كان
الشيخ زين الدين عالماً فاضلاً جليل القدر
عظيم الشأن رفيع المنزلة تقياً نقياً ورعاً
زاهداً عابداً حائزاً صفات الكمال، متفرداً
بها بما لا يشاركه فيها غيره مفخرة من مفاخر
الكون وحسنة من حسنات الزمان كان فقيهاً
ماهراً في الدرجة العليا بين الفقهاء محدثاً
أصولياً مشاركاً في جميع العلوم الإسلامية (النحو
والصرف والبيان والمنطق واللغة والأدب
والعروض والقوافي والاصول والفقه والتفسير
وعلم الحديث وعلم الرجال وعلم التجويد واصول
العقائد والحكمة العقلية والهيئة والهندسة
والحساب وغير ذلك)
ويقال
إن السبب في قراءته علم التجويد أن الشيخ داود
الأنطاكي الطبيب صلى خلفه، فقال أنا أقرأ منه
فبلغه ذلك فقرأ علم التجويد والف في كثير من
هذه العلوم المؤلفات النافعة الفائقة والفقه
أظهر واشهر فنونه وكتبه ومنها كتابي المسالك
والروضة فهي مدار التدريس من عصره حتى اليوم
ومحط أنظار المؤلفين والمصنفين ومرجع
العلماء والمجتهدين، وقد صحح كتب الحديث
وقرأها وأقرأها وبلغ به علو الهمة إلى قراءة
كتب العامة في جل الفنون ورواية أكثرها عن
مؤلفيها بالإجازة، وطاف البلاد لأجل ذلك
كدمشق ومصر وفلسطين وبيت المقدس واستانبول
وغيرها
كما
إشتغل الشيخ زين الدين في التدريس في
المدارس العامة فسافر إلى استانبول
لذلك ونال قبولاً تاماً من أرباب
الدولة واعطي تدريس المدرسة النورية
في بعلبك، ولم يحتج إلى شهادة قاضي
صيدا كما كان معمولاً عليه في ذلك
الوقت
وما
ظنك برجل يؤلف مؤلفاته العظيمة الخالدة تلك
على مر الدهور والأعوام وهو في حالة خوف على
دمه، لا يشغله ذلك عنها مع ما تقتضيه هذه
الحالة من توزع الفكر واشتغال البال عن
التفكير بمسألة من مسائل العلم يؤلفها بين
جدران البيوت المتواضعة وحيطان الكروم، لا في
قصور شاهقة ورياض ناضرة ولا مساعد له ولا
معين، حتى على تدبير معاشه ونقل الحطب لدفئه
وصنع طعامه، فهو رحمه الله عاش في ظروف صعبة
للغاية وفي ظل حالة من الفقر والحرمان، لا كما
هو حال نوابغ علماء ايران على سبيل المثال
الذين كانوا يتمتعون بنضارة العيش ولهم الخدم
والحشم وسعة المعاش، فلو ذاق الشيخ البهائي
مثلاً ما ذاق الشهيد الثاني وامثاله من جبل
عامل من مرارة العيش وجشوبة المطعم والملبس
لقال وهو يذهب في ركاب الشاه عباس وامره نافذ
في مملكته وقبة قبره تزار كما تزار قبور
الانبياء والاوصياء، وترعى الدولة صيانة
مرقده لقال رحم
الله أبي الذي أتى بي من جبل عامل إلى
بلاد العجم، وخلصني مما يعانيه علماء
جبل عامل من المشاق التي تنوء بحملها
الجبال، وحقاً أن جبل عامل مضيعة
العلماء احياء وامواتاً وما ظنك
برجل من اعظم العلماء واكابر الفقهاء
يحرس زرعه (الكرم) ليلاً، ويطالع
الدروس، وفي الصباح يلقي الدروس على
الطلبة، وكرمه الذي كان له في جبع
معروف محله إلى الآن، ويحتطب لعياله
ويشتغل بــالتجارة أحياناً، وكان داره
ديواناً مفتوحاً للضيوف والواردين
