(التوحيد) في جانبيه النظري والعملي ـ طريق إلى تكامل نفس الإنسان. فالله سبحانه هو الغنيُّ المطلق، ولن تنفعه عبادة من عبده، كما لا تضرُّه معصية من عصاه، فالذي ينتفع من عبودية الله هو نفس الإنسان، لا في حياته الأبدية في الآخرة فحسب، بل في هذه الدنيا أيضاً...
المفردات
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ): نخصّ العبادة بك، فلا نعبد سواك.
(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ): نخصُّ الإستعانة بك، فلا نستعين بغيرك.
التوحيد العملي فرع التوحيد النظريّ
بعد أن توجّه المؤمن في الآيات السابقة بعقله وقلبه إلى الله سبحانه وتعالى، واستحضر في ذهنه حقيقتين:
الحقيقة الأُولى: الربوبّية الإلهيّة الشاملة، التي لا تختصُّ بهذه الدنيا، بل تشمل الآخرة أيضاً.
الحقيقة الثانية: الرحمة الإلهية الواسعة والدائمة.
بعد ذلك كلّه: يتوجّه المؤمن إلى الناحية العملية في حياته، فيحصر عبادته بالله سبحانه، دون أن يعبد سواه، ويخصّ استعانته بالله تعالى، فلا يستعين بغيره، قائلاً: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ذلك أنّ (التوحيد العملي) ـ متمثلاً في حصر العبادة والاستعانة بالله سبحانه ـ يأتي بعد الإيمان بـ (الربوبية الإلهية) و(العطاء الإلهي) فما دام لم يؤمن الإنسان بأنّ أزمّة الأمور كلّها بيد الله سبحانه في هذه الدنيا (فهو (رَبَّ الْعَالَمِينَ)) وفي الآخرة (فهو (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)) وأن الله سبحانه منبع اللُّطف والجود والرحمة (فهو (الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ)) فسوف يعمد بالطبع إلى اتّخاذ أرباب من دون الله يعبدهم، ويستمد منهم العون والمدد.
أمّا عندما يعرف الإنسان أنّ كلّ شيء بيد الله، وأنّه معدن الرحمة والعطاء، فسوف يتّجه إلى عبادته وحده والاستعانة به وحده.
ومن هنا تناولت السورة في الآيات السابقة (التوحيد النظري) وعقبَّت ذلك ـ في هذه الآية الكريمة ـ بـ (التوحيد العملي).
ولا بأس بالإشارة إلى أنّ في الآية الكريمة التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب، لأنّه بعد إقرار العبد بالأُلوهية والاعتراف بالربوبية، وأنّه مالك يوم الجزاء، صار لائقاً بالمخاطبة الحضورية معه تعالى، فارتقى العبد من الغيبة إلى الحضور لارتقاء مقام قلبه عن الغفلة إلى التوجّه والحضور(1).
التوحيد والحرية
وينبغي هنا أن نشير إلى أنّ توحيد الله سبحانه ـ في جانبيه النظري والعملي ـ ذو صلة وثيقة بتحقيق (الحرية الإنسانية).
فالإنسان في هذه الحياة يتعرض لضغوط كثيرة تستهدف إخضاعه واستعباده، وهذه الضغوط تصدر عادة من جبهتين:
1 ـ الجبهة الداخلية: متمثلة في الأهواء والشهوات والمطامع.
2 ـ الجبهة الخارجية: متمثّلة في السلطات الحاكمة والقوى المتنفّذة في المجتمع.
وإذا انخرط الفرد في صراط التوحيد، فإنه سوف يتحرّر من سلطة كلّ الآلهة الأُخرى، ولن تستطيع أيّة قوة أن تستعبده مهما امتلكت من قوة.
وثمّة أمر آخر ينبغي أن نشير إليه، وهو أنّ (التوحيد) ـ في جانبيه النظري والعملي ـ طريق إلى تكامل نفس الإنسان.
فالله سبحانه هو الغنيُّ المطلق، ولن تنفعه عبادة من عبده، كما لا تضرُّه معصية من عصاه، فالذي ينتفع من عبودية الله هو نفس الإنسان، لا في حياته الأبدية في الآخرة فحسب، بل في هذه الدنيا أيضاً.
