ان عالمنا المعاصر يقوم على سبعة اختراعات بسيطة، ألا وهي: المسمار، والعجلة، والنابض، والمغناطيس، والعدسة، والخيط، والمضخة. وبدافع من شغف وولع منذ الصغر بتفكيك الأشياء لمعرفة آليات عملها، تصحبنا الكاتبة في رحلة، تستعرض خلالها المبادئ العلمية التي تقوم عليها وظيفة كلٍّ من هذه "الماكينات" الصغيرة وتتعقب تاريخها...
بقلم: آنّا نوفيتزكي
قادت عدة قرون من الابتكارات إلى تصميم العجلات ذات البرامق الموجودة في الدراجات، والتي أتاحت للكثيرين حرية الحركة والتنقل، قبل عشرة آلاف سنة، كانت أشد الأدوات تطورًا تُصنع من أحجار منحوتة. أما اليوم، فإن قدرًا كبيرًا مما صار بين أيدينا من تقنيات قد أضحى شديد التعقيد، حتى إن المرء "يكاد ألا يميزه عن السحر"، إن جاز لنا أن نستعير مقولة آرثر سي. كلارك. لكن كيف بلغنا هذه النقطة؟ للإجابة عن هذا السؤال، تتقصى مهندسة الإنشاءات روما أجراوال في كتابها «مجهر على الابتكارات» Nuts and Bolts تاريخ عدد من أهم التطورات التكنولوجية. وتبيّن لنا كيف أنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتاريخ البشرية ذاتها.
فتحاجج الكاتبة بأن عالمنا المعاصر يقوم على سبعة اختراعات بسيطة، ألا وهي: المسمار، والعجلة، والنابض، والمغناطيس، والعدسة، والخيط، والمضخة. وبدافع من شغف وولع منذ الصغر بتفكيك الأشياء لمعرفة آليات عملها، تصحبنا الكاتبة في رحلة، تستعرض خلالها المبادئ العلمية التي تقوم عليها وظيفة كلٍّ من هذه "الماكينات" الصغيرة وتتعقب تاريخها، من بداياتها موغلة القدم وحتى تجلياتها في الهندسة الحديثة، على صعيد الابتكارات البسيطة والكبيرة.
على سبيل المثال، تصف الكاتبة النابض على أنه "أول أداة تمكّن البشرية من تخزين الطاقة، لإطلاقها عند الحاجة". وتتقصى أجراوال تطور أشكال النوابض، بدءًا من القُوس والسهام وصولًا إلى النوابض الحلزونية الفولاذية الضخمة التي تُعين ناطحات السحاب على الصمود أمام الزلازل، وكذلك نوابض الاتزان السليكونية التي تضمن لغالبية الساعات الميكانيكية الأغلى ثمنًا دقة أدائها.
وبأسلوب واضح، وجذاب وشيق، ينبض بالحياة، ويزخر بالألاعيب اللفظية، تشجعنا الكاتبة على تبني منظور جديد إلى الاختراعات التي من دونها سيصيب عالمنا الجمود والركود. فتخبرنا أن العجلة لم تستخدم في بادئ الأمر لأغراض التنقل، وإنما لصنع الفخار. بعد ذلك، مرّت 700 سنة قبل أن يستخدم الإنسان العجل قائمًا، ويثبِّت به المحاور التي يرتكز عليها. إذ يعود تاريخ أقدم ما صمد إلى اليوم من عربات ذات عجلات إلى حوالي عام 3200 قبل الميلاد، وقد عُثر عليه في روسيا. وتبع ذلك إدخال مختلف التحسينات على هذا الابتكار. وقادت تلك التطورات التكنولوجية إلى تغيرات اجتماعية جارفة. إذ حلَّت العجلات ذات البرامق محل العجلات المصمتة. وأتاحت لها خفة وزنها الحركة بسرعة أكبر، كما عززت حركة التبادل التجاري. كذلك قاد ابتكار العجلات ذات البرامق المصنوعة من أسلاك معدنية إلى صنع الدراجات، التي أتاحت سهولة التنقل لكثيرين ممن لم يملكوا القدرة على شراء العربات أو السيارات.
التحوُل إلى التروس
أما العجلات المسننة، فتحولت إلى تروس شكلّت أدوات لتغيير اتجاه قوة الضغط وحجمها عند تحريك الأشياء، لتطلق التطورات التي جاءت بها الثورة الصناعية وما تلاها. فعلى سبيل المثال، استخدمت جوزفين كوكران في أواخر القرن التاسع عشر العجلات والتروس كي تَصنع أول غسالة أطباق تحقق نجاحًا تجاريًا. وتُعد غسالة الأطباق واحدة من العديد ممن الأجهزة المنزلية التي قلصت الوقت المطلوب لأداء الأعمال المنزلية، ليغدو بوسع كثير من النساء أن يدخلن سوق العمل. كما تُعد العجلات أيضًا إحدى الصور السالفة للجيروسكوبات التي تُستخدم في توجيه محطة الفضاء الدولية. وعلى حد تعبير الكاتبة، فإن إعادة اختراع العجلة، وتغيير صورتها مرارًا وتكرارًا، قادا 5000 عام من التطورات.
