متى كانت آخر مرة نسيت فيها شيئًا ما؟ يوضِّح هذا السؤال كيف أن ذاكرتنا تضعنا كثيرًا في مآزق. فنحن ننسى أن نشتري شيئًا ما، أو نتصل بشخصٍ ما، أو نتناول الدواء، أو نرسل خطابًا، أو نرفق ملفًّا برسالة إلكترونية. فما الشيء المشترك بين كل هذه المواقف؟ الشيء المشترك بين هذه المواقف هو أننا قررنا فعل شيءٍ ما منذ ثوانٍ، أو دقائق، أو ساعات، أو حتى أيام...
بقلم: ماثياس كليجل، نيكولا بالهوسين
نعرف جميعًا المشهد التالي: تأكل آخر قطعة متبقية من الزبد في الفطور وتسجّل ملحوظة في ذهنك بأنه ينبغي عليك الذهاب إلى المتجر بعد العمل. وفي الصباح التالي، تدرك أن نيتك الحسنة لم تكن كافيةً لإحضار الزبد إلى مائدة الإفطار.
متى كانت آخر مرة نسيت فيها شيئًا ما؟ يوضِّح هذا السؤال كيف أن ذاكرتنا تضعنا كثيرًا في مآزق. فنحن ننسى أن نشتري شيئًا ما، أو نتصل بشخصٍ ما، أو نتناول الدواء، أو نرسل خطابًا، أو نرفق ملفًّا برسالة إلكترونية. فما الشيء المشترك بين كل هذه المواقف؟ الشيء المشترك بين هذه المواقف هو أننا قررنا فعل شيءٍ ما منذ ثوانٍ، أو دقائق، أو ساعات، أو حتى أيام. وعلى الرغم من أن هذا النوع من الذاكرة يتسبب عادةً في حدوث مشكلات في الحياة اليومية، فإن علماء الأعصاب وعلماء النفس لم يدرسوا هذه الظاهرة باعتبارها جانبًا مستقلًّا من الذاكرة سوى منذ نحو 40 عامًا.
نحن نحتاج إلى هذه الذاكرة المستقبلية (التي تُسمَّى أيضًا ذاكرة النوايا) كي نستطيع تذكُّر فعل الأشياء في المستقبل في حينها. وبهذا المعنى، تختلف هذه الظاهرة عن الظواهر الأخرى التي ظلَّت عقودًا موضِعَ بحوث الذاكرة الكلاسيكية، والتي يمكن تصنيفها كذاكرة استعادية. فالذاكرة الاستعادية تتيح لنا تذكُّر معارف أو تجارب سابقة مررنا بها، أما الذاكرة المستقبلية فتمكِّننا من استحضار نوايانا المستقبلية في أذهاننا. والذاكرة الاستعادية مفيدة في تذكُّر معلومة جرى تخزينها سابقًا وفق الحاجة، مثل عندما يُطلَب منك فعل ذلك في اختبار للذاكرة. أما في حالة الذاكرة المستقبلية، فهذا الجانب المتعلِّق بالتحفيز الصريح على التذكُّر مفقود؛ لأنه في الحياة اليومية لا يوجد دائمًا شخص آخر يذكِّرنا لحظة بلحظة باسترجاع نوايانا. وما يزيد من تعقيد هذا النوع من الذاكرة أنه ينبغي علينا "نحن" تذكُّر أن المتجر الذي نمر بجانبه ونحن في طريقنا إلى المنزل من المفترض أن يذكِّرنا بالشيء الذي نريد أن نشتريه في الأساس.
