جواز ذلك مقيد بالعلة الغائية وهي قطع طمعهم في الفساد في الإسلام، وعليه: فإذا أنتج سبّهم مزيد طمعهم في الفساد في الإسلام أو مزيد قدرتهم على الإفساد في الإسلام أو أنتج ابتعاد اهل العالم عنّا ورمينا بالتعصب وفقدان المنطق واللجوء بدله إلى العنف اللساني، حرم...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(1) وههنا مباحث: سبق القول في:
المبحث الأول: (طوائف الآيات والروايات في قضية السباب
ان المستظهر ان الأدلة الواردة حول (السبّ والشتم) هي على طوائف بل على طبقات ومراتب:
الطائفة الأولى: ما يدل على حرمة سبّ الآخرين، كأصل أولي عام، ويتضمن هذا بعض الآيات والروايات الشريفة والقواعد أو الأصول العملية العامة.
الطائفة الثانية: ما يدل على جواز سبّ جماعات خاصة من الناس نظير أهل البدع أو المخالفين.
الطائفة الثالثة: ما يدل على حرمة سبّ تلك الجماعات الخاصة في بعض الصور، ببعض القيود، والآية الكريمة (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) تقع ضمن هذه الطائفة، وإنما قدمناها بالبحث لحكمةٍ سوف يأتي ذكرها بإذن الله تعالى، وهذه الطائفة اما هي مخصصة للطائفة الثانية أو هي حاكمة عليها، أو هي بالأساس خارجة عن باب التعارض وداخلة في باب التزاحم الذي يقع ضمن الطائفة الرابعة. الطائفة الرابعة: ما يدرج الأمر في باب التزاحم)(2).
المبحث الثاني: الاعتراض برواية ((أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) وتحليل الحديث وفقهه، وقد مضى في البحوث الماضية انه قد يعترض على ما ذكرناه بروايات الطائفة الثانية:
ومنها: ما ورد في الكافي الشريف ((عَنْ دَاوُدَ بْنِ سِرْحَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم: إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ، يَكْتُبِ اللَّهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتِ وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ))(3)
فيقال: بان هذا أمر لفظي وليس فعلاً كي يشكك في جهته وفيه التصريح بـ((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)))(4)
ضوابط وقيود في جواز السباب
وقد سبق الجواب عن الاستدلال بالرواية باختصاصها بصورة كون السب مقدمياً لا موضوعياً ولذا يحرم لو أنتج العكس، ونضيف:
ان التدبر في فقه الرواية وسائر الروايات الشريفة يفيد: ان هنالك ضوابط وقيوداً كثيرة على جواز (السباب) وانه يبقى على أصل الحرمة من دون تحقق تلك القيود، والمرجع في صور جواز السباب وفي تلك الضوابط والقيود وفي تحديد مصاديقها وصغرياتها والموقف منها هم مراجع التقليد وأهل الخبرة من علماء النفس والاجتماع وأهل الشورى(5) كما سيأتي.
وهذه الرواية بالذات تستبطن قيوداً عديدة تظهر لدى التدبر في فقه الحديث الشريف.
الجواز مقيَّد بقطع طمعهم في الفساد في الإسلام
فمن القيود: ما سبق من ان جواز أو وجوب ذلك مقيد بالعلة الغائية وهي قطع طمعهم في الفساد في الإسلام، وعليه: فإذا أنتج سبّهم مزيد طمعهم في الفساد في الإسلام أو مزيد قدرتهم على الإفساد في الإسلام أو أنتج ابتعاد اهل العالم عنّا ورمينا بالتعصب وفقدان المنطق واللجوء بدله إلى العنف اللساني، حرم (والمرجع كما سبق الفقهاء وأهل الخبرة).
ومقيَّد بتمييز دائرة الاجتهاد عن دائرة البدعة وأهل البدع
ومن القيود: ان الحكم في الرواية معلق على كونها (بدعةً) و(ريباً) أولاً وعلى كونهم من ((أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ)) ثانياً، وتشخيص كلا الأمرين ليس من شأن عامة الناس بل لا يمكن إلا للفقيه الجامع للشرائط تشخيص ذلك.
وتوضيح ذلك: ان هنالك دوائر أربع:
الدائرة الأولى: دائرة المجتهد، الدائرة الثانية: دائرة المبتدع، الدائرة الثالثة: دائرة أهل الريب والبدعة، الدائرة الرابعة: دائرة الخطأ(6).
والرواية موضوعها الدائرة الثالثة، وتمييز مصاديقها عن الدائرة الثانية والأولى لهو من شأن العلماء الفقهاء، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:
هل القائل بسهو النبي صلى الله عليه واله وسلم من أهل الريب والبدعة؟
أ- هل القول بسهو النبي صلى الله عليه واله وسلم بدعة؟ وهل الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه مثلاً القائل به مبتدع يجوز سبه أو لعنه؟ الجواب: قطعاً لا يجوز سبه ولعنه؛ فان من المقطوع به انه ليس من أهل الريب والبدع مع ان رأيه خطأ قطعاً، اننا نقطع بان قوله هذا لا يجعله في عداد أهل الريب والبدع، كيف! وهو الذي قامت على أكتافه دعائم الدين وانتشرت ببركة كتبه أحاديث أئمة المسلمين صلوات الله عليهم اجمعين؟
لكن العامي قد يتوهم ذلك فيرى القائل بالعدم مبتدعاً يجب لعنه!
