كذلك الفطرة، إنها ترفض بشدٍّة الضلال، إلاّ أنّ الإنسان لو سحق فطرته فترة طويلة فسوف تموت فطرته.. وتصبح رؤيته للأُمور مقلوبة ولا يعود للحقّ إلى قلبه من سبيل. وهكذا يتمّ (الختم) على القلوب والأسماع.. وتسدل على الأعين غشاوة غليظة، فلا يعود القلب يعي، ولا الأُذن تسمع، ولا العين تبصر...

(خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ) البقرة/7

هنالك قاعدتان:

القاعدة الأُولى تقول: (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار).

والقاعدة الثانية تقول: (الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار).

وتجمع القاعدتين عبارة مختصرة هي (ما بالاختيار لا ينافيه).

مفاد القاعدة الأُولى

ومفاد القاعدة الأُولى: أنه لو طرأت الاستحالة على شيء (ولنفرضه محبوباً للمولى) بسبب اختيار الشخص الإتيان بالمقدّمات التي تؤدّي إلى تلك الاستحالة ـ أو بسبب عدم الإتيان بالمقدّمات الوجودّية التي يتوقّف عليها ذلك الشيء ـ فإنّ هذه الاستحالة لا تعفي الشخص من المؤاخذة القانونية على ذلك الشيء؛ إذ لا تلاحظ استحالته فعلاً، وإنّما يلاحظ إمكان تملُّص المكلّف من تلك الاستحالة بعدم اختيار المقدّمات المؤديّة إليها، ويترتّب على ذلك استحقاق العقوبة، لا على المقدّمات المؤدية إلى الاستحالة، وإنّما على ذات الشيء الذي طرأت عليه الاستحالة، لأنّ (المقدور بالواسطة مقدور).

مثلاً: لو أمر المولى عبده بالتواجد غدا في بلد ناء لأداء مهمة معيّنة، وكان ذلك يتوقّف على حجز مقعد في الطائرة في هذا اليوم، فلم يفعل العبد ذلك، فمن الواضح أنه (يمتنع) عليه التواجد في الوقت المحدّد في المنطقة المعينة، إلاّ أنّ هذا (الامتناع) لا يعفي العبد من استحقاق العقوبة؛ إذ كان بإمكانه التخلّص من هذا الامتناع بشراء التذكرة في اليوم السابق.

مفاد القاعدة الثانية

ومفاد القاعدة الثانية: أنّ حتمية وجود الشيء (ولنفرضه مبغوضاً للمولى) إذا كانت مستندة إلى (اختيار) المكلّف الإتيان بالمقدّمات التي تؤدّي إلى تلك الحتمية، لا تعفي المكلّف من استحقاق العقوبة على إيجاده ذلك الشيء المبغوض للمولى.

مثلاً: لو ألقى شخص بنفسه من عمارة شاهقة إلى الأرض، فإنه سوف يقع تحت هيمنة الجاذبية التي ستجذبه ـ بشدّة وعنف ـ نحو الأرض، وفي هذه الحالة يخرج الأمر من يده، ويكون من المحتم عليه ـ عادة ـ أن (يصطدم بالأرض) وتتهشّم عظامه.

لكنّ هذه الحتمية ليست حتمية مفروضة من فوق، وإنّما هي حتمية ناشئة من سوء اختيار المكلّف، فلا تعفيه من استحقاق المؤاخذة القانونية.

تأثير العمل في الرؤية

وعلى ضوء ذلك نقول: إنّ للعمل (آثاراً وضعية) لا تختلف ولا تتخلّف، ومن أهمّ هذه الآثار الأثر الذي يتركه العمل على (الرؤية).

فالإنسان يولد ومعه (فطرة) نقيّة بها يميز الخير عن الشرّ، والهدى عن الضلال.

وقد روي أنّ رجلاً جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: دُلَّني على الخير والشر.

فأشار (صلى الله عليه وآله) إلى قلبه وقال: ما قال لك هذا أنه خير فاعمله، وما قال لك هذا إنّه شر فاجتنبه.

إلاّ أنّ هذه الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها ستتعرض إلى عملية مسخ وتحوير إذا ما استمرّ الإنسان على الذنب والضلال.

فكما أنّ رئة الإنسان خلقت لاستنشاق الهواء النقي ولذا فإنّها تصاب بالأذى حينما تستنشق الهواء الملوّث لأوّل مرّة (كدخان السيجارة مثلاً)، إلاّ أنّ الإنسان إذا استمر فترة طويلة على استنشاق الهواء الملوّث فإنّ الرئة سوف تتكيّف مع هذا الهواء الفاسد، ويصبح جزءاً من حياة الإنسان وإذا ما انقطع عنه فسوف يشعر بالألم والاضطراب.

فكذلك الفطرة، إنها ترفض بشدٍّة الضلال، إلاّ أنّ الإنسان لو سحق فطرته فترة طويلة فسوف تموت فطرته.. وتصبح رؤيته للأُمور مقلوبة ولا يعود للحقّ إلى قلبه من سبيل.

وهكذا يتمّ (الختم) على القلوب والأسماع.. وتسدل على الأعين غشاوة غليظة، فلا يعود القلب يعي، ولا الأُذن تسمع، ولا العين تبصر.