تُعَد الذاكرة المستقبلية بالغة الأهمية لسببين: السبب الأول أن هذا النوع من الذاكرة هو الذي يتسبب في أغلب مشكلاتنا في الحياة اليومية. فقد أوضحت الدراسات أن ما يصل إلى ثلثي زلات الذاكرة ربما يُعزَى إلى قصور في الذاكرة المستقبلية. وفي الوقت نفسه، نحن بحاجة إلى تناغُم هذه الذاكرة مع ظروف حياتنا اليومية. فمن المهم أن تتذكر تناوُل الدواء، أو تهنئة صديق بمناسبة عيد ميلاده، أو الوصول إلى اجتماع العمل في الموعد المحدد. وهذا ما تمكِّننا الذاكرة المستقبلية من عمله. وإن لم نتمكن من استدعاء هذه النوايا المستقبلية، فلن نستطيع أن نحيا حياةً حرةً ومستقلة. فطالما أننا لا نستطيع تذكُّر ما سنفعله في المستقبل، سنحتاج إلى مساعدة؛ لأن حالات النسيان هذه قد تشكل خطورة، مثل عندما ننسى وجود طعام يُطهَى فوق الموقد. والمشكلات من هذا النوع هي أحد الأسباب التي تجعل المسنِّين أو الأشخاص الذين يعانون اضطراباتٍ دماغية محتاجين إلى مَن يرعاهم أو إلى البقاء في مؤسسة للرعاية.
إذا كانت الذاكرة المستقبلية بهذه الأهمية، فلماذا تأخَّر الباحثون كل هذا الوقت ليوجهوا تركيزهم إليها؟ يرجع السبب في ذلك إلى أنهم اعتبروا المواقف التي تؤدي فيها الذاكرة المستقبلية دورًا مجرد أمثلة يومية لجوانب أخرى من الذاكرة. فاعتقدوا، على سبيل المثال، أن تذكُّر الأشياء التي يجب فعلها، مثل التسوق، يتألف فقط من حفظ هذه الأشياء ثم استدعائها فيما بعد، كما هو الحال في المهمات الأخرى للذاكرة قصيرة المدى وطويلة المدى. لكن معرفة الأشياء المسجلة في قائمة المهمات التي ينبغي فعلها فحسب ليس كافيًا؛ فعلى المرء أن "يتذكر" أيضًا أن عليه الذهاب إلى المتجر.
مصادر عديدة محتملة للخطأ
يُفرّق الباحثون اليوم بين مكوِّنين للذاكرة المستقبلية، وهما: مكوّن استعادي يشبه جدًّا الذاكرة التقليدية ويرتبط بمحتوى النية (تذَكُّر "ما" على المرء فعله)، ومكوّن مستقبلي (التذَكُّر في الوقت المناسب "أنه" ينبغي على المرء فعل شيء ما). وقد تحدث مشكلات مع كلا المكوّنين. على سبيل المثال، قد ننسى تنفيذ نيةٍ ما في اللحظة المناسبة إذا كنا منشغلين بشيء آخر. وهذا مثال على وجود زلة في المكوّن المستقبلي. أو قد ندرك في أحد الاجتماعات أننا لم نعد قادرين على تذكُّر جميع النقاط التي أردنا طرحها، ما يُعَد خللًا في المكون الاستعادي. وما يثير الاهتمام هنا أن البالغين ماهرون نسبيًّا في تذكُّر ما يريدون فعله، لكن قد تكون لديهم مشكلات في فعله في الوقت المناسب. بعبارة أخرى، يبدو أن البُعد المستقبلي يتسبب في مشكلات لم يُكتشَف لها حتى الآن سوى القليل من الحلول. فما الفائدة من قائمة المشتريات إذا وجدناها غير مستخدَمة في جيب البنطال بعد العودة إلى المنزل؟
أشار عالِما النفس مارك ماك دانييل -من جامعة واشنطن في سانت لويس- وجيلز آينشتاين -من جامعة فورمان- إلى آليتين محتملتين ينفذ الناس نواياهم عن طريقهما: الأولى هي أننا قد نحاول بفاعلية تذكُّر شيءٍ ما في الوقت المناسب. أي أننا سنبذل كل ما في وسعنا كي لا ننسى اللحظة الحاسمة لفعل هذا الشيء، لا سيما وإن كان ثمة شيء ذو أهمية شخصية معرض للخطر في حالة عدم القيام به. فننظر إلى ساعتنا بصفة مستمرة كي لا تحترق الكعكة في الفرن أو حتى لا يفوتنا اجتماع مهم. لكن قد يحدث أيضًا في بعض الأحيان أن تخطر بالبال فجأةً نيةٌ ما، على الرغم من أننا في الواقع لم نفكر فيها كثيرًا من قبل.
