فلسفة النشوء الحضاري |
شروط النهضة |
عبد الرزاق الجبران |
|
الرؤى التي أولدت عن مخاضات التجربة البشرية، والطروحات التي انبثقت من قبل المفكرين الإسلاميين أو غيرهم ممن تكلموا أو كتبوا في فلسفة الحضارة، وحركة التاريخ، كثيرة. كل بما يرى حسبما ينطلق منه. لحق ذلك أن كثيراً من تلك الرؤى تأطرت شكلاً مدرسياً، وتسنّمت وجوداً حاكماً، كما عن فلسفة التاريخ والتناقض الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا للماركسية أو قد يضعونه بشكل آخر حين التعمق وذاك في حدود العامل الاقتصادي الزوجي المتمثل بالحاجة والوسيلة. وكما في الهتلرية، انطلاقاً من (نيتشه) أو (أزوالد شبنجلر) صاحب الكتاب الشهير (أفول الغرب) أو (تدهور الحضارة الغربية) ـ حسب الترجمات ـ في فلسفة الحضارة باعتبارها ثمرة لعبقرية خاصة (وهكذا نجد في هذه النظرية العامل العنصري يتسرب على يد شبنجلر إلى المذاهب التاريخية، وهو العامل الذي سوف يتاح لدوره التاريخي فيما بعد، أن يحقق اكتماله المنهجي في المدرسة الهتلرية على يد روزنبرج)(1). لذلك لابد في مسيرة شروط النهضة أن يُطلع على الألوان التي عرف بها العقل البشري وأثرت سلباً وإيجاباً في أوضاعه الجماعية، هذا الإطلاع ترافقه الآفاق القرآنية، باعتباره المصدر الأول للكليات والقواعد والأسس التي يمكن منها الوصول إلى ركائز الحضارة. بعد أن وضّح في العدد السابق تبيين القرآن وإشارته لوجود السنن حاكمة في مسيرة الإنسان، تغلّف حركته، وبالتالي النهوض والاستخلاف يتم بفهم وتطبيق هذه السنن.. بل هو رهين ذلك، وتطرّقنا إلى آلهيتها، بمعنى أن الله ـ تعالى ـ زرعها في الكون ضمن النظام العام الذي يتسق وحكمته في إيجاد الإنسان وكيفية الاستخلاف في الأرض واختباره فبذلك (لا شك أن أول أساس بنيت عليه الحضارة الإسلامية ـ التي أنقذت العالم من الويلات، ودفعته إلى التقدم الهائل في أبعاد الحياة ـ هو القرآن، ولذا فمن الضروري ـ إذا أردنا إعادة الحضارة الإسلامية ـ أن نبنيها على القرآن مرة ثانية)(2). علماً أن عرض تلك السن إما مباشرة أو انتزاعياً أو توجيهياً يحتاج أو لا يحتاج للانتزاع حسب وضوحه. فمرة تكون السنة أو تأتي بصيغتها الكلية في شكل قاعدة (وهذه تمتلك أشكالاً سيأتي توضيحها لاحقاً إن شاء الله). وفي بعض الحالات أعطت مصداقاً معيناً لا عليك إلا أن تنتزع منه القاعدة بما عرض من تطبيق لها ضمن إطار بداية ونهاية بإرجاع البداية الجزئية إلى مفهوم كلي، فالإيقاع بالآخرين أو التوجيه لغير الحقيقة يمكن إرجاعه إلى المكر والخديعة وهما يمتلكان إطاراً كلياً يضم مجموعة من المصاديق. فإطار البداية والنهاية بترقية من جزئية إلى كلية ـ يكون سنة تجري على الوقائع الأخرى التي تدخل تحت مفاهيم الكلية. ومرةً ثالثة بعض الآيات جاءت تحثّ على الاستقراء والفحص في الشواهد التاريخية للوصول إلى سنة تأريخية(3). إذن معرفة السنن من القرآن كانت بثلاثة طرق (وهذا الرقم خرج بالاستقراء الناقص كما هو معروف من حيثية البحث فهو قابل للزيادة).. الطريق الأول: العرض المباشر للسنة في قالب صيغة كلية (قاعدة) مثل: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد:11). وكذا: ( ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) (فاطر: 43). الطريق الثاني: إعطاء المصداق للسنة أي الحدث الذي تلبس بها وهو غير موقوف عليها مثل ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض، ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً، سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا) (الإسراء:76ـ77). كذا الآية 34 من سورة الأنعام: ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى آتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) . الطريق الثالث: التوجيه لاستقراء حركة الإنسان الخارجية في تجربته ضمن الاحتكاك والتدافع البشري على طول التاريخ ودراسة البدايات والنهايات وثنايا التأثير ثم الانتزاع. مثل:( أفلم يسيروا في الأرض ، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) (يوسف:109). أو: ( أفلم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم، ومرّ الله عليهم وللكافرين أمثالها) (محمد: 10). وذيل الآية (10) من سورة محمد ( وللكافرين أمثالها) دليل على قانونية السنة وذلك في جريانها. وكذا الآية (133) من آل عمران: ( قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) والفاء التفريعية في كلمة (فسيروا) عن الجماعة التي قبلها تجعل رابطية بين وجود السنن ومضيّها، وبين طلب البحث عنها خارجاً.. أو البحث عما كتب التاريخ عنهم ولم يبق إلا أطلالهم ينعقها الغراب والخراب.. فالدخول إلى الأسس للنهضة لا يمكن إلا بمعرفة سنن التاريخ لأنها عين سنن الصعود والسقوط بما تنطوي عليه من أسرار في عالم الإنسان فرداً أو جماعة. |
|
كثيرٌ هم المفكرون في شرق الأرض وغربا ممن طرق هذا الموضوع لأهميته القصوى إما في الجبهة الفكرية الإسلامية. أو الجبهات الأخرى بشتى مشاربها ممن تداولوا المصطلح ضمن أسس معرفية، تناولت التجربة الــبشرية بالفحص والاستقراء، وبأدوات علمية، استجدت في معرفية الإنسان سيما ما بعد الخط التجريبي في خطوة فرنسيس بيكون، الذي امتد أثره على أثر العلوم ومنها الإنسانية، كذلك الخطوة التي تلت حركة علم الاجتماع وبلورته عند الغرب في (الفلسفة الوضعية) لأوجست كونت، بالتعامل مع الوضع والموضوع الخارجي وهو نفس تجريبي كما لا يخفى. |
|
في القرن الثامن الهجري، بداية عصر التراجع للأمة الإسلامية ونكساتها، خرجت مقدمة ابن خلدون أو تاريخه، الذي خرج فيه بوجه جديد معرفياً في تلقي الأحداث والوقائع (فقبل ظهوره كان التاريخ ضرباً من (الأحداث المتتابعة)، حتى إذا جاءه وجدناه يخلع على التاريخ نظرة جديدة، فهو حين وصله بمبدأ السببية أدرك بتلك النظرة معنى تتابع الأحداث من حيث كونه عملية تطور، كما حدد معنى الواقع الاجتماعي من حيث كونه مصدراً لتلك الأحداث وتطورها)(4). فالمؤرخون قبل ابن خلدون لم يأخذوا سمة التحليل والتعليل والربط، وما يكتنف الأحداث من خلفيات، فهو ممن نبه إلى دورة الدولة في نظرية الأجيال الثلاثة، وإن لم يتجاوزها إلى أفق الدورة الحضارية وإن كان كلاهما يدخل في سور الدورة التأريخية، وردّ ابن خلدون نشوء كيانها إلى العصبية الأسرية، التي اعتبرها من تكوينية الفطرة فهي كما يرى (نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا)(5). من هذا يكون: أولاً: التاريخ قبل ابن خلدون فيما اعتاده المؤرخون خال من التحليل والربط واستكشاف العلل التي توجه الأحداث، فادخل السببية، وعلل معنى تتابع الأحداث. ثانياً: إن الأحداث التاريخية وأسبابها يحددها الواقع الاجتماعي، فهي نتاج له. ثالثاً: إن هناك دورة تمر بها الدولة وتتداول.. في طريق حلزوني لا مستقيم. رابعاً: رد نطاقات تشكل الدولة إلى عصبية لما تغضية من اتحاد والتحام. (لأن السياسة لا