وغيرهم يخدمهم بنفسه ويباشر أمور
بيته ومعاشه بنفسه، وهكذا كانت طريقة
علماء جبل عامل في الزهد والقناعة
والجد والكد والعمل للمعاش
مما ذكره
ابن العوادي في رسالته، إن الشيخ زين
الدين العاملي (الشهيد الثاني)، كان
يصلي المغرب والعشاء جماعة في مسجده،
ويشتغل فيما بين المغرب والعشاء
بتصحيح كتب الحديث وقراءتها
وإقرائها، ثم يذهب إلى الكرم (الزرع)
لحراسته من السراق، ومن تدريسه في
اليوم المقبل، ويشتغل عند اللزوم
ينقل الحطب ليلاً على حمار إلى منزله
ويقوم في الليل بأداء النوافل كلها،
فإذا طلع الفجر جاء إلى مسجده فصلى
فيه صلاة الصبح وعقب ما شاء، ثم يشرع
في البحث والتدريس، ثم ينظر في أمر
معاشه والواردين عليه من ضيوف
ومتخاصمين فيقضي بينهم ثم يصلي
الظهرين في وقتيهما ويصرف باقي يومه
بالمطالعة والتأليف ولا يدع لحظة
تمضي من عمره في غير اكتساب فضيلة
وإفادة مستفيد، وخلف مائتي كتاب بخطه
من تأليفه وتأليف غيره
منذ صغر
سنه ولج ميدان العلم والمعرفة، وقد
أتم ختم القرآن الكريم سنة 930هـ وهو
إذ ذاك في سن تسع سنين، واشتغل بعد
ذلك بقراءة الفنون العربية والفقه
على يد والده قدس سره إلى أن توفي في
العشر الأواسط من شهر رجب سنة 935هـ،
وفي شهر شوال من نفس السنة إرتحل في
سبيل طلب العلم إلى ميس، واشتغل في
التعليم عند الشيخ علي بن عبد العالي
قدس سره إلى أواخر سنة 933 ثم ارتحل إلى
كرك نوح، وواصل تعلمه عند الشيخ علي
الميسي، حيث تزوج من ابنته، وكانت
زوجته الكبرى وأولى زوجتيه، وبقي في
كرك نوح لغاية سنة 937 وقد درس خلال تلك
السنوات مختلف العلوم
بعدها
إرتحل إلى دمشق واستغل فيها بطلب
العلم على يد الشيخ الفاضل المحقق
الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكي،
فقرأ عنده كتب الطب من قبيل الموجز
النفيسي وغاية القصد في معرفة الفصد
من مصنفات الشيخ المبرور ذاته، وفصول
الفرغاني في الهيئة وبعض حكمة
الإشراق للسهروردي، كما درس علم
القراءة وقراءة القرآن بقراءة نافع
وابن كثير وابي عمرو وعاصم، ثم رجع
إلى جبع سنة 938، وفي 941 عاد إلى دمشق
ثانياً أول سنة 943، والتحق في
اجتماعات الدروس عند الشيخ شمس الدين
بن طولون الدمشقي الحنفي، وقرأ عليه
جملة من الصحيحين وأجازه روايتهما
وفي أول
سنة 943 رحل إلى مصر لتحصيل ما أمكن من
العلوم، وقد درس عند ستة عشر شيخاً من
اكابر أساتذة مصر، منهم الشيخ شهاب
الدين أحمد الرملي الشافعين والملا
محمد علي الكيلاني والشيخ شهاب الدين
بن النجار الحنبلي والشيخ أبو الحسن
البكري، ومن خلالهم تعلم مختلف
مفاهيم وأصول مذاهب أهل السنة، وفي
شوال 943 ارتحل من مصر إلى الحجاز
الشريف، وزار قبر النبي‡ وأدى
الحج والعمرة، ثم عاد إلى وطنه لبنان
وقريته جبع، حيث كان قدومه إلى
البلاد كرحمة نازلة، وغيوث هاطلة
أحيا بعلومه نفوساً أماتها الجهل
وازدحم عليه أولوا العلم والفضل،
