وهذا الكفر الذي ينطوي عليه قلب المنافق قد يكون في صورة إنكار، وقد يكون في صورة شكّ، وقد يكون في صورة (عرفان غير مصحوب بالإذعان).. وقد سبق أنّ المعرفة تختلف عن الإذعان في تفسير (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ففي جميع هذه الصور إذا أظهر الإنسان الإيمان يعتبر (منافقاً)، وتجري...
تفسير... الآيات: (وَمِنَ النَّاسِ مََن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (1)
المفردات
(الْيَوْمَ الآخِرَ): يوم القيامة، وإنّما سميّ آخراً لأنّه يوم لا يوم بعده؛ إذ ليس بعده ليلة، وإنَّما تتعدّد الأيام بتعدّد الليالي فإذا لم تكن ثمّة ليلة فلا تعدّد في اليوم. أو لأنه متأخّر عن أيّام الدنيا.
(يُخَادِعُونَ اللَّهَ): يفعلون معه فعل المخادع الذي يظهر ما لا يريده، ويريد ما لا يظهره، أو يخادعون بزعمهم ويظنون أنهم قادرون على خداعه، وأصل الكلمة بمعنى إخفاء الشيء مع إيهام غيره، ومنه (مخدع البيت) للمكان الذي يحرز فيه الشيء.
(مَرَضٌ) المرض العلّة في البدن، وتطلق الكلمة على اعتلال الروح وخروجها عن حدّ الاعتدال أيضاً.
(أَلِيمٌ): مؤلم موجع.
(يُكَذِّبُونَ): الكذب هو الإخبار عن الشيء بما لا يطابق الواقع، وقد يطلق على العمل الذي لا يطابق ظاهره الواقع أيضاً.
الإعراب
«الباء» في قوله تعالى (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) يطلق عليها الباء الزائدة وتأتي في خبر (ما) ـ ونظائرها ـ لتأكيد النفي، فـ(وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) يفيد تأكيد نفي الإيمان عنهم، بما لا يفيده قولنا (ما هم مؤمنين).
و(ما) في قوله تعالى (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) مصدرية، تُؤوَّل مع ما بعدها بالمصادر، فيكون معنى الآية الكريمة (ولهم عذاب أليم بسبب كذبهم في ادّعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر).
النزول
قيل: إنّ الآية الكريمة نزلت في منافقي أهل الكتاب، ومنهم عبد الله ابن أُبي، ومعتب بن قشير، وجدا بن قيس، وكانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق، ويقولون: إنا لنجد في كتابنا نعته وصفته (أي النبي صلى الله عليه وآله)، وإذا خلا بعضهم ببعض قالوا: إنّا معكم، إنّما نحن مستهزئون!.
وقيل: إنّها نزلت في مجموعة من أحبار اليهود ومنافقي الأوس والخزرج.
وعن علي بن إبراهيم: أنّها نزلت في قوم منافقين، أظهروا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الإسلام، فكانوا إذا رأوا الكفّار قالوا: إنّا معكم، وإذا لقوا المؤمنين قالوا: نحن مؤمنون، وكانوا يقولون للكفّار (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) فرّد الله عليهم (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(2).
والتعميم هو الأنسب بسياق الآيات المباركات.
مدخل
بعد أن استعرض القرآن الكريم موقف المجموعة الأُولى (وهم المتّقون)، والمجموعة الثانية (وهم الكافرون)، يستعرض موقف المجموعة الثالثة وهم (المنافقون).
والمنافقون من الناحية الاصطلاحية عبارة عن الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر.
فالمنافقون هم في الواقع ذوو شخصية مزدوجة، ظاهرهم كسائر المسلمين، يتشهّدون الشهادتين بألسنتهم، ويؤدّون الفرائض الدينية بجوارحهم، إلاّ أنّ قلوبهم تحتوي على الكفر والإنكار للمبادئ التي يقوم على أساسها هذا الدين.