نحن لا نعرف تحديدًا كيف تعمل هذه الآلية الثانية. فربما يذكِّرنا شيء ما في البيئة المحيطة فجأة بخطتنا عن طريق الربط، مثل تذكُّر شراء كعك عند المرور بجانب لافتة إعلانية لمقهى في الشارع. وعلى الرغم من أن هذه الآلية السلبية تعمل دون جهد نسبيًّا منَّا، فإن الصورة الأكثر فاعليةً منها تتطلب اهتمامًا يلزم توجيهه بعيدًا عن مهمات أخرى قد يكون بعضها مهمًّا أيضًا. ويمكننا أن نتوقع من ذلك أن هذه الآلية أصعب وأكثر عرضةً للإخفاق من الآلية السلبية. ولأن الكثير من المهمات التي نريد فعلها ذو أهمية قصوى، فلا بد من أن نعتمد على الآلية الفعالة. ويُعَد ذلك أحد الأسباب وراء عمل الأشخاص الذين يعملون في مواقف تعتمد بقوة على الذاكرة المستقبلية –مثل مراقبي حركة الطيران- لورديات عمل قصيرة، وحصولهم على الكثير من أوقات الراحة.
حدد علماء الأعصاب حاليًّا مكان المسارين المسؤولَين عن تنفيذ النوايا في الدماغ. فعندما تعمل الآلية الفعالة، تنشط الشبكات العصبية في قشرة الفص الجبهي الأمامية. وتؤدي هذه المنطقة على وجه الخصوص دورًا عندما يتوجه اهتمامنا نحو شيء جديد. أما المسار الآخر، فيستخدم الشبكات الموجودة في المناطق الجدارية والبطنية التي تسهم في ذاكرة السيرة الذاتية واكتشاف المحفزات البصرية ذات الصلة، إلى جانب أمور أخرى.
الذاكرة المستقبلية مهمة جدًّا لتسيير الحياة اليومية، ما يجعل من المهم معرفة ما إذا كانت تتدهور مع التقدم في العمر أم لا، وإن كانت تتدهور، فكيف يحدث ذلك؟ نحن نحاول استكشاف هذا الأمر في مختبرنا في جينيف بسويسرا في مركز الدراسات متعددة التخصصات لعلم الشيخوخة والضعف (CIGEV). وقد قدَّم فيرجوس كريك -وهو أحد رواد علم نفس الذاكرة المعرفية بمعهد روتمان للأبحاث في تورونتو- الدافع لهذا البحث. ففي منتصف الثمانينيات، افترض كريك أن الذاكرة المستقبلية على وجه الخصوص تصير أقل كفاءةً عند الأشخاص المسنين؛ لأنها تحتاج إلى قدر كبير من الانتباه. وتأكَّد هذا الافتراض فيما بعد في الكثير من التجارب التي طُلِب فيها من المتطوعين تذكُّر مهمات متفق عليها في السابق (مثل الضغط على زر بمجرد التفوُّه بكلمة محددة). لكن، في بعض الدراسات، كان أداء الشباب والمسنين متماثلًا تقريبًا، بل إنه في بعض الحالات حقق المتطوعون المسنون أداءً أفضل. وبدأ يتزايد تدريجيًّا عدد الباحثين المشاركين في دراسة الذاكرة المستقبلية للوصول إلى حل لهذا التناقض. وألقوا الضوء على ظاهرة غير عادية، هي متناقضة السن والذاكرة المستقبلية.