هل القول بالانسداد الكبير بدعة؟
ب- هل القول بالانسداد الكبير كما ذهب إليه صاحب القوانين رضوان الله تعالى عليه بدعة؟ وهل صاحبه من أهل الريب والبدع؟ كلا وألف كلا، لكن الجاهل قد تتملكه الحماسة على الدين فيزعم انه مبتدع ضال لأنه يعتقد بانغلاق باب العلم والعلمي إلى أحاديث أهل البيت عليهم السلام ومن ثم فهو ينكر كون أحاديث الكافي ومن لا يحضره الفقيه وغيرهما، حجة من باب الظن الخاص المعتبر بالدليل الخاص بل انها من دائرة الظن المطلق الذي ليس بحجة ذاتاً أبداً إلا على انسداد باب العلم والعلمي!
هل التصنيف الرباعي للأحاديث بدعة وصاحبها أهل البدع؟
ج- هل القول بتقسيم الحديث إلى أربعة أقسام: الصحيح، الحسن، الموثق، والضعيف، بدعة وصاحبها من أهل الريب والبدع؟ كلا وألف كلا، مع ان العامي بل وبعض علماء الاخبارية توهم ذلك فقال – على المحكي عن بعضهم-: بان الإسلام هدم مرتين: مرة يوم السقيفة ومرة يوم وُلد العلامة الحلّي؟ (الذي ابتكر هذا التصنيف الرباعي للأحاديث)؟ وذلك مع ان الأكثرية الساحقة من علماء الشيعة وافقوه على هذا الرأي.
وإذا كان العالم أحياناً يخطئ في تشخيص المبتدع وأهل الريب والبدع فما بالك بالعامي الجاهل؟ ولذا قلنا ان المرجع هو المجتهد الجامع للشرائط بعد التداول، في تحديد الموقف، مع أهل الخبرة والاختصاص.
والغريب ان أعظم شخصية يعتز بها الاخباريون في القرون الأربعة الأخيرة، وهو العلامة المجلسي رضوان الله تعالى عليه، يعتمد هو الآخر على هذا التصنيف الرباعي في ترجيح الأحاديث المتعارضة بعضها على بعض فيرجح الصحيح على الحسن لأنه صحيح والآخر حسن ويرجح الحسن على الضعيف، فكان لا بد ان يكون هو أيضاً مبتدعاً من أهل الريب والبدع!!.
والذي يوضح ما ذكرناه أكثر: ان القول بصوم الوصال بدعة وان صلاة التراويح بدعة وان الصلاة خمس ركعات بدعة، وكذا أمثالها ((وَصَوْمُ الْوِصَالِ حَرَامٌ وَصَوْمُ الصَّمْتِ حَرَامٌ وَصَوْمُ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ وَصَوْمُ الدَّهْرِ حَرَامٌ))(7) واما القول بالانسداد الكبير فليس ببدعة، مع ان تلك الأمور مجرد مصاديق وأحكام فرعية واما الانسداد الكبير فيرى انسداد باب الدليل الظني المعتبر بالدليل الخاص على كل الأحكام الشرعية مطلقاً، ومع ذلك فليس مبتدعاً ولا هو من أهل البدع، ان ذلك مما لا يكاد يفهمه العامي – سلباً أو إيجاباً – وإنما الذي يفهمه عن اجتهاد فهو المجتهد الفقيه لا غير! ولو فهمه العامي فإنما هو عن تقليد ولو كان عن اجتهاد دون توفره على الملكة لما كان حجة أبداً!
المرجعية للفقهاء والعلماء لا للشباب المتحمس!
إن كثيراً من العوام بطبعهم متحمسون وكثيراً ما يثورون ضد أمر أو شخصية لحماسهم الشديد وغيرتهم على الدين ولكن لا يجوز لهم ذلك!! إنما الواجب ان يرجعوا إلى الفقهاء الذين ألقى الأئمة الأطهار إليهم مقاليد الأمور ((وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّه))(8).