تكون إلا بالغلب، والغلب لا يكون إلا بالعصبية)(6). إذن فالعصبية عند ابن خلدون تقوم بالدور الأساسي في قيام الدولة، كذلك في توسعتها، إلا أن الدعوة الدينية (كما يرى) تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عدرها، كما عنون ذلك، وسبب ذلك عنده: أن القيم الدينية وصبغتها، تذهب بالتنافس والتحاسد اللذين في أصل العصبية، والتفرد بعد ذلك لوجهة الدين والحق، وفروضه التي ترفض ذلك. فهنالك تأثير متبادل بين الحضارة والعصبية، ففي العمران البدوي تكون العصبية قوة عنيفة وموحدة تستطيع أن تحمي الجماعة وأن تعجل بانتصارها على بقية العصبيات، كابحة الخلافات الداخلية، وهي تؤدي حتماً إلى تغيير من شأنه أن يوجد حياة أفضل، وأعني بهذه الحياة الأفضل العمران الحضري، والتأثير هنا بين العصبية والحضارة هو أنه بينهما بناء وخصائص فدور العصبية هي نتاج لأسلوب الحياة البدوية البدائية، فإن هذه العصبية نفسها تؤثر كأداة التغيير في نفس هذا الأسلوب في الحياة، بأن تضع له نهاية وتكون الأساس في تكوين الدولة وبالتالي في وجود العمران الحضري(7). وهذا التوجيه لابن خلدون في نشوء الحضارات في حدود العصبية عائد إلى الإطار البيئي الذي نظر من خلاله سيما مع الاستفادة من رؤية ابن خلدون نفسها في أن الأحداث التاريخية تعود إلى ظرف تاريخي وواقع اجتماعي معاش، فكذا هذا النتاج الفكري له يمثل حدثاً له زمانه وتاريخيته ومكانه الذي انبثق عنه، فالظرف الاجتماعي والسياسي الذي عاشه ابن خلدون والوقائع التاريخية التي أطلع عليها، ضيقت وحصرت رؤيته لنشوء الدول بخصوص ما أطلع عليه. فبيئة ابن خلدون تمتد بجذورها إلى الحياة البدوية وهي مرتبطة بها، ولها ارتباط من جهة أخرى بالحياة الحضرية، فالمدن والأمصار آنذاك تعيش مع غبار القبائل الرحل، أو متاخمة لها وقريبة من فعالياتها، فلطالما كانت هناك تغييرات من سقوط وصعود من تدهور ونشوء دولة جراء تآلب العشائر وتفرقها. اعتبر مالك بن نبي تلك النظرة ضيقة في تفسير النشوء والسقوط الحضاري ولو في إطار الدولة، فالعصبية قد تشكل دولة، وكياناً لكنه خارج نطاق الشكل الحضاري وزهوه، وتكوين نظام اجتماعي قانوني، يمتلك مقومات البقاء، طالما هو خارج حدود القيم، فلا يلبث أن ينقلب على نفسه، وهذا لا يتسق مع ما يبحث عن الشروط الأساسية في تشكيلة المجتمع المثالي، وأسس ديمومته، بل العصبية في وجودها الكياني (ضمن الدولة) يمثل عرضاً لسنة انهيار المجتمعات، التي تقف على هكذا قدم. وهذا من أكبر الأسباب التي عصفت بالأمة الإسلامية منذ عصور الإنحطاط وذلك في صدر الإسلام مــما لا يخفــى مكانه حيث أُستأثِر توزيع الأموال والأمصار.. وبعد تشكل الدولة الأموية التي بنيت على ذلك. فالمسلم لا يعرف الانتماء أو الولاء إلا لعقيدته الربانية، تاركاً كل الجاهليات وعصبياتها القبلية والأسرية والوطنية حديثاً وراءه، وهذا ما تقتضيه الشريعة الإسلامية وتفرض حيث لا لون ولا جنس، الكرامة والتحرر قبل كل شيء والإخاء والمساواة. ومع هذا تكون (صورة الحضارة ـ هذه ممثلة لا على ما في الإنسان من خصائص روحية وعقيدية، وحين تكون صلة المجتمع هي الجنس واللون والأرض والقوم. وما إلى ذلك من الروابط ـ فإن هذا لا يعد في الإسلام حضارة، ذلك أن الجنس واللون والأرض والقوم، وما إلى ذلك من الروابط، لا تمثل الحقيقة العليا في الإنسان، وذلك أن الإنسان يبقى إنساناً بعد الجنس واللون والقوم والأرض. ولكنه لا يبقى إنساناً بعد الروح والفكر)(8) ورفض الشريعة الإسلامية لها (العصبية) دليل على فسادها طالما أحكامها تتبع المصالح والمفاسد الخارجية. يقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبيته، وليس منا من مات على عصبيته). يرى ابن خلدون أن نشأة الدول لها مراحل ثلاث: 1) طور البداوة: وهنا لا يشير فقط إلى سكان الصحارى بل إلى بربر الجبال أيضاً والتتر في السهول، لما يجمعهم من غلب العصبية ضمن النظام القبائلي الأسري. 