ومن هنا ورد في الحديث القدسي: (يا بني آدم إنّي لم أخلقكم لأربح عليكم، ولكن لتربحوا علي!).
قصص في العبودية
1 ـ أرسل عثمان بن عفان مع عبد له كيساً من الدراهم إلى أبي ذر (رحمه الله) وقال له: إن قبل هذا فأنت حرّ.
فأتى الغلام بالكيس إلى أبي ذرّ وألحَّ عليه في قبوله فلم يقبل.
فقال له: اقبله فإنّ فيه عتقي.
فقال أبو ذر: نعم، ولكن فيه رقّي!(2).
2 ـ ذكر العلاّمة الحلي (رحمه الله) في منهاج الكرامة: أنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) اجتاز مرّة على دار (بشر الحافي) في بغداد وكانت أصوات الملاهي والغناء تخرج من تلك الدار، وفي هذه الأثناء خرجت جارية من الدار وبيدها قمامة فرمت بها في الدرب. فقال الإمام الكاظم (عليه السلام) لها: يا جارية، صاحب هذه الدار حرٌ أم عبد؟
فقالت الجارية: بل حرّ
فقال (عليه السلام): صدقت، لو كان عبداً خاف من مولاه.
فلمّا دخلت قال لها بشر ـ وهو على مائدة الخمر ما أبطأكِ؟
فقالت: حدّثني رجل بكذا وكذا.
فخرج حافياً حتّى لقي الإمام الكاظم (عليه السلام) فاعتذر منه، وبكى لديه استحياءاً من عمله، وتاب على يديه(3).
وقيل: إنه لم يزل حافياً حتّى مات(4).
3 ـ نقل أنَّ مَلِكاً التقى بعابد، فقال له الملك: سل حاجتك.
فقال العابد: إنّي لا أطلب حاجة من عند عبيدي!
فقال الملك: وكيف ذلك؟
فأجاب العابد: لأنّ لي عبدين اثنين، وأنت عبد لهما.
فقال الملك: ومن هما؟
قال العابد: الحرص والأمل(5)!.
لماذا حُصِرت الإستعانة بالله؟
في هذا الكون الرحيب الذي نعيش فيه يوجد هنالك قانون يعمّ جميع الموجودات من أصغر ذرة إلى أكبر مجرّة ـ وهذا القانون هو قانون (العلل والمعلولات).
فنحن نلاحظ أنّ الظواهر الموجودة في عالم الطبيعة يستند وجود بعضها إلى وجود البعض الآخر.
فالظاهرة المستَنَدُ إليها تسمّى (علّة) (وفي منظور القرآن تُسمَّى (سبباً) حيث يقول الله سبحانه: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا)(6). والظاهرة المستَنِدَةُ تُسمَّى (معلولاً) و(مسببَّاً).
فالموقد (علّة) و(الدفء) الذي يشيع في أرجاء الغرفة بسبب الموقد (معلول) و(الجِدّ) في الدراسة (سبب) و(النجاح) في الامتحان (مسبَّب) وهكذا وهلمَّ جرّا.
ومع حكومة نظام العلّية في عالم الطبيعة، فكلُّ من يريد شيئاً فإنّه يعمد إلى تحصيل (علته) وبذلك يحصل على مقصوده بالضرورة، فلماذا نحصر الإستعانة بالله سبحانه؟ وما هو أصلاً دور الإستعانة بالله تعالى ـ ناهيك عن حصر الإستعانة به سبحانه ـ.
والجواب:
أوّلاً: هنالك ثلاثة مفاهيم:
1 ـ (العلّية) ـ وتعني استناد وجود ظاهرة إلى وجود ظاهرة أُخرى ـ.
2 ـ (العلاقة اللُّزومية) ـ وتتحقّق حينما يتزامن وجود ظاهرتين بشكل قهري، بحيث لا يمكن انفكاك وجود إحداهما عن الأُخرى، كما في الأمرين المتضايفين، كالأُبوّة والبُنّوة، والفوقية والتحتية، ونحوهما. فلا يمكن وجود الأُبوّة بدون وجود البُنّوة، ولا وجود الفوقية بدون وجود التحتية، وهكذا.
