حينما يعرف الإنسان الحقّ، ويُعرض عنه لوجود (عوامل) معيّنة تضغط عليه لكي يسلك طريق الضلال عن سابق عمد وتصميم كحبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، وحبّ الرئاسة، وما أشبه ذلك. ويطلق على هذا النوع من الانحراف (الانحراف الواعي)...
والقرآن الكريم في الوقت الذي يحدّد في الآيات الأُخَر طبيعة الصراط المستقيم فيقول: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ *وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)(1). ويقول: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(2). ويقول على لسان النبي (صلى الله عليه وآله): (وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)(3).
في الوقت ذاته يربط هذا (الصراط المستقيم) بـ(عيّنات خارجيّة) تجسّد السير في هذا الصراط، وتكون نموذجاً يُحتذى به في المسير، فيصف الصراط المستقيم بأنه: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).
ويقول في آية أُخرى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(4).
وقد روي عن المفضّل بن عمر، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصراط فقال: «هو الطريق إلى معرفة الله عزَّ وجلّ».
وأضاف: «وهما صراطان؛ صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأمّا الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنم»(5).
وقد روي في وصف صراط الآخرة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه: «أَدَقُّ من الشعر وأَحَدُّ من السيف، فمنهم من يمرُّ عليه مثل البرق، ومنهم من يمرُّ عليه مثل عدو الفرس، ومنهم من يمرّ عليه ماشياً، ومنهم من يمرّ عليه حبواً(6)، ومنهم من يمرُّ عليه متعلّقاً فتأخذ النار منه شيئاً وتترك منه شيئاً»(7).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يعني: محمّداً وذرّيته صلوات الله عليهم(8).
ذلك أنّ هنالك حقيقتين:
1 ـ المنهج.
2 ـ النموذج.
فالمنهج يتمثّل في الإطار النظري للدين.
أمّا النموذج فيتمثّل في التطبيق الخارجي للدين.
والمنهج لا يستطيع بمفرده أن يحرّك الأجيال.. كما لا يمكن أن يحدّد بوضوح كاملٍ معالم الطريق.
ومن هنا جاء الربط القرآني بين (المنهج) و(النموذج) في هاتين الآيتين الكريمتين.
مَنْ هم الذين أنعم الله عليهم؟
لا يوجد هنالك شخص إلاّ وهو مغمور بالنعم الإلهية، ولا أقلّ من نعمة (الوجود)، فكلّ البشر من (الذين أنعم الله عليهم)، إلاّ أنّ النعم لها درجات فهنالك نعمة (الهداية الربانية)، وهنالك نَعِم (الجاه والثروة والصحّة و.. و..). وهذه النِّعم وإن كانت نعِماً عندما ينظر إليها في حدّ ذاتها، إلاّ أنّها لا تعتبر شيئاً عندما تقاس بنعمة الهداية الإلهيّة.. لسمّو مقامها، ودوام آثارها، بعكس النِّعم الأُخرى؛ إذ أنّها وإن كانت نعِماً عندما ننظر إليها نظرة (ذاتية) إلاَّ أنها لا تعتبر كذلك عندما ننظر إليها بنظرة (قياسية)، وذلك تنزيلاً لفاقد الوصف ـ أي الكمال ـ منزلة فاقد الأصل ـ أي الذات ـ.
من هنا كان المراد بقوله تعالى: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) النعمة الخاصّة التي اختصّ الله بها أنبياءه وأولياءه، لا النعمة العامّة التي يشترك فيها الجميع.
وقد ورد في الحديث الشريف عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ): «صراط الأنبياء وهم الذين أنعم الله عليهم»(9).
وعن الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قال في الآية: «ليس هؤلاء المُنعَم عليهم بالمال وصحّة البدن، وإن كان كلّ هذه نعمة من الله ظاهرة، ألا ترون أنّ هؤلاء قد يكونون كفّاراً أو فسّاقاً، فما ندبتم إلى أن تدعوا بأن ترشدوا إلى صراط الذين أنعم عليهم بالإيمان بالله وتصديق رسوله وبالولاية لمحمّد وآله الطيبين»(10).