أرأيت ان العامي أو الشابّ المتحمس يحق له ان يرمي الفقيه بانه مبتدع إذا رآه يفتي بجواز الزواج من ارتضعت معه أربع عشرة رضعة رافعاً عقيرته بانه: أرأيتم ان هذا يجيز الزواج من الأخت الرضاعية!! مع ان المسألة اجتهادية خلافية حسب اختلاف الروايات من كون العشر رضعات هي المحرمة أو الخمس عشرة رضعة! وكذلك حال سباب من يراه العامي مبتدعاً أو من أهل الريب والبدع مع انه قد لا يكون كذلك أبداً في مقاييس الشريعة.. ومزيد الأمثلة يوضح ذلك أكثر:
هل القول بولاية الفقيه أو عدمها بدعة؟
د- هل القول بولاية الفقيه المطلقة بدعة؟ وهل صاحبها من أهل الريب والبدع لمجرد انه قال بها؟ أو العكس: هل المنكر لولاية الفقيه المطلقة مبتدع؟ الجواب على كلا السؤالين: كلا وألف كلا، لكن الجاهل وحده من هذا الطرف أو ذاك هو من يتصور ذلك!
ان القول بولاية الفقيه المطلقة أو عدمها (أو بالدرجات بينها) ما هي إلا مسألة اجتهادية، وقد ذهب المشهور إلى عدم ولاية الفقيه المطلقة بينما ذهب مثل صاحب الجواهر ومن قبله المولى النراقي إلى ثبوتها، وكلهم علماء أبرار أخيار وليس أي منهم بمبتدع ولا ضال فكيف بان يكون من أهل الريب والبدع؟ إلا ان الشباب أو الشيخ المتحمس، من هذا الطرف أو ذاك، قد (يكفّر) الطرف الآخر وليس مجرد ان يرميه بانه ضال مبتدع!!
هـ- وكذلك حال القائل بوجوب صلاة الجمعة في زمن الغيبة، أو بحرمتها... وكذلك حال الكثير الكثير جداً من المسائل الأخرى.
فهذا أولاً: وموجزه: ان تشخيص دائرة البدعة وتمييزها عن دائرة الاجتهاد ودائرة الخطأ، المرجع فيه هم العلماء الفقهاء لا كل من رأى هذه الرواية الشريفة فأحس بالوظيفة الشرعية(!) فاندفع ليكفّر هذا أو ذاك أو يسبّ هذا أو ذاك متذرّعاً بانه ارتكب بدعةً وقال الباطل في مسألة تاريخية، أو فقهية، أو في ملحقات المسائل العقائدية!
الفرق بين المبتدع وبين أهل الريب والبدعة
وثانياً: الفرق بين المبتدع والمريب وبين أهل الريب والبدع، وموضوع الرواية هو أهل الريب والبدع وليس كل من ارتأى رأياً هو بدعة أو قال بقول مريب! ويوضحه: ان أهل الفسق والفجور أمر ومن غنّى أو رقص أو كذب أو اغتاب أمر آخر؛ فان أهل الفسق والفجور لا يطلق إلا على من فَسَقَ عن أمر ربه وفَجَر مراراً عديدة بحيث يصدق عليه انه من أهل الفسق والفجور.
مثال آخر: أهل المسجد لا ينطبق على من صلى في المسجد مرة واحدة أو مرتين كما لا يطلق أهل الذكر والدعاء على من دعا يوماً أو يومين.
بعبارة أخرى: ان ((أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ)) أخص من (المبتدع) وكان من الممكن ان تعبر الرواية الشريفة بـ(إذا رأيتم المبتدع فأكثروا من سبه) ولكن تعابير الرسول صلى الله عليه واله وسلم والأئمة عليهم السلام دقيقة إلى أبعد الحدود وهي المحور في الأحكام لا توهمات المتوهمين! وعليه فإذا صدق على شخص انه أهل الريب والبدع كان هو موضوع هذه الرواية.
والحاصل: ان موضوع الحكم في الرواية خاص بـ((أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ)) ولا يعمّ كل مبتدع وإن لم يطلق عليه انه أهل الريب والبدع (فلا بد من التماس دليل آخر لو أريد التعميم لذلك) وان المرجع في تشخيص ذلك هم مراجع التقليد العظام فهذا كله المبحث الثاني.
المرجعية للمراجع العظام وللخبراء والحكماء في اتخاذ الموقف العملي
المبحث الثالث: سبق ان تشخيص البدعة والريبة وتشخيص كون هذا من أهل الريب والبِدَع، هو من شؤون الفقيه الجامع للشرائط خاصة، وانه لا يجوز لعامة الناس سبّ هذا أو لعن ذاك بدعوى انه مبتدع أو ضال! فهذا أولاً.
واما الموقف من أهل الريب والبدع، بعد فرض ثبوت الموضوع وتشخيص الفقيه له، فانه لا بد فيه من الرجوع إلى أهل الخبرة بعلم نفس الأمم وبعلم الاجتماع وغير ذلك إذ الخبراء هم المرجع في تقدير منافع وأضرار البدائل المتعددة والتي منها العنف بأنواعه ومنها السباب، ومنها انتهاج منهج التثقيف والتوعية مع التحلي بالأخلاق الفاضلة والسلم المطلق والاحتواء العلمي والعاطفي أو فقل منهج (الموعظة الحسنة) و(الجدال بالتي هي أحسن) فهذا ثانياً.