ألوان من المنافق
وهذا الكفر ـ الذي ينطوي عليه قلب المنافق ـ قد يكون في صورة إنكار، وقد يكون في صورة شكّ، وقد يكون في صورة (عرفان غير مصحوب بالإذعان).. وقد سبق أنّ المعرفة تختلف عن الإذعان في تفسير قوله تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ففي جميع هذه الصور إذا أظهر الإنسان الإيمان يعتبر (منافقاً)، وتجري عليه أحكام المنافقين.
وهذا ما يمكن أن نستفيده من قوله تعالى (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)؛ إذ إنّ الإيمان نور في القلب، ولا يخلو القلب من أن يضمّ بين طياته هذا النور أو لا، ولا توجد هنالك حالة ثالثة؛ إذ ليس هنالك وراء النقيضين شيء، فالقلب الذي لا يحتوي على نور الإيمان مع تظاهر صاحبه بالإيمان يعتبر منافقاً، سواء أكان (انتفاء الإيمان) بسبب الإنكار أم بسبب الشكّ، أم بسبب العرفان غير المصحوب بالإذعان، وفي جميع هذه الصور الثلاث يتحقّق قوله تعالى (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).. وينطبق على أصحابه عنوان (المنافقين).
وقد ضمّ المنافقون بالإضافة إلى رذيلة (الكفر) رذيلة (الجبن) ورذيلة (الكذب)؛ إذ لم تكن لديهم الشجاعة الكافية لإظهار عقائدهم كما اتسّموا بصفة (الكذب) حينما ظهروا للناس في صورة زائفة تختلف عن صورتهم الحقيقية، وحين قالوا: (آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ). فالنفاق في الواقع مجمع لمجموعة من الرذائل والسيئّات الكبيرة.
اهتمام القرآن بظاهرة النفاق
وقد كان (المنافقون) يشكّلون شريحة واسعة من المجتمع، وكانوا يخطّطون ـ من الداخل ـ لضرب الإسلام كما كان الكفّار يخطّطون ـ من الخارج ـ لضرب هذا الدين وقد اهتمّ القرآن الكريم بتسليط الأضواء عليهم اهتماماً كبيراً. وذلك لما يمثّلونه من الخطر الداهم على الأُمّة، حتّى قال الله سبحانه فيهم (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)(3).
ويمكننا أن نتلمّس مدى اهتمام القرآن الكريم بظاهرة (النفاق) من خلال معرفة عدد الآيات التي نزلت في المنافقين. وهذه الآيات ـ على ما ذكره بعض الباحثين ـ هي كالتالي:
سورة البقرة: من 8 ـ 20، 76 ـ 77، 204 ـ 206.
سورة آل عمران: 72 ـ 90 ـ 91، من 86 ـ 89، 118 ـ 119 ـ 144 ـ 154، من 156 ـ 158، 167 ـ 168، 175 ـ 179.
سورة النساء: 38 ـ 39، 60 ـ 68، 72 ـ 76، 78 ـ 82، 88 ـ 91، 105 ـ 115، 137 ـ 147.
سورة المائدة: 41، 51 ـ 53، 57 ـ 62.
سورة الأنفال: 37 ـ 49 ـ 60.
سورة التوبة: 41 ـ 110، 123 ـ 127.
سورة الحج: 11 ـ 13.
سورة النور: 23 ـ 25، 47 ـ 50، 63 ـ 64، 11 ـ 21.
سورة العنكبوت: 10 ـ 11.
سورة الأحزاب: 12 ـ 20، 24 ـ 48 ـ 57 ـ 58، 60 ـ 62، 73.
سورة محمد: 15 ـ 30.
سورة الفتح: 6 ـ 11 ـ 12 ـ 15 ـ 16.
سورة الحديد: 13 ـ 15.
سورة المجادلة: 8 ـ 10 ـ 14 ـ 16 ـ 17.