3 ـ (الصحابة الاتفاقية) ـ وتتحقّق حينما يتزامن وجود ظاهرتين على نحو الاتفّاق، مع (إمكان) أن ينفكَّ وجود إحداهما عن وجود الأُخرى، وإن لم (يحصل) الانفكاك أبداً، كما لو اتّفق مجيء شخصين إلى بيتك مرَّة واحدة أو مرّات كثيرة أو دائماً، دون أن يكون مجيء أحدهما علّة لمجيء الآخر، ودون أن يكون مجيؤهما معاً معلولاً لعلّة ثالثة.
والشيء الذي نستطيع أن نجزم به عند ملاحظة الأسباب والمسبَّبات (تقارن ظاهرتين) من الظواهر الطبيعية، لكن (التقارن) أعمّ من (العلِّية) (عليه السلام)؛ إذ يُحتمل كونه على نحو (الصحابة الاتفاقية).
والمثال التالي يقرِّب لنا الفكرة: لو فرضنا بأن هناك (زرّاً) مقطوع الاتصال بـ(المصباح الكهربائي) المعلَّق في سقف غرفتك. وهنالك (زرّ) آخر متّصل بالمصباح إلا أنّك لا ترى إلاّ الزر الأوّل، وهنالك شخص وراء الجدار يراقب حركاتك، فكلَّما ضغطت على الزر الأوّل أشعل هو المصباح الكهربائي بضغطه على الزر الحقيقي، فعندما تكرّر العمل عدّة مرات يحصل لك اليقين بأنّ (ضغطك) على الزرّ (علّة) و(اشتعال) المصباح الكهربائي (معلول) لتلك العلّة، ولكنّ الحقيقة أنّ هناك علّة أُخرى، ولا توجد بين الزّر الأوّل وبين اشتعال المصباح سوى (الصحابة الإتفاقية)، إلاّ أنه غابت عنك هذه الحقيقة لعدم إحاطتك بالواقع.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نقول: إنّنا نشعل الموقد، ونتلمّس سريان الدفء في الغرفة، فنتصوّر أنّ الظاهرة الأُولى (علّة) لوجود الظاهرة الثانية، بينما لا توجد بينهما سوى (الصحابة الاتفاقية).
وقد يؤيَّد ذلك برواية مروية عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «قال موسى بن عمران (عليه السلام): يا ربّ، من أين الداء؟
قال: منّي.
قال: فالشفاء؟
قال: منّي.
قال: فما يصنع عبادك بالمعالج؟
قال: يطيب بأنفسهم» وفي رواية أُخرى: «يطيب بذلك أنفسهم»(7).
وبناءاً على ذلك: فإن أصل وجود (العليّة) و(المعلولية) بين الظواهر الطبيعية المعروفة مورد مناقشة، وإن كانت الظواهر الطبيعية كلُّها معلولة للمشيئة الإلهية؛ إذ لا يعقل وجودها بلا علّة، ولا كونها علَّة لذاتها.
هذا، ولكن قد يقال: بأنّ هذا الجواب مصادم للوجدان، ومخالف لظواهر النصوص كقوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا)(8) وقوله تعالى: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا)(9).
وقول الإمام الصادق (عليه السلام): «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل لكلّ شيء سببا»(10) وكالروايات التي ذكرت فيها سببيّة بعض الأُمور لبعض، كقوله (عليه السلام): «سبب الفقر الإسراف»(11) وقوله (عليه السلام): «سبب الشحناء كثرة المراء»(12).
وقوله (عليه السلام): «سبب الفجور الخلوة»(13). وقوله (عليه السلام): «سبب التدمير سوء التدبير»(14). وغيرها من الروايات، وهي كثيرة، فتأمّل.
ثانياً: لو سلّمنا بوجود العلّية في الظواهر الطبيعية، لكن ينبغي أن نتساءل: هل العلّية صفة (ذاتية) كامنة في أعماق العلّة، أم أنّها صفة (مكتسبة)؟
إذا كانت العلِّية صفة ذاتية للعلّة فيستحيل إذاً انفكاكها عن ذات العلّة، لأنّ (الذاتي لا يختلف ولا يتخلّف) فزوجية الأربعة ذاتية لها، ولذلك فهي لا تنفصل عنهما، لكن، هل علِّية العلل الطبيعية التي نشاهدها ذاتية؟!.