والقرار العملي لأكثرية المؤمنين
واما ثالثاً: فان المرجع بعد ذينك الأمرين، في اختيار الموقف العملي وتعيينه هو (شورى الفقهاء) و(شورى القيادات الإسلامية) بل (وشورى إتباع أهل البيت عليهم السلام عامة)، وذلك لقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)(9) وقد فصّلنا الكلام عن ذلك بإسهاب في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) فراجع،
وإجماله في سطور: ان الحكم الشرعي يؤخذ من الشارع ولكن الموضوع المستنبط والشؤون العامة يرجع فيها إلى العلماء وأهل الخبرة وأهل الشورى بالاشتراك أي ان العلماء يقومون باتخاذ الموقف بعد مشورة الخبراء وانهم يمارسونه عملياً بعد انعقاد رأي أكثرية الأمة على ذلك.. ألا ترى ان الحرب من الشؤون العامة التي تنعكس بظلالها على كافة الأمة؟ وألا ترى ان وجوبها يؤخذ من الشارع ومن مثل قوله تعالى: (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفينَ)(10) ومع ذلك فان كيفية الحرب وزمانها ومكانها وسائر خصوصياتها يجب ان تكون بالشورى لصريح قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) ولغير ذلك مما فصّلناه في الكتاب..
وإذا كان حال الحرب ذلك.. فما بالك بحال السب؟ أي انه إذا جاز أو وجب سبّ بعض الأعداء كداعش مثلاً أو مطلقاً أهل الريب والبدع بشروطها الكثيرة، فان (تشخيص) من يَسب؟ ومتى يسب؟ وكيف يسب؟ وإلى أي حد يسب؟ وعلى أي مستوى؟ يعود للمراجع العظام والخبراء والحكماء واما القرار العملي فيه فيعود لأكثرية أهل الشورى..
فمثلاً: قد يدرج المراجع والخبراء والحكماء الأمر في دائرة التفاوض مع الطرف الآخر وقد يوكلون الأمر إلى لجنة من الحكماء والخبراء والسياسيين المحنكين والمفكرين لصياغة الأسلوب الأمثل للتعاطي مع أهل الريب والبدع، على ضوء رأي المراجع والخبراء، ثم لا يكون القرار العملي، فيما كان ينعكس بالسلب والإيجاب على الأمة والمجتمع (لا في المجالات الفردية والمغلقة كما سبق)، إلا بعد شورى أكثرية الأمة.
وقد جرى تفصيل ان ولاية الفقهاء – على فرضها – تعليقية لا تنجيزية وانها مشروطة برضا الناس، في كتاب (حدود ولاية الفقيه في فكر الإمام الشيرازي) فليراجع.
عمل الرسول صلى الله عليه واله وسلم برأي الأكثرية في معركة أحد
ويكفي في هذه العجالة ان نقول انه إذا كان النبي الأعظم صلى الله عليه واله وسلم على عظمته وسمو مقامه وكون عقله أكمل العقول (حتى مع قطع النظر عن مقام نبوته ) يُرجِع القرار العملي في أمر مصيري جداً كمعركة أحد وكيفيتها إلى أكثرية المسلمين، رغم ان رأيه المبارك كان على خلاف رأيهم، فما بالك بالفقهاء؟ وما بالك بموضوع أقل خطورة من الحرب مثل السباب؟.. وذلك لأن أدنى خطأ في الحروب قد ينتهي إلى تعريض المسلمين للخطر بل وقتل الكثير منهم..
بل ان مثل ذلك الخطأ الناتج عن رأي الأكثرية في معركة أُحد كاد ان يؤدي بحياة النبي صلى الله عليه واله وسلم نفسه وكاد الكفار ان يقضوا على الإسلام من أساسه (لو انتصر المشركون في المعركة) ولكن النبي صلى الله عليه واله وسلم رغم انه كان يرى ان الصحيح هو مقاتلة المشركين (وكانوا ألفين وكان المسلمون سبعمائة) في داخل المدينة، أي كان يرى استدراج الكفار إلى داخل المدينة ومواجهتهم بطريقة حرب الشوارع، مع تسليح الأطفال والنساء بالحجارة ليرموا بها المشركين من أعالي السطوح، ورغم انه صلى الله عليه واله وسلم كان يرى خطأ رأي الشباب والشيوخ المتحمسين للخروج إلى خارج المدينة ومواجهة قريش في مكان مكشوف، إلا انه صلى الله عليه واله وسلم أمضى رأي الأكثرية، رغم ما نجم عن ذلك من الخسائر الكبيرة جداً في صفوف المسلمين مِن قتلى بالعشرات ومن جرحى كثيرين جداً بل ومن إصابات مباشرة تعرّض لها الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم إذ شجّ وجهه المبارك وكسرت رباعيته وغير ذلك.
