الحرية .. بين دعوة الأنبياء وأقاويل الطغاة |
مراجعة: حسن الهاشم |
قراءة في كتاب (الحرية الإسلامية) لسماحة المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله) |
الصراع وعلى مرّ العصور قائم على أشدّه بين الأنبياء، الذين يدعون إلى الحق، وبين الطغاة الذين يدعون إلى الباطل.. بين الأئمة والمصلحين الذين يسعون إلى تطبيق القوانين السماوية في الارض، التي فيها سعادة الإنسان وفلاحه. وبين الملوك والمفسدين الذين لم يألوا جهداً لطمس معالم تلك القوانين الخالدة وبث القوانين الوضعية مكانها، التي فيها شقاء الإنسان وسقوطه. الأنبياء يكرسون دعائم الحرية في الأرض، بينما الطغاة يستدرجون الرعية إلى الذل والهوان التعس. ولو استنطقنا القرآن والسنة في الاستدلال على الحرية، لوجدناها حقيقة ناصعة البياض، لا غبار عليها ولا غموض. مكتوبة بفصيح العبارة وسديد البيان (أن الأصل في الإنسان الحرية) ولا شيء غير الحرية. في هذا السياق يقول القرآن الكريم ] لكم دينكم ولي دين[ ، بينما يؤكد أمير المؤمنين على أن أصالة الحرية في الانسان هي اصالة ذاتية متجذرة فيه لا دخيلة عليه، بقوله (لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرّاً). في الإسلام.. الناس كلهم احرار. حيث التحرر الثقافي، فلكل إنسان أن يصل إلى ما يريده من العلم والثقافة. والتحرر الاجتماعي، الذي يتجلّى في ابسط صوره في انعدام الامتيازات الطبقية القائمة على اساس الجنسية أو القومية أو اللغة أو اللون أو الاقليم. إذ أن العبودية لله هي رمز الحرية وجوهرها. فعندما دوّى شعار الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله): (لا اله الا الله) في الآفاق، منذ بزوغ الفجر الأول للاسلام. فانّ هذا الشعار قد فجّر الثورة على كلّ الاصنام الحجرية والبشرية، واعلن أنه لا سيد الا سيد واحد، ولا معبود سواه، وهذا السيد والمعبود هو الله سبحانه وتعالى.. إذ أن العلاقة بين التوحيد والحرية علاقة عضوية، وبمقدار ما تترسخ عقيدة التوحيد في ذات الإنسان يشعر بالحرية ويمارسها بفاعلية واسعة وحيوية ناشطة. على مرّ التأريخ، دأب الطغاة، والظالمون أن يمسخوا القيم الرفيعة التي دعا اليها الإسلام.. والهدف من عملية المسخ هذه هو تقويض قيادة الإسلام الحكيمة ليتسنى لهم الاستئثار بأزمة العالم، والاستبداد بالحكم والسلطان. فتصبح بذلك ثلة من المفسدين سادة الأبرار. وجماعة من المرابين من أكابر التجار. وزمرة من الذين لا يؤمنون بالآخرة زعماء الجو والاقمار. وحفنة من كابتي الحريات حملة مشاعل الحرية والاعمار. ترى ماذا يقصد أولئك من وراء نفخهم المستمر في مزمار الحرية، والدفاع عن حقوق الإنسان؟ أغير ما ذُكر يقصدون! أو سوى الاستبداد والاستغلال والسفك والنهب يطلبون! وحتى يدرك المرء أي القولين أصدق؟ الإسلام دين الحرية.. أم القوانين الارضية التي يعيش في ظلها تقوّل الحرية. تساؤل يحاول الامام الشيرازي.. الاجابة عليه في كتابه الموسوم بـ(الحرية الإسلامية)، الذي يقع في 126 صفحة من القطع المتوسط. والذي لامس النور في حلته الثانية من مؤسسة الفكر الإسلامي. المنهجية التي اتبعها الكتاب هو عرض سريع لطرف من اطراف الحرية الإسلامية المتشعبة من خلال تناول احكام الإسلام في هذا الشأن، للمقايسة بينها وبين ما آل إليه واقع المسلمين في الوقت الحاضر. يقول الامام الشيرازي في هذا المضمار.. كان آباؤنا يتمتعون بالحرية طيلة ثلاثة عشر قرنا.. كانوا يتمتعون بالحرية حينما كان القرآن دستورهم، والسنة منهاجهم وطريقهم إلى سبيل الرشاد.. وما تخلف العالم الإسلامي عن ركب الحضارة والمدنية اليوم إلاّ نتيجة طبيعية لابتعاد المسلمين عن روح الحرية وجوهرها. فقد سلب الكافر المستعمر الحرية عنّا منذ زهاء القرن، وابدلها بالعبودية بكل ما في الكلمة من معنى. ولا ننسى أن نذكر أن للامام الشيرازي بحثا مستفيضا، ونظرية متكاملة ازاء الحرية الإسلامية.. اشبع فصولها، وانمى جوانبها في كتبه المطولة، من قبيل (السبيل إلى انهاض المسلمين) و (الصياغة الجديدة) وغيرهما. وليس هذا الكتاب الذي نحاول أن نعرّفه لقرائنا الكرام الاّ دراسة في بعض مفردات هذه النظرية.. وهي تتناول العناوين التالية: الحريات العامة، شورى المراجع، تعدد الاحزاب، الحرية المسؤولية، الحرية في ظل الكفاءة، الديكتاتور لا يحترم قانونه، الوعي والتنظيم، العاملون هم سبب فشل انفسهم، خرق القوانين، حرية المعارضة، واخيراً احتجاج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع رجال الاديان الخمسة، اليهود والنصارى والدهرية والثنوية ومشركو العرب، وكذلك احتجاج الامام الرضا… مع علماء المذاهب الباطلة. وقبل أن نبدأ بتسليط الضوء على الموارد المهمة التي جاءت في الكتاب، لابدّ من الاجابة على السؤال التالي وهو كيف تنمو الحياة، وتزدهر الحضارات ويصل الفرد والمجتمع إلى قمة الرقي والتقدم؟ يصل الفرد إلى مراده في حياة هانئة وحضارة مزدهرة إذا ما توافرت لديه الحريات الكافية، وتكاملت عنده الشرائط والمقتضيات. الشرائط هي توافر الآلات التي جعلها الله سبحانه في متناوله من الكون الرحب، والأرض وما عليها، والبحار وما فيها. والمقتضيات هي الملكات التي بموجبها يمكنه التصرف بالشرائط بأفضل وجه. وبالعكس لو اختلت الشرائط وانعدمت المؤهلات والملكات.. فانّ الحياة تذبل وتذهب بهجتها.. إلى أن تصل إلى مادة جوفاء لا حس فيها ولا حراك. وعلى هذا فمن اللازم اطلاق الحريات وتوفير شرائطها من ناحية، وتحديدها بحدود الصلاح والحكمة من ناحية اخرى.. وهذا هو شأن القيادة للفرد والجماعة، وقد لاحظ الإسلام الناحيتين، ووضع الخطط العامة للسير بالبشرية نحو التقدم والرقي بدقة واتقان. ولكن كيف تتوفر الحرية في المجتمع الإسلامي على النحو الصحيح؟ يعتقد الامام الشيرازي انها تتوفر بشرطين اساسيين. الأول: شورى المراجع والثاني: تعدد الاحزاب. أما الأول فيورد السيد الشيرازي بعض الاخبار عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) والتي تؤكد على أن الفقهاء بمجموعهم نواب الامام (عليه السلام)، فلا يحق لأحدهم أن يستبد بالحكم ويعزل الآخرين بالقوة أو ما أشبه القوة، كتهيئة الجو العام ضدهم حتى يعتزلوا هم بأنفسهم حذراً من الغوغاء والهتك. وقد ناقش السيد الشيرازي فكرة شورى المراجع فقهياً واصولياً، وتوصل إلى ضرورة اقامة النظام الإسلامي العالمي، الذي يقف على قمة الهرم فيه مراجع