وابتهجت أهل المعارف وأضاءت أشهر ما
اجتهد في تحصيله منه وأشاع وظهر من
فوائده ما لم يطرق الأسماع
ابتدأ
امره في الاجتهاد سنة 944 واتسعت
دائرته وانتشر في سنة 948، فيكون عمره
لما اجتهد 33 سنة، وكان في ابتداء امره
يبالغ في الكتمان، وشرع في شرح
الإرشاد
وبعد أن
استفاض محيطه وطلابه بعلومه، سافر
إلى العراق للتشرف بزيارة مراقد ائمة
أهل البيت عليهم السلام وكان خروجه
في 17 ربيع الثاني سنة 946هـ، ورجوعه في
15 شعبان منها
وفي
منتصف ذي الحجة 948هـ سافر لزيارة بيت
المقدس في فلسطين، واجتمع في تلك
السفرة بالشيخ شمس الدين بن أبي
اللطف المقدسي، وقرأ عليه بعض صحيح
الإمام البخاري وبعض صحيح مسلم،
وأجازه إجازة عامة، ثم رجع إلى وطنه
الأم جبع، وأقام به إلى أواخر سنة 951
مشتغلاً بمطالعة العلم ومذكراته
وقال قدس
سره أنه برزت له الإشارات الربانية (يشير
إلى الاستخارة)، بالسفر إلى جهة
الروم والاجتماع بمن فيها من أهل
الفضائل والعلوم، وقد بدأ رحلته هذه
مع نهاية 951هـ، ماراً عبر سوريا
ومدنها العديدة كدمشق وحلب، وفي يوم
الاثنين 17 ربيع أول 952هـ وصل إلى
مدينة القسطنطينية مع من رافقه في
رحلته الطويلة هذه، فأقاموا فيها،
وقد بدأ الشيخ اجتماعاته بأحد
الأعيان، ثم اقتضى الأمر أن يكتب
رسالة جيدة تشتمل على عشرة مباحث، كل
بحث في فن من الفنون العقلية
والفقهية والتفسير وغيرها، وأوصلها
إلى قاضي العسكر و هو محمد بن قطب
الدين بن محمد بن محمد بن قاضي زاده
الرومي، وهو رجل فاضل أديب، وفيما
بعد واصل اجتماعاته ببعض الفضلاء في
قسطنطينية، وتبادل معهم العلوم
ورسائل المعرفة طيلة الأشهر الثلاثة
والنصف التي قضاها، حيث خرج من
القسطنطينية في 11 رجب 952، وتوجه بحراً
إلى مدينة إسكدار، وفيها اجتمع برجل
هندي له فضل ومعرفة بفنون كثيرة منها
الرمل والنجوم وعلوم الفلك، وبعد أن
تزود في هذه المدينة بما امكن من
العلم والمعرفة، قرر السفر من بلاد
الروم وتوجه إلى العراق وبدأ رحلته
الجديدة في 2 شعبان 952، وفي العراق طاف
الشيخ زين الدين بجميع مراقد الائمة
الطاهرين والعديد من مراقد صحابة
الرسول الكريم‡ كسلمان الفارسي وحذيفة بن
اليمان ومسجد الكوفة ومسجد السهلة
ومدن أخرى كالحلة والقاسم، ومع
انتهاء زيارته للعراق قرر إنهاء
رحلته الطويلة هذه والتي جاءت لأغراض
طلب العلم والتعرف على شخصيات
الإسلام وعلماءه وتبادل العلاقات
وتوثيق الوشائج والروابط الدينية،
قرر العودة إلى بلاده، التي وصلها في
شهر صفر 953، واقام في مدينة بعلبك،
واشتغل بتدريس المذاهب الخمسة في
المدرسة النورية، إضافة إلى كثير من
الفنون، وكان له في المسجد الأعظم
درس مضافاً إلى ما ذكر، وصار أهل
البلد كلهم في إنقياده ومن وراء
مراده، ورجعت إليه الفضلاء من أقاصي
البلاد، ثم انتقل إلى قريته جبع التي
ولد فيها، واستقر في مشهد شيث…
المشرف، واشتغل بالتدريس والتصنيف
لغاية سنة 955
|