والغريب ان بعض كبار السن كانوا من صف الأكثرية، خلافاً للأكثر حكمة ممن كان رأيهم مع رأي النبي صلى الله عليه واله وسلم، والسبب الأساس في موقفهم لم يكن تقدير معادلات الخسارة والربح ودرجاتهما في المعركة نفسها، بل كان ألحماس الزائد والأَنَفَة من ان يتهموا بالجبن وان يدخل عليهم المشركون في عقر دارهم فيقاتلونهم فيها!
وقد نقلنا في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) الحادثة وكان مما جاء فيه:
(الرواية السادسة: عمله برأي الأكثرية في الخروج من المدينة
استشارته صلى الله عليه واله وسلم وعمله برأي الأكثرية رغم مخالفتها لرأيه في القضية التالية: (وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يومئذٍ سبعمائة والمشركين ألفين، وخرج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بعد أن استشار أصحابه، وكان رأيه صلى الله عليه واله وسلم أن يقاتل الرجال على أفواه السكك ويرمي الضعفاء من فوق البيوت، فأبوا إلاّ الخروج إليهم، فلما صار على الطريق قالوا: نرجع، فقال: ما كان لنبي إذا قصد قوماً أن يرجع عنهم).)(11)
أقول ليس معنى (أبوا إلا الخروج إليهم) انهم أجبروا النبي صلى الله عليه واله وسلم أو انه اضطر للخروج بل كان من المسلّم انه صلى الله عليه واله وسلم لو لم يتنازل لهم بل أصر على رأيه انهم كانوا سيطيعونه حسب تتبع مختلف صفحات التاريخ ولأنه كان القائد العسكري العام بلا منازع. ولاحظ الرواية التالية: (وقال الواقدي: (فقال عليه السلام: أشيروا عليّ، ورأى أن لا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا، فقام عبد الله بن أبي فقال: يا رسول الله كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة، يا رسول الله إن مدينتنا عذراء، ما فضّت علينا قط، وما خرجنا إلى عدو منها قط إلاّ أصاب منها، وما دخل علينا قط إلاّ أصبناهم، فكان رأي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مع رأيه، وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار، فقام فتيان أحداث لم يشهدوا بدراً وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الخروج إلى عدوهم ورغبوا في الشهادة، وقال رجال من أهل التيه وأهل السن منهم حمزة وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك في غيرهم من الأوس والخزرج: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، فقال حمزة: والذي أنزل عليه الكتاب لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة، وكان يقول: كان حمزة يوم الجمعة صائماً ويوم السبت صائماً فلاقاهم وهو صائم، وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال: يا رسول الله إن قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ثم جاؤونا وقد قادوا الخيل حتى نزلوا بساحتنا فيحصروننا في بيوتنا وصياصينا ثم يرجعون وافرين لم يكلموا فيجرّؤهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا ويضعوا الأرصاد والعيون علينا، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله عندنا، أو يكون الأخرى فهي الشهادة، لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصاً، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني و رقّ عظمي وأحببت لقاء ربي، فادع الله أن يرزقني الشهادة، فدعا له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بذلك، فقُتل بأحُد شهيداً.
فقال كل منهم مثل ذلك، فقال: إني أخاف عليكم الهزيمة، فلما أبوا إلاّ الخروج صلّى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الجمعة بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ثم صلّى العصر ولبس السلاح وخرج، وكان مقدم قريش يوم الخميس لخمس خلون من شوال، وكانت الوقعة يوم السبت لسبع خلون من شوال، وباتت وجوه الأوس والخزرج ليلة الجمعة عليهم السلاح في المسجد بباب النبي صلى الله عليه واله وسلم خوفاً من تبييت المشركين، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا...)(12).
بعض فقه رواية عمل النبي برأي الأكثرية في أحد
وقد ذكرنا في الكتاب: (فرغم أن النبي صلى الله عليه واله وسلم (رأى أن لا يخرج من المدينة)، و (فكان رأي رسول الله صلى الله عليه وآله مع رأيه)، و (كان رأيه صلى الله عليه وآله أن يقاتل الرجال على أفواه السكك...)، إلاّ أنه صلى الله عليه واله وسلم اتبع رأي الأكثرية عندما خالفته، رغم أنه كان يرى في رأيها خطر الهزيمة، (فقال: إني أخاف عليكم الهزيمة).
إن قلت: كان رأي الأكثرية موافقاً له صلى الله عليه واله وسلم إذ (وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار)؟
قلت: لعله يستظهر أن الأكثرية كانت في الجانب المخالف (فأبوا إلا الخروج إليهم)، (فقام فتيان أحداث...)، و(قال رجال من أهل التيه والسن منهم حمزة وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك في غيرهم من الأوس والخزرج)، الظاهرة في أن الأكثرية الساحقة للأوس والخزرج كانت ترى الخروج من المدينة، (وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال...)، و(فقال كل منهم مثل ذلك فقال صلى الله عليه واله وسلم: إني أخاف عليكم الهزيمة، فلما أبوا إلاّ الخروج...).