الفرق بين (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) و(الضَّالِّينَ)
والنسبة المنطقية بين (المغضوب عليهم) و(الضالين) هي (العموم المطلق) فكلُّ مغضوب عليه فهو ضالّ وليس كلُّ ضالّ مغضوباً عليه(11).
وذلك لأنّ الإنحراف على نوعين:
1 ـ الانحراف التقصيري
ويتحقّق ذلك في موردين:
أ ـ حينما يعرف الإنسان الحقّ، ويُعرض عنه لوجود (عوامل) معيّنة تضغط عليه لكي يسلك طريق الضلال ـ عن سابق عمد وتصميم ـ كحبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، وحبّ الرئاسة، وما أشبه ذلك.
ويطلق على هذا النوع من الانحراف (الانحراف الواعي).
قال سبحانه وتعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)(12).
ب ـ حينما يجهل الإنسان الحقّ، ولكنّه يكون مقصِّراً في المقدِّمات الموصلة إلى الحقّ، كمن رفض الاستماع إلى كلمة الحقّ، فظلّ سادراً في ضلاله الموروث.
في هذه الحالة يمتنع على مثل هذا الشخص الوصول إلى الهدى، ولكنّ هذا الامتناع (امتناع بالاختيار) و(الامتناع بالإختيار لا ينافي الاختيار) كما أن (الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار) فيحلّ عليه الغضب الإلهي (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)(13).
2 ـ الانحراف القصوري
ويتحقّق ذلك حينما يكون ضلال الفرد منبعثاً من وجود حواجز تمنعه من الوصول إلى (الحق)، دون أن يكون له أيُّ تقصير في ذلك ففي هذه الحالة يكون الفرد (ضالاً) ولكن بدون أن يكون (مغضوباً عليه) لعدم فعله ما يوجب الغضب الإلهي. فتأمّل.
وفي الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) توكيد في السؤال والرغبة، وذكر لما تقدّم من نعمه على أوليائه، ورغبة في مثل تلك النِّعم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) استعاذة من أن يكون من المعاندين الكافرين المستخفِّين به وبأمره ونهيه.
(وَلاَ الضَّالِّينَ) اعتصام من أن يكون من الذين ضلُّوا عن سبيله من غير معرفة، وهم يحسبون أنَّهم يُحسنون صنعاً(14).
الخوارج مصداق بارز للضلال
وقد كان كثير من الخوارج من الذين انطبق عليهم قول الله سبحانه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)(15).
وقد تلا رجل الآية بحضرة علي (عليه السلام) فقال علي (عليه السلام): أهل الحروراء منهم(16).
وفي حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه»(17).
قال ابن أبي الحديد: «مراده أنّ الخوارج ضلُّوا بشبهة دخلت عليهم.. وأمّا معاوية فلم يكن يطلب الحقّ، وإنّما كان ذا باطل لا يحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة، وأحواله كانت تدلّ على ذلك.... وإذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه وتحارب الخوارج عليه وإن كان أهل ضلال»(18).
ولمّا خرج على معاوية بالكوفة بعض الخوارج، قال معاوية للإمام الحسن (عليه السلام): اخرج إليهم وقاتلهم.
فقال (عليه السلام): يأبى الله لي بذلك.
قال: فلم، أليس هم أعداؤك وأعدائي؟
فقال (عليه السلام): نعم يا معاوية، ولكن ليس من طلب الحقَّ فأخطأه كمن طلب الباطل فوجده!. فأسكت معاوية(19).
ونذكر في ما يلي نماذج من أعمالهم:
1 ـ فقد لقيهم عبد الله بن خبّاب وهو على حمار وفي عنقه مصحف ومعه امرأته وهي حامل.
فقالوا له: إنّ هذا القرآن الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك.
ثم سألوه: ما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟
فقال: إنّ علياً أعلم بالله، وأشدّ توقيّاً على دينه، وأنفذ بصيرة.
فقالوا: إنّك لست تتّبع الهدى، وإنّما تتبع الرجال على أسمائهم.
ثمّ قرّبوه إلى شاطئ النهر فأضجعوه وذبحوه(20).