عندما يحقق المسنون أداءً أفضل
إذا اختبرنا المتطوعين في منازلهم في أثناء أدائهم المهمات اليومية (تذكُّر مهاتفة شخص ما مرتين يوميًّا)، فسيحقق المسنون أداءً أفضل من الشباب –على الرغم من أن ما يحدث في المختبر هو عكس ذلك تمامًا. وتثير هذه النتيجة تساؤلين مهمين، وهما التساؤلان اللذان يدرسهما فريقنا وزملاؤنا في أنحاء العالم: كيف يمكن تفسير هذا التناقض الغريب بين المختبر والحياة اليومية؟ وهل تقل كفاءة الذاكرة المستقبلية مع تقدُّم العمر أم لا؟
تختلف المهمات التي تؤدَّى في ظروف المختبر عن تلك التي تؤدَّى في الحياة اليومية من نواحٍ متعددة. ففي المختبر، تُختَبر عادةً الذاكرة باستخدام مهمات قياسية تتطلب القيام بمهمات متعددة. في ظل هذه الظروف، لا يستطيع الأشخاص محل الدراسة عامة التوصّل إلى وسائل لتقوية الذاكرة أو استخدام الوسائل المساعدة على التذكُّر مثل مؤقتات المطبخ أو قوائم المهمات. على سبيل المثال، قد يُطلَب من المشاركين مشاهدة مقطع فيديو والضغط على زر كل خمس دقائق، وهما مهمتان ليس لهما معنى جوهري خاص بهما. لذا، فقد يكون هذا سبب الأداء الأقل جودةً في المختبر بالمقارنة بالعالم الخارجي؛ إذ لا بد من تحديد الأولويات وقد يُسفِر النسيان عن عواقب حقيقية. وعلاوةً على ذلك، فإن المدة الزمنية التي لا بد أن يحتفظ خلالها المشاركون بشيء ما في الذاكرة تكون أقصر بكثير من تلك التي تتضمنها الحياة اليومية.
وفي الوقت ذاته، فإن حياة الشباب ليست مماثلة في الحقيقة لحياة المسنين؛ فالشباب ينخرطون -في الغالب- في الدراسة، وينبغي عليهم تولِّي مهمات متنوعة، ويمرون بمواقف غير متوقعة. أما حياة المسنين، فتكون عادةً أكثر قابليةً للتنبؤ وتتسم بإيقاع أقل فوضوية، وهذه الظروف تجعل التذكر أسهل. علاوةً على ذلك، قد يكون الشباب أكثر اعتيادًا على التجارب المختبرية أو أقل توترًا في هذه الأجواء. ولا يمكننا أيضًا استبعاد فكرة أن صورة الذات المبالغ فيها ربما تؤدي دورًا في متناقضة العمر. فمع أن الفئتين العمريتين كلتاهما تستهين بقدراتها المتعلقة بالذاكرة المستقبلية في المختبر، وحدهم المشاركون الشباب مالوا إلى المغالاة في تقدير أدائهم في بيئاتهم المعتادة والمألوفة لهم. وقد يتسبب ذلك في أن يكونوا أقل استعدادًا لأداء المهمة.
هل الذاكرة المستقبلة تتدهور كلما تقدمنا في العمر؟ إذا ركزنا فقط على التجارب المختبرية، فسنجد أن الإجابة واضحة، هذا الجانب من الذاكرة أيضًا تقل كفاءته مع تقدم العمر. لكن الدراسات التي أُجريت على الأشخاص في بيئاتهم أظهرت أن القدرة التي نحتاجها للحفاظ على حياتنا اليومية تظل سليمةً مدةً طويلة من الزمن، ما دمنا نتمتع بصحة جيدة. ولذا ظللنا غير قادرين حتى الآن على إيجاد إجابة قاطعة على هذا السؤال، لأن عددًا قليلًا جدًّا من الدراسات أُجري على أداء الفئات العمرية المختلفة في الحياة اليومية.
ينبغي أن تدرس الأبحاث المستقبلية ثلاثة أبعاد على الأقل للذاكرة المستقبلية: أولًا، يجب إجراء مزيد من التجارب على الحياة اليومية. ووحدها الأساليب المتطورة التي لا تتدخل في الحياة اليومية للأشخاص محل التجربة هي التي ستمكِّننا من قياس الذاكرة المستقبلية لهؤلاء الأشخاص في أجواء طبيعية. ثانيًا، ينبغي علينا أن ندرس عن كثب العوامل غير المعرفية -مثل الدوافع والانفعالات والضغوط- من أجل فهم نظام الذاكرة هذا. وأخيرًا، قد يقدّم فهم متناقضة السن والذاكرة المستقبلية مدخلًا للأبحاث التي تهدف إلى الحفاظ على سلامة عمليات معرفية محددة، بل وتحسينها على مدار عمر المرء. ثمة ما يدعونا إلى الأمل في أن يساعد تغيير المنظور -من أوجه العجز التي يعانيها المسنون إلى قدراتهم التي تبقى سليمة- في تغيير تصورنا للشيخوخة تغييرًا كبيرًا.
اضف تعليق