فقوله: (وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار) إما محمول على مجموعة منهم، كعشرة مثلاً منهم، كعلي عليه السلام من هذا الجانب، وعبد الله بن أبيّ من ذلك الجانب، وآخر من الجانب الثالث، حيث يطلق على تركيبة من هذا القبيل (الأكابر)، وفيه ما لا يخفى.
وأما أن رأي (الأكابر...) تغير عندما رأوا حماسة الشباب من جانب، وعزيمة وإصرار أهل السنّ من جانب آخر، وحججهم القوية من جانب ثالث، (وقال رجال من أهل التيه وأهل السن... إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا) و (وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال...) و.. الخ.
ومن الواضح رغم كل الأدلة، أن رأي الرسول صلى الله عليه واله وسلم هو الأرجح والمطابق للواقع، وقد انكشف هذا (أي قول الرسول صلى الله عليه واله وسلم: إني أخاف عليكم الهزيمة) للأصحاب، حيث هزموا هزيمة كبيرة، وقُتل الكثير منهم، منهم حمزة عليه السلام، وكاد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أن يقتل لولا التدخل الإلهي الخارجي الإعجازي وبطولات أسد الله الغالب علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام)، ولذا نجدهم في غزوة الأحزاب أجمعوا على اتباع رأي النبي صلى الله عليه واله وسلم من البقاء في المدينة.
وقد ورد في بيان شأن نزول آية (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(13)، أقوال:
منها: (إن ذلك مخالفتهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في الخروج من المدينة للقتال يوم أحُد، وكان النبي صلى الله عليه واله وسلم دعاهم أن يتحصنوا بها ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها)(14)(15).
وليس الاستشهاد بـ (شأن نزول هذه الآية) حتى يقال: إنه مختلف فيه، بل الاستشهاد بما أجمعوا على القول به: (وكان النبي صلى الله عليه وآله دعاهم أن يتحصنوا بها ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها) فتأمل، إذ قد يكون (وكان النبي صلى الله عليه وآله) من تتمة هذا القول، لا تتمة ناقل الأقوال...)(16).
وعلى أية حال فانه إن اتضح لنا ان الأكثرية كانت مخالفة للنبي صلى الله عليه واله وسلم وانه وافق على رأيهم رغم مخالفته لرأيه المبارك، فان الأمر واضح وهو أرجحية إمضاء رأي الأكثرية في الموضوعات العامة حتى للنبي صلى الله عليه واله وسلم فكيف بمرجع التقليد؟
وإن لم يتضح ذلك بل استظهرنا أو احتملنا ان المخالفين لم يكونوا أكثرية القوم بل نصفهم أو ربعهم مثلاً فالأمر أوضح إذ انه صلى الله عليه واله وسلم راعى الرأي الآخر المعارض رغم انه لم يكن الأكثرية فكيف إذا كان الأكثرية؟!
وإذا كان ذلك كذلك في أمر الحرب، فكيف بأمر السباب؟
ملخص القول في الموقف الشرعي من الشؤون العامة
والحاصل: ان أمراً مختلفاً فيه (كسباب الآخرين وكالدخول في معاهدة مع هذه الدولة أو حرب مع تلك الدولة – وغير ذلك)، من حيث كبراه أو صغراه أو كيفيته وزمانه ومكانه ومن يقوم به وحدود ما يقوم به، يجب ان يرجع فيه إلى المراجع العظام وإلى أهل الخبرة وإلى أكثرية آراء الشيعة (فيما يرتبط بهم)(17) مباشرة إن أمكن وإلا فعبر مختلف القنوات التي تعكس آراؤهم كعلماء المناطق المختلفة وخطبائها وأئمة جماعاتها ومفكريها وأساتذة جامعاتها والوجهاء فيها ونظائرهم، فان كان رأي الأكثر مع رأي المرجعية (وكان فرضاً التصدي للحرب أو للسب، بهذه الكيفية أو تلك) فهو، وإلا سقط التكليف عن المرجعية بل لم يجز حمل الأكثرية رغماً عنها على خلاف رأيها للمرجع نفسه(18) فكيف بان يحملهما على ما يخالف رأيها طالب علم أو مثقف أو شباب متحمس؟
المبحث الرابع: تتمة الوجوه عن تحليل الافعال الصادرة منهم عليهم السلام ومنها السب
المبحث الرابع: سبق انه قد يستدل على جواز أو وجوب سب الآخرين، بفعل المعصومين عليهم السلام وقد أجبنا عن ذلك بان الفعل لا جهة له ولا إطلاق له، وانه لا يمكن الاحتجاج بفعلهم عليهم السلام على وجوب فعلنا أو رجحانه إلا إذا علمنا جهته فعلمهم وانطباقها عليهم، وقد مضى:
من وجوه (السباب) الواردة
وبعض الكلام عن تلك الأفعال الصادرة عنهم عليهم السلام وان الفقيه لا يمكنه الاستناد إليها إلا بعد إحراز جهتها وإطلاقها: ان المحتملات في ما ورد من سبهم، كثيرة قد تبلغ العشرة ونقتصر على بعضها في هذا البحث ونكمل الباقي في البحوث الآتية بإذن الله تعالى.