الحقيقة التي نستوحيها من النصوص الشرعية أنّ العلِّية صفة (مكتسبة) لا (ذاتية) فالله سبحانه هو الذي منح العلل هذه الصفة، ولذا فيكون بالإمكان سلب هذه الصفة عنها ـ مع انحفاظ الموضوع ـ وأمّا سلب الصفة بإعدام موضوعها على نحو السالبة بانتفاء الموضوع، فهو أمر بديهي وليس محّلاً للنقاش.
فالله سبحانه هو الذي جعل النار تعطي الحرارة، ولكنّ النار فقدت هذه الخاصّية عندما جاء الأمر الإلهي: (قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدًا)(15).
ليس ذلك فقط، بل أصبحت هذه النار تعطي البرودة حتى اصطكّت أسنان إبراهيم (عليه السلام) من البرد، فجاء التعقيب الإلهي (وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)(16).
وظاهر الخطاب في الآية انحفاظ الموضوع ـ فالسالبة هنا بانتفاء المحمول.
والله سبحانه هو الذي منح الماء خاصيّة (الإرواء) لكنّ الإرادة الإلهية عندما تتعلّق بسلب الماء هذه الخاصية فلن يقف أمامها شيء.
وقد روي أنَّ رجلاً من الجيش الأُموي خاطب الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء بقوله: (يا حسين انظر إلى هذا الماء يجري كبطون الحيَّات فوالله لن تذوق منه قطرة حتى ترد الحميم)!.
فدعا عليه الإمام (عليه السلام) بأن لا يرتوي من الماء أبداً.
فكان الرجل يعطش ويشرب الماء ولا يرتوي. وينادي (العطش العطش) حتّى هلك.
يقول العلامة المجلسي (رحمه الله): «اعلم أنّ الذي يستفاد من الآيات المتضافرة والأخبار المتواترة هو: أنّ تأثيره سبحانه في الممكنات لا يتوقّف على المواد والاستعدادات، وإنّما أمْرُهُ إذا أراد شيئاً أن يقول له (كن) فيكون.
وهو سبحانه جعل للأشياء منافع وتأثيرات وخواصّ أودعها فيها، وتأثيراتها مشروطة بإذن الله تعالى وعدم تعلّق إرادته القاهرة بخلافة، كما أنه أجرى عادته بخلق الإنسان من اجتماع الذكر والأنثى، وتولّد النطفة منهما وقرارها في رحم الأُنثى، وتدرّجها علقة ومضغة وهكذا، فإذا أراد غير ذلك فهو قادر على أن يخلق من غير أب كعيسى (عليه السلام)، ومن غير أُمّ أيضاً كآدم وحوّاء‘، وكخفّاش عيسى وطير إبراهيم وغير ذلك من المعجزات المتواترة عن الأنبياء في إحياء الموتى.
وجَعَلَ الإحراقَ في النار، فلمّا أراد غير ذلك، قال للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم.
وجعل الثقيل يرسل في الماء، وينحدر من الهواء، فأظهر قدرته بمشي كثير على الماء ورفعهم إلى السماء.
وجعل في طبع الماء الإنحدار، فأجرى حكمه عليه بأن تقف أمثال الجبال منه في الهواء حتّى تعبر بنو إسرائيل من البحر. ومع عدم القول بذلك لا يمكن تصديق شيء من المعجزات اليقينية المتواترة عن الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)» إلى آخر كلامه (رحمه الله) (17).
ثم إنّنا لو سلّمنا ـ جدلاً ـ بأن صفة العلّية (ذاتية) للعلل الطبيعية، فإننا نقول:
وجود المعلول أو (المسبَّب) يتوقّف على (سدّ جميع أبواب العدم) المشرعة عليه، فما لم تسدّ جميع هذه الأبواب لن يوجد المعلول، بينما يكفي انفتاح باب واحد من أبواب العدم في عدم وجود المعلول.