إلاّ أن ذلك لا يعفي هؤلاء من المسئولية القانونية؛ إذ إن هذه النتيجة كانت بسبب كفرهم وعنادهم وإصرارهم على الضلال والانحراف، فسوء اختيارهم ـ في البدء ـ هو الذي أدّى بهم إلى هذه النهاية القاتلة.

ونجد في آيات القرآن الكريم إشارات واضحة إلى هذه العلاقة بين (الضلال الواعي) في البداية و(الختم على القلوب والأسماع) في النهاية.

يقول الله تعالى: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ)(1).

ويقول: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)(2).

ويقول: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(3).

ويقول: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)(4).

ويقول: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(5).

ويقول: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)(6).

وعلى هذا، فـ(الختم على القلوب) يعبر عن معادلة طبيعية أودعها الله سبحانه في الكون.

وهنالك احتمال آخر وهو أن يعبر ذلك عن معادلة غيبية بأن يتم ذلك بتدخل غيبي من السماء في حالة الإصرار على الكفر والضلال، فالقضية تبدأ من الاختيار الحر للإنسان، ولكنّها تنتهي بالتدخل الغيبي لله سبحانه.

ولا يمكننا أن ننفي التأثيرات الغيبية للأُمور لمجرد أنها لا تقع تحت نطاق (حواسنا)؛ إذ إن دائرة (الحقيقة) أوسع بكثير من دائرة (الشهود).

فعدم الإحساس بالشيء لا يدل على عدم وجوده ـ كما سبق البحث في ذلك في فصل «كيف نؤمن بالغيب»؟.

وعلى هذا فالله سبحانه يزيد المهتدي هدى بالإمداد الغيبي (هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ)(7) (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)(8).

ويزيد المنافقين مرضاً: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)(9).

ويختم على قلوب الكافرين وسمعهم. (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ).

إلاّ أن ذلك ـ أيضاً ـ كسابقة لا يعفيهم من استحقاق المؤاخذة؛ لأنّ ذلك كان بسوء اختيارهم وعنادهم وإصرارهم على الضلال والانحراف و(ما بالاختيار لا ينافي الاختيار).

محاولات أُخرى

وفي توجيه عدم المنافاة بين الختم على القلوب والاختيار الحرّ للإنسان هنالك أقوال أُخرى:

1 ـ إنه يكفي في حسن الإضافة أدنى ملابسة، والشيطان هو الذي ختم على قلوبهم في الحقيقة، أو الكافر نفسه، لكن باعتبار أنّ الله تعالى هو الذي أقدر الشيطان أو الكافر على ذلك أسند إليه الختم، ومن المتعارف أن يسند الفعل إلى السبب لا المباشر، فنقول: (فتح الملك المدينة الفلانية) مع أن الذي فتحها هو (الجيش) وعليه جرى قوله سبحانه وتعالى (يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا)(10).. وفي علم البلاغة ـ في موضوع المجاز في الإسناد ـ بحث طويل متعلّق بالمقام فليراجع(11).

2 ـ إنهم لمّا اعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى الذكر ـ وكان ذلك عند إيراد الله سبحانه وتعالى الدلائل والآيات ـ أُضيف ما فعلوا إلى الله تعالى؛ لأن حدوثه إنّما اتّفق عند إيراده تعالى الدلائل عليهم كقوله تعالى: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)(12) أي ازدادوا عندها كفراً إلى كفرهم.

3 ـ إنهم بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى حصول الإيمان لهم إلاّ بالقسر والإلجاء، إلاّ أن الله تعالى ما أكرههم على ذلك، لئلاّ يبطل التكليف، فعبر عن ترك القسر والالتجاء بـ (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)، كما نقول (أفسد الأب ابنه) إذا تركه وشأنه.

ولا يخفى الفرق بين ما ذكر في المثال وما نحن فيه، إذ لا حقَّ للأب أن يترك ابنه وشأنه، لأنّه مكلّف بإصلاح أمره، وهذا بخلاف ما نحن فيه؛ إذ الدنيا محلّ اختيار، ولا يتمّ الاختبار إلاّ بترك الإنسان وشأنه ليختار ـ بدون أيّ قسر ـ طريقه (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(13).

4 ـ الختم في الآية الكريم بمعنى الشهادة، أي: شهد عليها بأنها لا تقبل الحقّ، تقول (أراك تختم على كلّ ما يقول فلان) أي: تشهد به وتصدّقه، وذلك مسوق على نحو الاستعارة.

5 ـ معنى الختم في الآية أنّ الله تعالى طبع فيها أثراً للذنوب، كالسمة والعلامة، لتعرفها الملائكة، فتبرؤوا منهم، ولا يستغفروا لهم مع استغفارهم للمؤمنين، كما أن الله تعالى يكتب في قلب المؤمن الإيمان، ويعلّم عليه علامة تعلم الملائكة بها أنه مؤمن فيدعون له ويستغفرون له. وتؤيد المنحى العام لهذا التفسير رواية طويلة مروية عن الإمام العسكري (عليه السلام).(14)

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

...................................................

(1) النساء: 155.

(2) الصف: 5.

(3) المؤمن: 35.

(4) الجاثية: 23.

(5) المطففين: 14.

(6) التوبة: 77.

(7) البقرة: 2.

(8) محمد: 17.

(9) البقرة: 10.

(10) غافر: 36.

(11) راجع المطوّل والمختصر وجواهر البلاغة وغيرها من الكتب البلاغية.

(12) التوبة: 125.

(13) الإنسان: 3.

(14) البرهان 1: 29-58.

اضف تعليق