ولا يتوقّف هذا الطريق على استخدام السمع والبصر إذ لو فرضنا شخصاً فاقداً لكلّ الحواس منقطع الاتّصال بالعالم الخارجي تماماً، فإن بإمكانه أن يصل إلى الله عن طريق التدبُّر والتفكير إذ إنّ وجوده ليس مستمداً من ذاته، فيكون ممكنا. وحيث إنّ ما بالغير لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات...

يمكن أن يستفاد من قوله تعالى (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) أنّ للإيمان بالله تعالى ـ عادة ـ طرقاً ثلاثة:

1 ـ الإيمان عن طريق (العقل)

وذلك بأن يستخدم الإنسان عقله، وينتقل من وجود المسبَّب إلى وجود السبب، ومن وجود الممكن إلى وجود الواجب، ويطلق على ذلك (الدليل إلانّي» ـ أي الانتقال من وجود المعلول إلى وجود العلّة.

ولا يتوقّف هذا الطريق على استخدام (السمع) و(البصر)؛ إذ لو فرضنا شخصاً فاقداً لكلّ الحواس منقطع الاتّصال بالعالم الخارجي تماماً، فإن بإمكانه أن يصل إلى الله تعالى عن طريق التدبُّر والتفكير؛ إذ إنّ وجوده ليس مستمداً من ذاته، فيكون ممكنا. وحيث إنّ ما بالغير لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات، فلا بدّ له أن ينتهي إلى الواجب وهو الله تعالى.

هذا مضافاً إلى ما ذكروه من إمكان الاستدلال بالوجود على الوجوب، وهو ما يسمّى بـ(برهان الصدّيقين) فلا حاجة إلى لحاظ المسبِّب لإثبات وجود السبب مطلقاً.

ولعلّه إلى ذلك أُشير في دعاء عرفة، حيث ورد فيه: «كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك»(1) فتأمّل.

2 ـ الإيمان عن طريق (السمع)

وذلك بالاستماع إلى (الحجة الظاهرة) وهم الأنبياء والرسل والأئمّة ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ والوصول عبر ذلك إلى الله سبحانه.

3 ـ الإيمان عن طريق (البصر)

وذلك بمشاهدة مخلوقات الله سبحانه وما اودعه الله فيها من دقيق الصنع ولطيف التأليف، والانتقال منها إلى الله سبحانه.

وقد توصّل الكثير من العلماء إلى الله تعالى، عن طريق مشاهدة (الآيات الآفاقية) و(الآيات الأنفُسية) كما قال سبحانه (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).(2)

هذه هي المنافذ الطبيعية للمعرفة، ولكنّ هذه المجموعة سدَّت كل منافذ المعرفة، فلم يعد بإمكانها الوصول إلى الله سبحانه.

أمّا عقولهم فقد ختم الله عليهم بكفرهم. وأمّا سمعهم فقد طبع الله عليه. وأمّا أبصارهم فقد أُسدلت عليها غشاوة سميكة فلم يعد بإمكانها الرؤية أبداً.

(خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ).. فكيف يستطيع هؤلاء الوصول إلى طريق الهدى والإيمان؟!

ملاحظة

نلاحظ في الآية الكريمة وحدة (السمع) وجمع (الأبصار) فما هو السبب في ذلك؟

والجواب على ذلك من وجوه:

1 ـ إنّ السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع؛ لأنها تدّل على القليل والكثير فلا حاجة إلى جمعها، فلوحظ الأصل في ذلك، ولعدم وجود هذه المناسبة جمع (الأُذن) في قوله تعالى (وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ).

2 ـ إنّ السمع اسم جنس، ويستوي في اسم الجنس المفرد والجمع، كما في قوله تعالى: (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً)(3) أي: أطفالا.

3 ـ إنّ الإدراكات القلبية والمشاهدات العينية تزيد بكثير على المسموعات، والفيزياء الحديثة تقول: إنّ الأمواج الصوتية المسموعة معدودة لا تتجاوز عشرات الآلاف، بينما أمواج النور والألوان المرئية تزيد على الملايين(4).