سورة الحشر: 11 ـ 20.
سورة المنافقون: 1 ـ 11.
سورة المدثر: 31.
سورة الماعون: 4 ـ 7.
سورة التحريم: 9.
وكما يمكننا أن نتلمّس ـ في هذه الآيات ـ مدى اهتمام القرآن الكريم بظاهرة (النفاق).
حيث إنّ الله تعالى ابتدأ بذكر المتّقين في أربع آيات، ثمّ ثنَّى بذكر الكفّار في آيتين، ثمّ ثلَّث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية.
قال الرازي: «إنّ كثرة الاقتصاص بخبرهم تدلّ على أنّ الاهتمام بدفع شرّهم أشدّ من الاهتمام بدفع شرّ الكفار، وذلك يدلُّ على أنهم أعظم جرماً من الكفّار»(4).
وقال الزمخشري: «وكانوا (أي المنافقين) أخبث الكفرة وأبغضهم وأمقتهم عنده؛ لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً، وبالشرك استهزاءاً وخداعاً، ولذلك أنزل الله فيهم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)(5) ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم وسفهّهم، واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكّم بفعلهم، وسجل بطغيانهم وعمههم، ودعاهم صُمّاً بُكماً عُمياً، وضرب لهم الأمثال الشنيعة»(6).
التفسير
الآية الأُولى من هذه الآيات تتعرّض إلى ازدواجية الشخصية عند المنافقين فتقول: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ).
المؤمنون (يؤمنون) بالله وباليوم الآخر، ولكنّ المنافقين (يقولون): (ءَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ)..
إنّها ألفاظ تجري على اللِّسان، ولكن دون أن تكون منبعثة عن إيمان قلبي حقيقي.
ولم يكن هؤلاء المنافقون يكتفون بادّعاء الإيمان بالله وباليوم الآخر، وإنّما كانوا يؤكّدون إيمانهم ـ أيضاً ـ كما يقتضيه تكرار الباء في قوله تعالى (وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ)، وهذه هي طبيعة المنافق، حيث إنّ إحساسه بكذب ادّعاءاته يدفعه إلى المزيد من التظاهر والمزيد من التأكيد.
ولكنّ الله تعالى يجبههم بالحقيقة المرّة، بحقيقة واقعهم الخاوي من الإيمان فيقول: (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).
كذب المنافقين في ادّعاءاتهم
وقد تقول: إنّ المنافقين كانوا مؤمنين بالله وباليوم الآخر، منتهى الأمر أنّهم كانوا ينكرون نبوّة النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فلِمَ كذّبهم الله سبحانه في ادّعائهم الإيمان بالله وباليوم الآخر؟.
والجواب على ذلك من وجهين:
الوجه الأوّل: إنّ هؤلاء المنافقين كانوا يدّعون (تطابق) إيمانهم مع إيمان المسلمين، أي أنّهم يعتقدون بنفس الإله الذي يعتقد به المسلمون، وبنفس اليوم الآخر الذي يؤمن به المسلمون.
في الوقت الذي كانوا يؤمنون بـ(إله آخر) إلهٍ له شركاء، أو إله أتخذ عزيراً إبنا، أو إله اتّخذ المسيح ابنا، أو إله أهمل البشرية فلم يبعث إليهم محمّداً (صلى الله عليه وآله) نبياً، وهذا الإله ليس هو (الإله) الذي يعتقد به المسلمون، بل هو ليس (إلهاً) أبداً، وليس خالقاً مطلقاً، بل هو مخلوق أدمغتهم المنحرفة، فهو مخلوق المخلوق، فكيف يكون إلهاً؟ وكيف يكون خالقاً؟.
ومثل هذا الكلام يجري في ادّعائهم الإيمان باليوم الآخر؛ إذ الكثير منهم لم يكونوا يؤمنون بالمعاد، والذين كانوا يعتقدون بهم، فهم كانوا يعتقدون بمعاد آخر، معاد (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً)(7) ومعاد (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)(8) الى آخره.