2) طور التحضّر: وهو انبثاق دولة عنهم عقب الغزو والسيطرة، ثم الاستقرار.. بعد أن أترف السابقون، وبما يتميزون هم به من خشونة وصلابة، وتلاحم أسري وتجمع قبلي يفرض عليهم قيوداً عرفية، من الصعب جداً أن يتجاوزوها. 3) طور التدهور: بعدما حصلوا عليه من موارد تلوّن حياتهم بألوان الانغماس والترف وهي سنة في حد ذاتها من سنن الانهيار. كما أعطى للدولة عمراً وسقفاً زمنياً لتدور من حيث بدأت، فيقدر عمرها بـ(120سنة)، لذلك سميت بالأجيال الثلاثة انطلاقاً من تقدير كل جيل على ما يرى بـ(40سنة). إذن التاريخ البشري عند ابن خلدون يسير في دورات متتابعة نتيجة الصراع القائم بين البدو والحضر. طالما البشر يصنفون جغرافياً هكذا، وما يتبعه من اختلاف طبعي يفرض تغيراً وانقلاباً طالما تقوم به الغلبة. |
|
توينبي من المفكرين الإنكليز الذين سبروا أغوار التاريخ وتابعوا تشكل كياناته وانفراده بأدوات معرفية لم يصبها غيره. فلقد استخدم في تفسير التاريخ ونشوء الحضارات (كمادة خام جميع ما يتوفر من دراسات أنثربولوجية وميثولوجية وبيولوجية، ودراسات مقارنة للمجتمعات البدائية، بما في ذلك عقائد دورات الخصب الزراعي والطوطمية والطابو وطقوس الزواج والمحضورات التقليدية، بالإضافة إلى استخدام كل ما توصل إليه علماء التاريخ والحفائر والجغرافيا، والجغرافيا البشرية ومحاولات جميع المفكرين والفلاسفة لاستخلاص عوامل حركة التاريخ والكشف عن قوانينه)(9). كما أن منهج توينبي الرئيسي في فكره هو أنه من غير الممكن دراسة كل حادثة أو واقعة بمعزل على سياق التاريخ كله، فلا بد من ربطه بالأحداث المتعاقبة في سياقه الزمني ولو من بعيد. إن توينبي في نظريته الشهيرة (التحدي والاستجابة) (جاء من ناحيته بتفسير ضخم للحضارة يلعب فيه العامل الجغرافي دوراً أساسياً. غير أنه يدخل هذا العامل الجغرافي في ضمن مذهبه المتمثل فيما يدعوه (بالتحدي Lefi)،(10) حيث أن الحضارة ونشوءها عند توينبي تكون من (ردٍّ) معين يقوم به شعب لمواجه تجدٍّ معين.. وهذا الرد أو الاستجابة التي تمثل الإرادة الإنسانية وقدرته الفكرية تمثل الأس الأساس لتكوين الحضارة وشكلها. هذا التحدي يأخذ جبهتين: الأول من الطبيعة، والثاني الجنس البشري. ومع الجبهتين يلعب العامل الجغرافي دوره في فرض نوع من التحدي الطبيعي والبشري، ومع أن مالك بن نبي اعتبر العامل الجغرافي له أثر فقط مع التحديات الطبيعية مع أنه يمتد إلى الجنس البشري. فالتحديات التي تخرج على شكل الغزوات والاعتداء الخارجي على الكيانات الحضارية يجلبها الوضع الجغرافي، كما أن التتار بحكم متاخمتهم للدول الإسلامية.. والطرق التي تربطهم بها والوضع المناخي الذي سمح بخوض هذا الاتجاه غرباً، هو الذي كان عاملاً مهماً في توجههم إلى بغداد وترك أوربا بما يفصلها عنهم من سلاسل جبلية وطقس لا يسمح للجيش القديم بهذا إضافة إلى دواعي أخرى. وعلى أساس نظرية آرنولد توينبي يكون النشوء والانهيار يتوجه بأنه (حسب مستوى التحدي وفعالية (الرد) عليه من طرف الشعوب المواجهة به، فإن حضارتها تكون بين احتمالات ثلاثة: فهي إما أن تقوم بوثبة إلى الأمام، وإما أن تصاب بالتوقف والجمود، وإما أن يلفّها الفناء بردائه)(11)، وأخذ على النظرية أنها غير مضطردة في البناء الحضاري، فإذا حاولنا استعمالها (لتفسير واقعة تاريخية محددة ـ ولتكن الحضارة الإسلامية على سبيل المثال ـ فإننا نجد أنها لا ترضينا تمام الرضى)(12). يعتبر توينبي الصعاب والأزمات مصدراً لحث الإنسان على التكامل، والتحضر، والنهوض، كما أن الدعة والترف ورقة العيش تكون حائلاً دون انبثاق حضارة، وهذا يلتقي مع نظرية المترفين الإسلامية. وما شوهد في حركة التاريخ الإسلامي السياسي، وكذا هي عينها من وجهة ابن خلدون في الطور الثالث من دورة دولته، وكذا فيها انسجام مع كلمة السيد جمال الدين المعروف بالأفغاني: (الأزمة تلد الهمة)، وتتسق مع كثير من المفكرين سيما إسلامياً يطول الامتداد بهم. وبالرغم من ضرورة تعرض الحضارات للتحدي باعتباره شرطاً أساسياً لنهوضها وارتقاءها عند توينبي. إلا أنه من الضرورة الأخرى للنهوض ينبغي أن تكون التحديات بأنماط متوسطة العنف لتكون حافزاً على مضيها في الطريق الصاعد أي أن لا يعلوا طاقة الإنسان الحقيقية وقدراته التي لو استثمرها لارتقى. وصلب الفكر هنا.. في أن كثير من قدرات الإنسان تكون كامنة ولا يغور لها باذلاً جهداً في استثمارها.. لكن التحديات تمثل في هذا الإطار عاملاً قسرياً لاستخراج تلك القدرات من مكامنها، فتنتصب حضارة أمامه. فإذا (كان التحدي فإنه عندئذٍ لا يكون حافزاً ارتقائياً وكذلك إذا كان التحدث عنيفاً هائلاً في وطأته فإن الحضارة عندئذٍ قد تعجز عن تحقيق استجابة ملائمة له فيصيبها الانحلال ثم الدثور، هذا التحدث الوسط بين الطرفين: طرف الإفراط وطرف التفريط هو الوسط الذي يدعوه توينبي بالوسط الذهبي الذي يضمن دفع الحضارات المستجيبة في طريق الإرتقاء والإبداع والبقاء)(13). على هذا يعتبر توينبي التاريخ سلسلة من التحديات والاستجابة، أما عملية التشكل من الاستجابة. فالمفروض أن لا تقتصر على مظهر واحد من مظاهر الحضارة، وإنما لا بد أن تملك صفة الخصوبة والتنوع من الدين والعلم والفن والفلسفة والأدب وغيرها مما يفرض الواقع كحاجة مطروقة. ويميز توينبي بين تحديين، إحداهما خارجي والآخر داخلي، فيرى أن الاستجابة البرانية لا تسهم إلا بشيء ضئيل من الصعود، أما الاستجابة الجوانية فهي التي تملك الدور الأساس، وهو ما يفرضه الواقع الاجتماعي وطلباته من استفزاز وحث لمكامن العقل البشري، وهذا ما يتسامى بالطاقة الروحية والفكرية للمجتمع بأعلى مستوى ممكن تبعاً لنوع التحدي ومستواه.. ومستوى الاستجابة وكفاءتها. |
|
رفض المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي العامل الجغرافي كعلّة تامة في نظرية التحدي لنشوء الحضارات، واعتبر الفكرة الدينية هي العمود الأساس للمجتمعات وقيامها أو حسبما يطلق عليه (مركب الحضارة)، ويبدأ خطوته في تشكيل نظريته باقتباس خطوة كيميائية (ومن عادة مالك، بل من إبداعاته أنه سخر كثير من العلوم في رؤاه) فعادة الكيميائي تقوم بتحليل المنتجات التي يريد أن يجري عليها عملية تركيب، فهو وجد أن كل ناتج حضاري ينتهي في تكوينه إلى (تراب وإنسان ووقت) فكان: ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت ويقرب ذلك (ففي المصباح مثلاً يوجد إنسان خلف العملية العلمية والصناعية التي يعد المصباح ثمرتها؟ والتراب في عناصره من موصل وعازل، وهو يتدخل بعنصره في نشأة الإنسان العضوية، والوقت (مناط) يبرز في جميع العمليات البيولوجية والتكنولوجية، وهو ينتج المصباح بمساعدة العنصرين الأولين: الإنسان والتراب)(14). وبهذا يجد مالك بن نبي أن المجتمعات إذا ما استطاعت أن تحل الإشكاليات التي تواجه الوقت، والإنسان، والتراب، فقد حلت مشكلة الحضارة.. لا مع الركن الأساس الذي نوهنا عليه في قيام نظرية مالك في نشوء الحضارات، وذلك نجده ينطلق من إثارة سؤال يفرضه بن نبي على بحثه لتثبيت خطاه علمياً وفي نفس الإتكاء كيميائياً على أمر مقطوع به في مقرره الكيميائي، وهو أنه إذا كانت الحضارة ناتجاً لمجموع هذه الأشياء الثلاثة؛ فلما لا تظهر حضارات تلقائياً لمجرد توفير تكلم الحدود الثلاثة: فيكون إتكاءه على نتاج الماء كيميائياً من الهيدروجين والأوكسجين، وذلك لا يكون تلقائياً، وإنما يخضع لقانون كيميائي بمشاركة مركب معين من هنا يضع بن نبي مركب الحضارة، فلا بد من وجود مركب يؤثر في المزج والإثمار. وهو الفكرة الدينية أو المركب الديني الذي رافق تركيب كل الحضارات خلال التاريخ فلقد (ولدت المجتمعات التي ما تنفك تسلط حتى هذا الحين انعكاسات حضارتها على الخارطة الجغرافية، وأعني بها: الهندوسية، والبوذية والموسوية والمسيحية والإسلامية، من هذه الإنطلاقة الروحية التي أقامت هياكل (براهما) و(بهوة) ومعابد البوذية والكنائس القوطية والمساجد الإسلامية فلكل هذه الحضارات ـ المعاصرة لنا ـ قد شكلت تركيبها المتألف، في مهد فكرة دينية)(15). بل امتدت الرؤية حتى مع المجتمعات التي تخلو من الفكرة الدينية، ليفسر نشوء ونمو المجتمع الماركسي بصورة غير مباشرة على أساس الفكر الديني وذلك من خلال بديلاتها أي ما تعطي عوضها وروحها في الدفع الاجتماعي، لذلك يقول: (إذا اقتضى الأمر أن نصدر حكماً بشأن المجتمع الذي هو بصدد التشييد حالياً باتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، باعتباره شكلاً من الحضارة، نجد أن تكوينه ونموه يفسران بنفس الطريقة (أي الفكرة الدينية)، ومن وجهة النظر التاريخية، يتعين علينا ملاحظة أن الأفكار (الماركسية) قد استخدمت لنموها واكتمالها على (البنية التحتية) النفسانية والمفاهيمية المسيحية للإنـــساني الذي حول (إنـــجيل) (يسوع المسيح) إلى (إنجيل) (لماركــــس) وجميع المـــطامح التواقة إلى (ملكــــوت الرب الإله) إلى مـــطامح متشبثة بالفردوس الأرضي)(16). لا يتفق بن نبي مع ابن خلدون في حتمية وامتناع القيام لدولة ولّت دورتها لأن نهضة الحضارة من كبوتها واستيقاظها من سباتها وسيرها قدماً هو رهينٌ بشروط نفسية، زمنية معينة إذا ما توفرت وتكاملت انطلقت الحضارة من جديد(17). فالحضارة الإسلامية بما تملكه من مركب (الفكرة الدينية) ذي الأسس العقيدية والإيمانية، قادرة على تجديد حركتها وانتفاضها من جديد، واستعادة كيانها، رغم كل عوامل التحدي، ورغم ما يتعرض وتعرض له العالم الإسلامي من غزوٍ فكري وسياسي واقتصادي. |
|