الوجه الأول: ان يكون ذلك من الاستثناء الخاص لا من الأصل العام.
الوجه الثاني: ان يكون ذلك نظراً لباب التزاحم لا لاقتضاء القضية من حيث ذاتها، وباب التزاحم هو الذي تندرج فيه الطائفة الرابعة من الروايات، كما ان الاستثناء هو الطائفة الثانية)(19)
(السباب في حالة الحرب، ورداً على الاعتداء
الوجه الثالث: ان كثيراً من مصاديق السباب الصادرة عنهم (إن عدّت سباباً) كانت في حالة الحرب، وفي حالة الحرب يجوز قتل العدو المحارب فكيف لا يجوز سبه؟ ومن جهة أخرى فانه: إذا جاز أمر في حالة الحرب فانه لا يصح القول: انه إذا جاز ذلك في الحرب فانه يجوز في غير الحرب أيضاً!
الوجه الرابع: ان كثيراً منها كانت من باب (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(20) ولم تكن من السباب الابتدائي، فتلك الأفعال (أي السباب الصادرة في احدى الحالتين) لا إطلاق لها لغير حالة الحرب بل تختص بها، كما لا إطلاق لها للسباب الابتدائي بل تختص بالسباب الدفاعي فقط.
والكثير من الروايات هي اما من قبيل الوجه الثالث أو من قبيل الوجه الرابع أو هي من مجمع الوجهين)(21).
ونضيف: ان هنالك جهات أخرى محتملة لا بد للفقيه، لا العامي، ان يحرز عدم مدخليتها في جواز الفعل أو وجوبه، أو ان يحرز مدخليتها وانطباقها علينا.
ولعل السباب كانت من جهة مقام الولاية
الوجه الخامس: انه يحتمل في السباب الصادرة ان تكون من جهة ما للإمام عليه السلام من المقام: إما مقام ولايته أو مقام إمامته: فان كانت صادرة من حيث الجهة الثانية لم يجز لنا ان نفعل كفعله، وإن كانت صادرة من حيث الجهة الأولى وكان الشخص فقيهاً وقلنا بثبوت الولاية للفقيه واتساع نطاقها لمثل ذلك، عمّ الحكم وصحّ له الإفتاء بالجواز أو الوجوب (بضوابطه الأخرى) وإلا فلا.
وتوضيحه: ان كثيراً من أفعال الأئمة عليهم السلام كانت معلَّلةً بمقام ولايتهم (وبعضها معلَّل بمقام إمامتهم) ولنضرب لذلك أمثلة:
منع الشيعة من المتعة!
فمنها: منع الإمام الصادق عليه السلام الشيعة، في فترة من الزمن، عن المتعة في المدينة، فهل يصح لنا ان نقول كما منع الإمام عن المتعة يجوز لنا ان نمنع عنها في المدينة أو في سائر المدن أيضاً؟ أو الصحيح هو ان ذلك منوط بمعرفة جهة عمله (منعه) صلوات الله عليه وانه كان لولايته، وان منعه معلَّل بالمفسدة الطارئة في تلك الفترة فتعمّ مع اتحاد الظروف والقول بولاية الفقيه وإلا فلا، كما انه قد لا يكون منعه في بعض الصور منعاً بل كان طلباً ورجاءً(22) فهل يصح لنا ان نرى رجحان الطلب والرجاء لتركها مطلقاً أو من أهل المدينة خاصة؟ كلا إلا بعد إحراز الجهة.