وتسلك سردية الكاتبة منحى طريفًا وغير متوقع، إذ إن هذه الحكاية التي تتنقّل فصولها بين أرجاء العالم تُركز كذلك على "إسهامات كثيرًا ما تُغفل أو لا يُعترف بها، قدمتها فئات مهمشة". ومن بينها، على سبيل المثال، ما كان من النساء السوفييت حين قدن الطائرات الحربية في الحرب العالمية الثانية، ومنها أيضًا الدور المحوري الذي نهضت به عجلات المغازل إبان حركة استقلال الهند، بل إن حتى قصص عدد من الشخصيات الشهيرة تسلك منعطفات لم يكن ليتصورها عقل. على سبيل المثال، كان ألكسندر جراهام بِل مخترع الهاتف يسعى أول الأمر إلى تحويل ذبذبات الكلام المنطوق إلى نمط ملموس يمكن أن يبصره كل من زوجته ووالدته اللتين كانتا كلتيهما فاقدتين للسمع.
وتتخلل هذه السردية العالمية التي تنسج الكاتبة خيوطها قصص من تجارب أجراوال الشخصية، فتحكي لنا كيف أنها صنعت بنفسها مسامير في ورشة أحد الحَدَّادين، كما تروي لنا على نحو مؤثر كيف أنها تدين لابتكار العدسات بالفضل في مولد ابنتها. فلولا هذه العدسات، لما وُجدت الميكروسكوبات التي أدت دورًا جوهريًا في ابتكار الإخصاب الأنبوبي خارج الرحم (IVF). وباستعراض تاريخ أسرتها، توضح لنا كيف أتاح استخدام المغناطيس للتحكم في النبضات الكهربية تطوير تقنيات، ولَّدت مرة تلو الأخرى ثورات في مجال الاتصالات العالمية. على سبيل المثال، تحكي كيف أن عمها إبان بحثه عن عمل في إيطاليا في الستينيات، كان يرسل البرقيات إلى أسرته في مومباي بالهند. وفي السبعينيات، اعتادت إحدى عماتها في ولاية كونيتِكِت إجراء مكالمات بعيدة المدى بين قارة وأخرى من خلال شبكة من التحويلات الهاتفية. أما ابنة الكاتبة، فقد أجرت أولى محادثاتها مع جدتها عبر مكالمات الفيديو خلال جائحة «كوفيد-19».
ليس كل ما يلمع ذهبًا
لا يملك القارئ إلا أن يندفع وراء حماس الكاتبة. إلا أنها، في الوقت نفسه، لا تألُ جهدًا، كي تلفت انتباهنا، مرارًا وتكرارًا إلى أن "التقدم" لا يكون دائمًا مما يُحمد عقباه. فعلى سبيل المثال، العجلات ذات البرامق جعلت العربات التي تجرها الخيول خفيفة الحركة إلى حد أتاح استخدامها في الحرب. وكان للنوابض دور محوري في ابتكار المدافع. أما اختراع الخيوط، فقد نتجت عنه صناعة نسيج موّلت الإمبراطورية البريطانية وهي تعيث خرابًا في الاقتصاد الهندي. (ومن هنا جاءت أهمية عجلات المغازل المذكورة آنفًا). في الوقت نفسه، فإن صناعة الموضة اليوم مسؤولة عن 10% من إجمالي الانبعاثات العالمية لثاني أكسيد الكربون، كما أنها مسؤولة عن كميات هائلة من المواد الملوِّثة الأخرى.
ويُعد تأثير الهندسة على الكوكب وعلى المجتمع خيطًا عامًا يربط بين مختلف مواضيع الكتاب. وعبر عرض قصص استخدُمت فيها التقنيات لصلاح البشرية وأخرى وُظفت فيها التقنيات نفسها لخرابها، تشجعنا الكاتبة على أن نمعن التفكير في الاتجاه الذي علينا أن نسلكه مستقبلًا.
كما تبين لنا أننا إذا أردنا أن نواجه تخريب البشرية للكوكب، فعلينا أن نستكشف التقنيات، وأن نحطم ما تصفه بـ"الصندوق الأسود" الذي يغلف هذه التقنيات بالغموض. فتقول إن "فهمنا لجوهر الأشياء"، يدفعنا إلى أن نثمِّن الجهد، والعبقرية والأصالة والابتكار، والمواد الخام التي دخلت جميعًا في تكوينها، فلا ننظر إليها كأغراض يُمكن التخلص منها فور وفائها بالحاجة المرجوة منها. وعندئذ، سنصبح أقرب من العثور على طرق لمد عمر هذه الأدوات وترميمها وإصلاحها. كما تلفت الكاتبة إلى أن الممارسات المستدامة في الهندسة، وحملات التوعية المجتمعية، وحركات إصلاح المنتجات من السبل التي يُمكن من خلالها التصدي للكوارث البيئية. أما على مستوى الأفراد، فإن الإقرار بمسؤوليتنا عن ممتلكاتنا، عبر إصلاحها، يجلب شعورًا مُرضيًا بـ"السعادة والرضا والنجاح".
ومن هذا كله، نخلص إلى أن تاريخ الهندسة يخبرنا بالكثير عن أنفسنا الآن، وعما كنا عليه من قبل، بل قد يرشدنا إلى الوصول لتطلعاتنا.
اضف تعليق