عرفنا أن (بن بني) جعل الفكرة الدينية هي أساس نشوء الحضارة؛ أما دورها في معادلة الحضارة ـ سيما وانه غير ظاهر فيها ـ أنه المركب الذي ببركته يمكن اجتماع العناصر الثلاثة (الإنسان والتراب والوقت) لكن حلوله الأول في المعادلة هو الإنسان، فمع تقبله الفكرة الدينية وحلولها فيه، تبدي تأثيرها في تشكيل هذا الإنسان في إطار روحي آخر يمكن أن نجعله لوناً من ألوان الإرادة، يمكنه معه أن يرتبط مع التراب والوقت في وحدة وانسجام تمثل قمتها في وجود المركب الديني، لذلك فالكيانات التي تكونت بنحو ما كانت في تشكلها وعرضتها للانهيار تتناسب وقدر الفكرة الدينية وبالتالي مقدار الانسجام الذي كونته. فكأنه يملك تناسباً طردياً بين قوة الكيان وحضارته وبين الانسجام المتولد.. أي بين مقدار حلول الفكرة الدينية وما أخذ منها. إذن بن نبي يعتبر الإنسان محور الفاعلية في حركة الحضارة، فله الدور الأول في المعادلة لأن (الإنسان هو الذي يحدد في النهاية، القيمة الاجتماعية لهذه المعادلة، لأن التراب والوقت لا يقومان ـ إذا اقتصر عليهما فحسب ـ بأي تحويل اجتماعي)(18) كذلك نراه يقول: (إن الإنسان هو الشرط الأساسي لكل حضارة، وإن الحضارة تؤكد دائماً الشرط الإنساني)(19). إن نشوء الحضارة منوط بإرادة الإنسان الحضارية وهذا لا يشكلها ويولدها أو يهبها إلا إيمان الإنسان بعقيدة تطلب منه خدمة الإنسان في حضارته، وهذا ما تعطيه الفكرة الدينية بأرقى مستوى. القضية إذن في معادلة بن نبي ليست قضية أدوات ولا إمكانيات، بل القضية في أنفسنا، فعلينا أولاً دراسة الجهاز الاجتماعي الأول أي الإنسان، فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، إذا سكن سكن المجتمع والتاريخ، وهذا هو ما أشارته النظرة في تاريخ الإنسان منذ أن بدأ التاريخ، فنرى المجتمع حيناً يزخر بوجود النشاط، وتزدهر فيه الحضارة، وأحياناً نراه ساكناً لا يتحرك يسوده الكساد وتغمره الظلمات، وما هذه المظاهر الاجتماعية غير تعبير عن حركة الإنسان وركوده(20)، ومن هنا تظهر أزمة العالم الإسلامي، فهي مشكلة الإنسان الذي عزف عن الحركة، لذلك فالمسألة هي أنه يجب أولاً أن يصنع رجالاً يمشون في التاريخ، مستخدمين التراب الوقت والمواهب في بناء أهدافهم الكبرى(21)، وبما أن الإنسان كما يرى مالك في القرن العشرين يؤثر بثلاثة: أولاً: بفكره. ثانياً: بعمله. ثالثا: بماله. لذلك تحلّل مشكلة الإنسان في معادلة الحضارة إلى مشكلة: الثقافة، والعمل ورأس المال. يعتبر مالك قيمة التراب في المجتمع مستمدة من قيمة مالكيه في إطار قدرتهم على تسخيره فكلما كانت الأمة تملك وعياً وفكراً ناضجاً يعرض لها آفاقاً إبداعية لاستكشاف الطبيعة وإنتاج حاجاتها الاجتماعية في كل قنوات المجتمع بكيانه، يكون حينها التراب ذا قيمة لأنه يؤول إلى شيء ذي قيمة. فكل تراب الخليج العربي قبل قرن من الزمان، لم يكن يملك أدنى قيمة سوى أنه ذرات من الرمال تنتهي به الصحراء.. وهذا يتسق مع الجيل آنذاك وثقافته وقيمته، التي لم تستطع أن تصل إلى ما وصل إليه بعد ذاك حينما جاءه من يعي قيمته فإذا التراب ذهباً أسوداً (النفط)، فالأمر مربوط بالإنسان في فضاءه الثقافي على أن يكتشف قيمة الأشياء التي جعلها الله ـ تعالى ـ فيها، وهنا يتأكد دور الإنسان الرئيسي في معادلة الحضارة (لابن بني)، ودور الدين من علٍ عليه ويوجهه إلى السيطرة على الطبيعة، فالقرآن والسنة يدعوانه في أكثر من موضع لأن يتحرك من أجل اعتماد هذه العلاقة في تنفيذ متطلبات استخلافه العمراني (أو الحضاري) على الأرض، وهذا لن يتأتى إلا بالنظر العميق في ملكوت السماوات والأرض، والدراسة المتأنية لنواميسه وقوانينه واسراره، والسعي الدائم وفق الأساليب العلمية، للكشف عن هذه النواميس والقوانين، لتحقيق فهم اكثر لقدرات الله الخلاقة وإيمان أعمق به، ومن اجل استخدام هذه القوانين لتطوير الحياة على الأرض، ومواصلة العمران، وتحقيق