشخاص
تسميهم اهل الحل والعقد لاضفاء
الشرعية على نفسها، كما تفعل ذلك بعض
الانظمة التي ينتخب فيها الرئيس من
خلال البرلمان الذي يسيطرون عليه
سيطرة مطلقة. نعم يمكن ان
يقوم اهل الحل والعقد بترشيح الفقيه
او الفقهاء للامة كي تنتخبهم انتخابا
حرا كما يحصل ذلك في النظام
الديمقراطي عندما ترشح الاحزاب
اشخاصا الى الشعب حتى ينتخبوهم. فكما يكون
للامة حق وحرية الانتخاب لها الحق في
تغيير الولي وعزله، باعتبارها
المصدر المكمل لشرعية الحاكم ورضى
الامة شرط في تحقق سلطته. وفي عيون
اخبار الرضا عن الامام الرضا(عليه السلام)
باسناده الى النبي(عليه السلام): من جاءكم يريد ان
يفرق الجماعة ويغصب الامة وتولى
امرها من غير مشورة فاقتلوه فان الله
قد اذن ذلك. وفي نهج
البلاغة: ... فان اجتمعوا على رجل
وسموه اماما كان ذلك لله رضا،فان خرج
عن امرهم خارج بطعن او بدعة ردوه الى
ما خرج منه فان ابى قاتلوه على اتباعه
غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما
تولى.(نهج البلاغة3/8) فان الحق في
العزل هو نفسه الحق في الانتخاب ولا
ديمومة لحكم الولي مع ارتفاع الشرط
او السبب في وجوده على السلطة. يقول
الامام الشيرازي: وبعد التشخيص يكون
الاختيار بيد الاكثرية اثباتا او
تحديدا للمدة او اسقاطا بعد الاختيار
فانه لايدل دليل على ان الحاكم
كالمجتهد اذا اختير لم يكن لمختاره
العدول عنه(27). ويقول سماحته في مكان
اخر: اما وجوب المشورة في مجيء الحاكم
فلانه نوع تسلط على الناس والناس
لايصح التسلط عليهم الا برضاهم، اما
وجوب المشورة في امور الناس بعد
مجيئه للحكم لان الحاكم بقدر تخويل
الناس لــــه الصلاحية ففي غيره يحتاج
الـــــى اذنهم، والحاصل انه ما كان شأن
الناس يحتاج اليه ابتداءا واستدامة(28). ان حق الامة في
الانتخاب والتغيير يعطيها الحق في
انتقاد الحاكم والولي عندما لايعمل
بمصالح الامة او يتجاوز مقدار
التفويض الذي وكلته فيه. ومع غض النظر عن
هذا الحق فان الانتقاد والوقوف امام
الخطأ والانحراف عبر وظيفة الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر من اهم
الوظائف الشرعية الواجبة على المكلف
وجوبا كفائيا. كما ان ولاية المؤمنين
العامة والشاملة لبعضهم البعض ولولي
الامر تعني الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم
اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة ويطيعون الله ورسوله اولئك
سيرحمهم الله ان الله عزيز حكيم)(التوبة71)
لان من شروط الولاية الصحيحة بين
المؤمنين ان يكون بينهم مراقبة
وتواصي ومحاسبة حتى يتحقق القرب
والنصرة والمحبة، وفي ايات اخرى: (الامرون
بالمعروف والناهون عن المنكر
والحافظون لحدود الله)(التوبة112)،
(كنتم
خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر)(ال عمران110)،
(ولتكن
منكم امة يدعون الى الخير يامرون
بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم
المفلحون)(ال عمران104) ونرى في الايات
الثلاثة ان الله تعالى ربط حفظ حدود
الله وكون امة الاسلام خير الامم
وفلاح المؤمنين بالامر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وهذا يدل على
خطورة هذه الوظيفة الشرعية واهميتها
وان تركها وخصـــــوصا في مسألة الولي
والحاكم يؤدي الى تحطم الامة
وانهيارها وخرابها، حيث يقول امير
المؤمنين في وصيته قبل وفاته:
لاتتركوا الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون
فلا يستجاب لكم. لذلك فان انتقاد
الولي من الواجبات الشرعية اضافة الى
انه من الحقوق. فعن الامام علي بن أبي
طالب(عليه السلام): كما في نهج البلاغة: فلا
تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا
تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند اهل
البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة،
ولا تظنوا بي استثقالا فــــي حق قيل لي،
ولا التماس إعظام لنفسي، فانه من
استثقل الحق ان يقال له والعدل ان
يعرض عليه كان العمل بهما اثقل عليه.