الدين. حيث أنه باجتماع كلمتهم يمكن إصلاح حال المسلمين، لا في البعد السياسي فحسب، بل في كل الابعاد. فتنظم بذلك شؤون الحوزات العلمية، ويقوى التبليغ الإسلامي في كل اقطار العالم.. ويمكن عمارة البلاد وانعاش العباد إلى غيرها من الامور مما لا يخفى على ذي لب. امّا بشأن الشرط الثاني فيؤكد السيد الشيرازي على ضرورة الاحزاب، حيث انها بمثابة اليد الطولى للعمل المرجعي.. فالمراجع يكوّنون الاحزاب الاسلامية، التي تكون عوناً لهم في تطبيق الاسلام، وتقدم الامة إلى الامام. ويعتقد السيد أن هذه الاحزاب بمعونة شورى المراجع ينتخبون القوى الثلاث. والفرق الظاهر بين الحزب بالمفهوم الغربي أن الأول يعمل حسب التطبيق الإسلامي تأطيراً لا تــــشريعاً، بينما الثاني يعمل حسب الآراء سواء طابق الشرع أم لا. ومن هذا المنطلق فالاحزاب المسموح لها بالعمل في البلاد الإسلامية على ثلاثة اقسام. 1 ـ الأحزاب الإسلامية التي تنتهي إلى المراجع. 2 ـ الأحزاب الوطنية التي تتكون من اجل بناء البلاد على شرط أن لا تخالف قانون الإسلام لا في برنامج عملها، ولا في هدفها. 3 ـ الأحزاب للاقليات كالمسيحية واليهودية ونحوهما.. فانهم لهم الحق في العيش تحت ظل الإسلام في كمال الحرية والرفاه بشرط أن لا يخرجوا عن قوانين البلاد. ولكن ما هو وجه الاحتياج إلى تكوين الاحزاب في البلاد الاسلامية؟ يجيب السيد الشيرازي على هذا التساؤل قائلاً: هو أن الحزب مدرسة لتهيئة الافراد الصالحين، لادارة البلاد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. وبدون التهيئة الطويلة والمتواصلة، لا يصلح إنسان ـ إلاّ إذا كان معصوماً ـ أن يأخذ بأزمة البلاد. مهما كان موثقاً، ومهما خاض العلوم، وحصل على مختلف الشهادات العليا. الخبرة والكياسة انما تتأتّى للمرء من خلال العمل السياسي والتنظيم الدؤوب، ولا يمكن أن تتأتى بصورة اعتباطية أو بحسن النية وطيب النفس أو درجات العلم والثقافة العالية. وان كانت هذه الامور مطلوبة في خبروية الإنسان لقيادة المجتمع في البلاد الإسلامية. فالحرية التي تتكون في ظل شورى المراجع وتعدد الاحزاب، معناها تظافر الجهود وتلاقح الافكار.. لدفع عملية التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى الامام في المجتمع الإسلامي. اذن الحرية التي تنبت في ارضية الشورى والتعددية، انما هي حرية في مسارها الصحيح. اصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي اكلها كل حين باذن ربها. اما الحرية التي تنبت في أرض مستبدة، فهي وان كان اطلاق الحرية عليها مجازاً، إلاّ انها لا تخرج الا نكدة وبالاً على من سنها وشرّعها. وما مناظرات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والوصي (عليه السلام) التي جرت مع المخالفين الا لكي يُعلم مدى حرية الإسلام، وانه يسمح لكل المذاهب والاديان.. ولا يريد إلاّ الاقناع والبحث والمنطق. فاحتجاج المعصوم (عليه السلام) مع المخالف.. هو خير دليل على وجود المعارضة في الإسلام.. فلا يحق للحاكم مهما كان، أن يكبت المعارضة.. فإنّ هذا بالإضافة إلى كونه مخالفاً للسيرة والعقل والمنطق.. فانه يوجب كراهة الناس للحاكم.. مما ينتهي إلى سقوطه وزواله. |