وهذا الوجه (الثالث) يمكن أن يكون جواباً للسؤال عن سبب تقديم (السمع) على (الأبصار) في أكثر من (17) موضعاً من القرآن الكريم، منها هذه الآية الكريمة. هذا مضافاً إلى ما ذكره علماء الفسيولوجيا والتشريح من أنّ جهاز السمع أرقى وأعقد وأدقّ وأرهف من جهاز الإبصار. ويمتاز عليه بإدراك المجرّدات.. وإدراك التداخل(5).

روايات المقام

1 ـ عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قا:ل قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزَّ وجل: قال الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه: فمنها كفر الجحود والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراءة، وكفر النعِّم. فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية، وهو قول من يقول: لا ربَّ ولا جنّة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية، وهم الذين يقولون (وما يهلكنا إلاّ الدهر) وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت منهم ولا تحقيق بشيء ممّا يقولون: قال الله عزَّ وجلّ: (يَظُنُّونَ) (وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) إنّ ذلك كما يقولون: وقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) يعني بتوحيد الله، فهذا أحد وجوه الكفر.

وأمّا الوجه الآخر من الجحود فهو الجحود عن معرفة؛ وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حقّ قد استقرّ عنده وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)(6). وقال الله عز وجل: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)(7) فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر؛ كفر النِّعم، وذلك قوله تعالى يحكى قول سليمان: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(8) وقال (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(9) وقال (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ)(10).

والوجه الرابع من الكفر؛ ترك ما أمر الله عزَّ وجلَّ به، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) فكفّرهم بترك ما أمر الله عزَّ وجل به، ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده، فقال: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(11).

والوجه الخامس من الكفر؛ كفر البراءة، وذلك قول الله عزّ وجلّ يحكي قول إبراهيم (عليه السلام): (كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)(12) يعني تبرأنا منكم، وقال يذكر إبليس وتبرؤه من أوليائه من الإنس يوم القيامة (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)(13) وقال (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)(14) يعني يبرأ بعضكم من البعض(15).

2 ـ عن إبراهيم بن أبي محمود، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزَّ وجل: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) قال: الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبةً على كفرهم، كما قال الله عزَّ وجلّ (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(16).

3 ـ في كتاب الاحتجاج للطبرسي (رحمه الله) بإسناده إلى أبي محمّد العسكري (عليه السلام) أنّه قال في قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أي: وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها بأنّهم لا يؤمنون (وَعَلَى سَمْعِهِمْ) كذلك سمات (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) وذلك أنهم لمّا أعرضوا عن النظر فيما كُلِّفوه، وقصروا فيما أُريد منهم، جهلوا ما لزمهم من الإيمان فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه، فإن الله عزَّ وجلَّ يتعالى عن العبث والفساد، وعن مطالبة العباد بما منعهم بالقهر منه، فلا يأمرهم بمغالبته، ولا بالمصير إلى ما قد صدّهم بالقسر عنه، ثمّ قال: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) يعني في الآخرة العذاب المعدُّ للكافرين وفي الدنيا أيضاً لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح، لينبّهه لطاعته، أومن عذاب الاصطلام ليصيرِّه إلى عدله وحكمته(17).

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

 .........................................

(1) مفاتيح الجنان، الدعاء والزيارة.

(2) فصلت: 53.

(3) الحج: 5.

(4) الأمثل 1: 73.

(5) القرآن محاولة لفهم عصري: 247.

(6) النمل: 14.

(7) البقرة: 89.

(8) النمل: 40.

(9) إبراهيم: 7.

(10) البقرة: 152.

(11) البقرة: 85.

(12) الممتحنة: 4.

(13) إبراهيم: 22.

(14) العنكبوت: 25.

(15) البرهان 1: 57-58.

(16) البرهان 1: 58.

(17) نور الثقلين 1: 33.

اضف تعليق