فلا تكفوا عن مقالة بحق او مشورة بعدل
فاني لست بفوق ان اخطأ ولا آمن ذلك من
فعلي الا أن يكفي الله من نفسي ما هو
املك به مني. ومن المعلوم ان
الامام (عليه السلام)
معصوم لايخطأ ولكنه بهذا
الحديث اراد ان يعلم الناس على
انتقاد الحاكم وان لهم الحق في ذلك
عندما يخطأ وينحرف عن طريق الحق
والعدل. ان نظرية ولاية
الفقيه تصبح هيكلا استبداديا فارغا
غير قانوني وغير شرعي عندما تجرد من
المفاهيم والاطر الاسلامية الاخرى
كالحرية والشورى والتعددية وحرية
الانتخابات وحرية الانتقاد. اما
عندما تؤطر هذه النظرية وتقيد في
واقع العمل بهذه الاطر والحدود فانها
تصبح من اكثر النظريات قدرة في عصر
الغيبة على اقامة النظام الاجتماعي
المستقر والامن لانه يعتمد على
قاعدتين اساستين رضا الله سبحانه
وتعالى وحاكميته ورضى الامة
وحاكميتها. |
|
1 ـ الفقه
البيع، الامام الشيرازي، ص 11 2 ـ نفس
المصدر السابق. 3 ـ نفس
المصدر السابق. 4 ـ ولاية
الفقيه، الشيخ احمد النراقي، ص 29 5 ـ الفقه
البيع، الامام الشيرازي، ص 11 6 ـ دراسات
في ولاية الفقيه، الشيخ المنتظري،
المجلد الاول، ص 27 7 ـ
المفردات، للراغب الاصفهاني. 8 ـ دراسات
في ولاية الفقيه، ص 55 9 ـ الفقه
البيع، الامام الشيرازي، ص 63 10 ـ الحكم في
الاسلام، الامام الشيرازي،ص46 11 ـ الشورى
في الاسلام، الامام الشيرازي،ص28 12 ـ الفقه
البيع، الامام الشيرازي، ص 27 13 ـ الحكم في
الاسلام، الامام الشيرازي،ص30 14 ـ عن كتاب
سليم بن قيس/182 15 ـ
الوسائل،18/100 16 ـ ولاية
الفقيه، الشيخ احمد النراقي، ص 87- 89 17 ـ دراسات
في ولاية الفقيه ، المجلد الاول، ص 493 18 ـ نفس
المصدر السابق، ص496 19 ـ نفس
المصدر السابق، ص495 20 ـ الشورى
في الاسلام، الامام الشيرازي،ص23 21 ـ الحكم في
الاسلام، الامام الشيرازي،ص45 22 ـ المصدر
السابق، ص58 23 ـ الفقه
البيع، الامام الشيرازي، ص 52 - 54 24 ـ الحكم في
الاسلام، الامام الشيرازي،ص41 25 ـ الفقه
البيع، الامام الشيرازي، ص 34 26 ـ الفقه
البيع، الامام الشيرازي، ص 46 27 ـ الفقه
البيع، الامام الشيرازي، ص 46 28 ـ الشورى
في الاسلام، الامام الشيرازي،ص36 |
|