2 ـ ووثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة، فوضعها في فيه فصاحوا به، فلفظها تورُّعاً!(21).
3 ـ وعرض لرجل منهم خنزير فضربه فقتله، وقالوا: هذا فساد في الأرض، وأنكروا قتل الخنزير(22).
4 ـ وساوموا رجلاً نصرانيّاً بنخلةٍ له فقال: هي لكم.
فقالوا: ما كنا لنأخذه إلاّ بثمن!
فقال: واعجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خبّاب، ولا تقبلون نخلة إلاّ بثمن!(23).
5 ـ وأصابوا في طريقهم إلى النهروان مُسلماً ونصرانيّاً، فقتلوا المسلم واستوصوا بالنصرانيّ وقالوا احفظوا ذمّة نبيكم!(24).
6 ـ وروى أبو عبيدة قال: طعن واحد من الخوارج يوم النهروان فمشى في الرمح ـ وهو شاهر سيفه ـ إلى أن وصل إلى طاعنه فقتله وهو يقرأ: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى)(25).
7 ـ ولما حاجّهم أمير المؤمنين (عليه السلام) تقدّم إليه عبد الله بن وهب وذو الثدية حرقوص وقالوا: ما نريد بقتالنا إيّاك إلاّ وجه الله والدار الآخرة!.
فقال علي (عليه السلام): قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالاً ـ إلى آخر الآية الكريمة(26).
8 ـ وروي أنّه خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات ليلة من مسجد الكوفة متوجّهاً إلى داره وقد مضى ربع من الليل ومعه كميل بن زياد (رحمه الله) ـ وكان من خيار شيعته ومحبّيه ـ فوصلَ في الطريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت، ويقرأ قوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ). بصوت شجّي حزين. فاستحسن كميل ذلك في باطنه، وأعجبه حال الرجل من غير أن يقول شيئاً.
فالتفت صلوات الله عليه إليه وقال: يا كميل لا يعجبك طنطنة الرجل، إنّه من أهل النار! سأُنبؤك فيما بعد.
فتحيّر كميل لمكاشفته له على ما في باطنه، ولإخباره عن الرجل بدخول النار مع كونه في تلك الحالة الحسنة.
ومضت مدّة متطاولة إلى أن آل حال الخوارج إلى ما آل، ووقعت حرب صفّين، ولمّا انتهت التفت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى كميل وهو واقف بين يديه ووضع سيفه على رأس من تلك الرؤوس، فقال: يا كميل، أمّن هو قانت آناء الليل ( أي: هو ذلك الشخص الذي كان يقرأ القرآن في تلك اللّيلة فأعجبك حاله) فقبّل كميل قدميه واستغفر الله(27).
عدم تغيّر الآثار الوضعية للضلال بالعلم والجهل
ولا يخفىّ أن (المؤاخذة القانونية) ترتفع عن (الضال) غير المقصِّر، فهو لا يستحّق العقاب لضلاله، ولكن (الآثار الوضعية) للضلال سوف تترتّب عليه قهراً.
فمن شرب الخمر سوف يصاب بالسكر، وإن تصوّر أنّها ماء قراح.
ومن ابتلع السمّ القاتل سوف يهلك، وإن تصور أنّه دواء ناجع.
ومن سار في طريق الضلال سوف يُبتلى بالآثار الوضعية للضلال، ويُحرم من بركات الهدى، وإن كان معذوراً في انحرافه.
ومن هنا، يستعيذ المؤمن بالله من الضلال بكلا قسيمه: الضلال المتعمّد، والضلال غير المتعمّد.
تقديم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) على (الضَّالِّينَ)
وحيث «إنّ التخلُّص من الضلالة اللاّواعية لا يكون إلاّ بعد التخلُّص من الانحراف الواعي؛ إذ إنّ نور الله لا يدخل قلباً متكبّراً معانداً مصمّماً على الانحراف ـ لذلك نجد القرآن يأمرنا بالتخلُّص من غضب الله أوّلاً، ثمّ يأمرنا بالتخلُّص من الضلالة»(28). فتأمّل.
اضف تعليق