وهذا (المعاد) ليس هو المعاد الذي يعتقد به المسلمون.
وهذا الوجه في واقعه ينحلّ إلى وجهين:
الوجه الأوّل
1 ـ إنّ سلب الإيمان عنهم باعتبار كذبهم في دعوى التطابق بين إيمانهم وإيمان المسلمين.
2 ـ إنّ سلب الإيمان عنهم باعتبار دعواهم الإيمان بـ(الله) بينما الذي كانوا يؤمنون به ليس هو (الله) وإنّما هو صورة ذهنية اختلقوها دون أن تتطابق مع الحقيقة الخارجية أبداً.(9) ومن المقرّر في محلِّه أنَّ واقعية الشيء بكونه هو هو بالحمل الشايع الصناعي، لا بكونه هو هو بالحمل الأوّلي الذاتي، ونظير هذا الكلام يجري في دعواهم الإيمان باليوم الآخر أيضاً.
الوجه الثاني
إنّ الايمان الحقيقي هو الإيمان الذي تترتَّب عليه آثاره، وذلك لأنَّ الإيمان الحقيقي هو الإيمان الذي تتوفّر فيه الخصائص التالية:
الخصيصة الأُولى: انكشاف الواقع انكشافاً تاماً، لا تشوبه شائبة ريب أو شك.
الخصيصة الثانية: الإذعان لهذه الحقيقة المنكشفة.
الخصيصة الثالثة: الجري العملي وفق ذلك الإنكشاف.
وإذا لم يكن جري عملي وفق الإنكشاف، فيمكن لنا أن ننفي الانكشاف بالمرّة؛ إذ أثر الإنكشاف الجري العملي، فإذا لم يكن جري فكأنّه لا انكشاف.. فمن رأى الأسد وعلم بوجوده ثمّ لم يهرب منه، فكأنّه لم يعلم بوجود الأسد؛ إذ إنّه والجاهل بذلك سواء من ناحية الموقف العملي.
ومن علم أنّ هذا سمٌّ قاتل ثمَ شربه فكأنه لم يعلم بأنه سم قاتل، وهلّم جرّا.
وهؤلاء المنافقون لو كانوا مؤمنين حقّاً بالله وباليوم الآخر لما كفروا برسالة النبيّ (صلى الله عليه وآله) مع وضوح البراهين الدالّة على نبّوته، ولما أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ولما سعوا وراء أهوائهم وشهواتهم الفانية.
فالقرآن الكريم يريد أن يقول لنا: إنّ هؤلاء ليسوا بمؤمنين ـ حقيقة ـ بالله ولا باليوم الآخر، وإلاّ لجروا وفق هذا الإيمان والأعتقاد.
ويبقى هنا سؤال أشار إليه في الكشّاف بقوله: فإن قلت: فلم جاء الإيمان مطلقاً في الثاني وهو مقيّد في الأوّل؟ وأجاب عنه بقوله: «يحتمل أن يراد التقييد، ويترك لدلالة المذكور عليه، وأن يراد بالإطلاق أنّهم ليسوا من الإيمان في شيء قطّ، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما»(10).
والوجه الثاني؛ وإن كان أشمل في النفي، كما تقول عمّن أدّعى أنه عالم بالمنطق (أنه لا يعلم شيئاً أبداً)، إلاّ أنّ الأوفق بالسياق هو الأوّل ويمكن ادّعاء استلزام الوجه الثاني للأوّل.. لأن الإيمان بالله وباليوم الآخر أصل، والإيمان بسائر الأُمور متفرِّع عليهما فإذا نفي الإيمان بالله وباليوم الآخر فقد نفي ما عداهما بالطبع، فتأمّل.
البحث القادم. ما يستهدفه المنافقون...
اضف تعليق