مفهوم استخلاف على كل المستويات(22). أما العنصر الثالث من معادلة مالك وهو الوقت فيبتدأ قبل الدخول في بحثه بحديث شريف في الزمن وهو قول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : (ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا بن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد فاغتنم مني فإني لا أعود.. إلى يوم القيامة) فالزمن يتدفق على السواء في أرض كل شعب، ومجال كل فرد، وهو في مجال ما يصير (ثروة) وفي مجال آخر يتحول عدماً. فهو يجري في الحياة ويرافق تلك الأحداث، ويصب في التاريخ تلك القيم التي منحتها له الأعمال التي أتمت فيه ولكنه على حد تعبيره نهر صامت، حتى أننا ننساه أحياناً في ساعة الغفلة أو نشوة الحظ قيمته التي لا تعوض، ومع ذلك ففي ساعة الخطر في التأريخ تمتزج قيمة الزمن بغريزة المحافظة على البقاء، ففي هذه الساعات كانتفاضات الشعوب، لا يقوم الوقت بمال، كما ينتفي عنه معنى العدم، إنه يصبح جوهر الحياة الذي لا يقدر، فلا يسمع الإنسان صوت الساعات الهاربة، ويدرك قيمتها، إلا في اللحظات الحرجة التي تتناول البقاء والانتصار والخلود والفناء(23). ومع هذا فمالك يحذر من الاستغراق في العمل والجهد من أجل الإنتاج حتى ننسى الجوانب المعنوية والنفسية من حياتنا كما حدث في الغرب الصناعي، وكذلك يحذر من الاستغراق في السلبية تجاه عنصر الزمن بحيث يغدو بغير ذي جدوى، وهو ما يحدث في العالم الإسلامي(24). فالوقت هو الإطار غير المشهود لاستثمار التراب. في حل إشكاليات المجتمع وهو أمام تحدي يؤول به إلى انهيار فاللحظات تحكم وتكتب تـــاريخاً، وهذا الحل رهين أعمال الإنسان وإرادته قبل أن تذهب الثواني والدقائق، وتذهب معها حضارة ضياعها نتج عن إفساد ذلك الوقت وإهماله. |
|
1 ـ شروط النهضة: مالك بن نبي،دمشق دار الفكر، ص71. 2 ـ الصياغة الجديدة: السيد محمد مهدي الشيرازي، قم نشر الفكر الإسلامي، ص212. 3 ـ المدرسة القرآنية: محمد باقر الصدر، بيروت دار التعارف، ص55. 4 ـ المدرسة القرآنية: مالك بن نبي،دمشق دار الفكر، ص27. 5 ـ ينظر: مقدمة ابن خلدون، بيروت دار الكتاب اللبناني، ص225. 6 ـ مقدمة ابن خلدون: بيروت دار الكتاب اللبناني، ص264. 7 ـ فلسفة التاريخ عند ابن خلدون: د.زينب خضيري ص196، نقلاً عن فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي،للدكتور سليمان الخطيب، ص55. 8 ـ في ضلال القرآن: سيد قطب، ج3 ص55. 9 ـ توينبي (منهج التاريخ وفلسفة التاريخ): محي الدين إسماعيل، بغداد دار الشؤون الثقافية، ص51. 10 ـ شروط النهضة: مصدر سابق ص72. 11 ـ ن.م: ص72. 12 ـ المصدر السابق. 13 ـ توينبي: مصدر سابق ص70. 14 ـ شروط النهضة: مصدر سابق ص49. 15 ـ آفاق جزائرية: مالك بن نبي،دمشق دار الفكر، ص66. 16 ـ ن.م: ص66ـ67. 17 ـ ينظر: فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي،د.سليمان الخطيب، بيروت المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، عن المعهد العالي للفكر الإسلامي، ص78. 18 ـ فكرة كمنويلث إسلامي: مالك بن نبي،دمشق دار الفكر، ص75. 19 ـ وجهة العالم الإسلامي: مالك بن نبي،دمشق دار الفكر، ص198. 20 ـ تأملات: مالك بن نبي،دمشق دار الفكر، ص125. 21 ـ شروط النهضة: مصدر سابق ص82. 22 ـ التفسير الإسلامي للتاريخ: عماد الدين خليل، ص259. 23 ـ شروط النهضة: مصدر سابق، ص145 ـ 146. 24 ـ فلسفة الحضارة عند مالك بن بني: مصدر سابق، ص86. |
|