فإذا كانت هنالك مئة ثغرة في البلد يمكن أن يَنْفَذْ منها العدو للإحتلال، وكان المقصود (الحفاظ على استقلال البلد) فإذاً تحقيق هذا الهدف (الحفاظ على الإستقلال) يتوقّف على سدّ كلّ الثغرات المئة ـ التي يُهدّد من ناحيتها وجود الاستقلال ـ ولو فرض أنّنا سددنا (99) ثغرة وبقيت ثغرة واحدة، فإنّ ذلك لا يضمن بقاء الإستقلال أمام عدو طامع يريد الهيمنة على مقدَّرات البلد؛ إذ إنّه سوف ينفذ من هذه الثغرة الأخيرة.
وهنالك عوامل كثيرة متداخلة تشترك في صناعة الأهداف التي نتوخّاها ونحاول الوصول إليها، وربّما ترتقي هذه العوامل لتبلغ رقماً رهيباً لن يستطيع العقل الإحاطة به(18).
وهذه العوامل ـ وإن كان بعضها يقع ضمن دائرة اختيارنا ـ إلا أنّ الكثير منها لا تقع ضمن هذه الدائرة، بل هي منوطة بالعون الإلهي والمدد الإلهي. ولا أقلّ من ضرورة وجود (الحياة) و(القدرة) في من يتوخّى هدفاً مّا، حتى يمكنه الوصول إليه، وليست الحياة ولا القدرة بيده، بل هي مرهونة بالمشيئة الإلهية.
وعلى ضوء هاتين النقطتين نستطيع أن نعرف ضرورة الاستعانة بالله سبحانه ـ بل حصر الاستعانة به تعالى ـ في محاولة الوصول إلى أيّ هدف من أهدافنا؛ إذ
أزِمَّة الأُمورِ طُرّاً بِيَدِهْ --- والكلُّ مُستمِدَّةٌ من مَدَدِهْ
وعلى ضوء ما سبق: نستطيع أن ندرك ضلالة مبدأ (التفويض).
وقد روي: أنه بعث عبد الملك بن مروان إلى عامل المدينة أن وجّه إليّ محمد بن عليّ بن الحسين (عليه السلام) [الإمام الباقر (عليه السلام)]، ولا تمجّه ولا تروِّعه، واقضِ له حوائجه. وقد كان ورد على عبد الملك رجل من القدرية [المفوضة] فحَصِرَ جميع من كان بالشام، فأعياهم جميعاً.
فقال: ما لهذا إلاّ محمد بن علي.
فكتب إلى صاحب المدينة أن يحمل محمد بن علي (عليه السلام) إليه فأتاه صاحب المدينة بكتابه.
فقال له أبو جعفر [الباقر (عليه السلام)]: إنّي شيخ كبير لا أقوى على الخروج، وهذا جعفر ابني يقوم مقامي.
فوجّهه إليه. فلمّا قدم على الأُموي إذ رآه لصغره، وكره أن يجمع بينه وبين القدري مخافة أن يغلبه!
وتسامع الناس بالشام بقدوم جعفر لمخاصمة القدريّة، فلمّا كان الغد اجتمع الناس بحضرتهما فقال الأُموي لأبي عبد الله [الصادق (عليه السلام)]: إنه قد أعيانا أمر هذا القدري، وإنّما كتبت إليك لأجمع بينك وبينه، فإنه لم يدع عندنا أحد إلا خصمه.
فقال: إنّ الله يكفيناه.
فلمّا اجتمعوا. قال القدري لأبي عبد الله (عليه السلام): سل عمّا شئت.
فقال له: اقرأ سورة الحمد.
فقرأها، وقال الأُمويّ ـ وأنا معه ـ ما في سورة الحمد علينا، إنّا لله وإنا إليه راجعون!
فجعل القدري يقرأ سورة الحمد حتّى بلغ قول الله تبارك وتعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
فقال له جعفر [الصادق (عليه السلام)]: قف، من تستعين؟ وما حاجتك إلى المعوّنة؟ إن الأمر إليك! فبهت الذي كفر(19).
اضف تعليق