وقد ورد مثلاً: ((قَالَ الْمُفَضَّلُ قُلْتُ يَا مَوْلَايَ وَقَدْ رَوَى بَعْضُ شِيعَتِكُمْ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ إِنَّ حُدُودَ الْمُتْعَةِ أَشْهَرُ مِنْ دَابَّةِ الْبَيْطَارِ وَأَنَّكُمْ قُلْتُمْ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ هَبُوا لَنَا التَّمَتُّعَ فِي الْمَدِينَةِ وَتَمَتَّعُوا حَيْثُ شِئْتُمْ لِأَنَّا خِفْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ شِيعَةِ ابْنِ الْخَطَّابِ أَنْ يَضْرِبُوا جُنُوبَهُمْ بِالسِّيَاطِ فَأَحْرَزْنَاهَا بِأَشْبَاهِهَا فِي الْمَدِينَةِ))(23)
إلزام الشيعة بالتجارة
ومنها: ان الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم وعدداً من الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم اجمعين كالإمام أمير المؤمنين عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام ألزموا العديد من الشيعة بالتجارة، والظاهر من بعضها انه كان أمراً مولوياً إلزامياً، ومن بعضها الآخر انه كان إرشادياً إلزامياً(24) وبعضها كان إرشادياً غير إلزامي وقد قال عليه السلام ((عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: رَآنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام وَقَدْ تَأَخَّرْتُ عَنِ السُّوقِ فَقَالَ لِي: اغْدُ إِلَى عِزِّكَ))(25)
وَرَوَى هَارُونُ بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: ((قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام مَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ؟ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَتَرَكَ التِّجَارَةَ فَقَالَ: وَيْحَهُ أَمَا عَلِمَ أَنَّ تَارِكَ الطَّلَبِ لَا يُسْتَجَابُ لَهُ دَعْوَةٌ إِنَّ قَوْماً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم لَمَّا نَزَلَتْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أَغْلَقُوا الْأَبْوَابَ وَأَقْبَلُوا عَلَى الْعِبَادَةِ وَقَالُوا قَدْ كُفِينَا فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تَكَفَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَرْزَاقِنَا فَأَقْبَلْنَا عَلَى الْعِبَادَةِ فَقَالَ إِنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَجِبِ اللَّهُ لَهُ عَلَيْكُمْ بِالطَّلَبِ ثُمَّ قَالَ إِنِّي لَأُبْغِضُ الرَّجُلَ فَاغِراً فَاهُ إِلَى رَبِّهِ يَقُولُ ارْزُقْنِي وَيَتْرُكُ الطَّلَبَ))(26)
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ((اتَّجِرُوا بَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ إِنَّ الرِّزْقَ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ فِي التِّجَارَةِ وَ وَاحِدٌ فِي غَيْرِهَا))(27) وظاهر الأمر (اتَّجِرُوا) الوجوب والتعليل ليس قرينة على الاستحباب أو الإرشادية كما فصّلناه في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية). فتأمل
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ((تَعَرَّضُوا لِلتِّجَارَةِ فَإِنَّ فِيهَا لَكُمْ غِنًى عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ))(28)
وقال الإمام الصادق عليه السلام: ((لَا تَدَعُوا التِّجَارَةَ فَتَهُونُوا اتَّجِرُوا بَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ))(29) والهوان قسمان محرم ومكروه، وما يؤدي إلى أحدهما له حكمه فإذا قلنا بان هذه الأوامر والنواهي كانت بنحو القضية الحقيقية، عمّ، وإن كانت بنحو القضية الخارجية لم يكن الاستناد حينئذٍ إلى قولهم عليه السلام بل كان الاستناد إلى مجرد فعلهم(30).
فهذا فعل، فهل يصح ان يقال ان فعلهم حجة فلنا ان نلزم الشيعة أو بعضهم كما ألزموا؟ كلا! إلا إذا أحرزنا جهة فعلهم وانطباقها علينا أيضاً.
أمرهم عليهم السلام البعض بالدخول في سلك الظلمة
ومنها: ان الإمام الصادقعليه السلام والإمام الكاظم عليه السلام كانا يأمران بعض الشيعة بالدخول في سلك الظلمة وتولي الولايات لهم، كالنجاشي وعلي بن يقطين، بل وكسلمان عندما أجازه أمير المؤمنين عليه السلام في حكم المدائن (العراق وإيران) وغيرهم كثير.
فهل يجوز لنا ان نقول ان الأئمة عليهم السلام على مر التاريخ أمروا جماعة بالدخول في سلك الظلمة فلنا بل علينا ان نفعل؟ كلا إلا بعد إحراز الفقيه – لا العامي – جهة فعلهم وأحرز انطباقها عليها.
فكذلك حال السباب، فلعله كان صادراً منهم لما لهم من مقام الولاية على الأمة، وليست لنا هذه الولاية!
دعمهم عليهم السلام للحركات الثورية والعسكرية
ومنها: ان العلماء اختلفوا في الحركات العسكرية والثورات التي كانت تقوم أو تشتعل بين حين وآخر ضد حكام بني أمية أو بني العباس، فقال البعض انها – أي بعضها على الأقل – كانت بتأييد من الأئمة عليهم السلام سِرّاً بل وقال البعض انها كانت بتخطيط منهم وإسناد سِرّاً، بينما ارتأى البعض الآخر خلاف ذلك..
والشاهد: ان تأييدهم عليهم السلام للحركات العسكرية الثورية – على فرضه – أو عكسه – على فرضه – إنما هو فعل من أفعالهم، ولا يصح لنا الاحتجاج به لتسويغ تأييدنا ودعمنا للحركات العسكرية ضد الطغاة أو لتسويغ تركنا دعمهم، إلا بعد ان يقوم الفقهاء الجامعون للشرائط بإحراز جهة فعلمهم عليهم السلام وانهم لو كانوا مؤيدين داعمين (حسب الرأي الأول) فهل وجهه ان ذلك مما فُوّض إليهم لمقام إمامتهم؟ (وعلى هذا لا يجوز لنا التأسي بهم) أو انه كان لمقام ولايتهم (فعلى هذا يجوز للفقهاء إذا قلنا بولايتهم إلى هذا الحد) أو انه كان لمجرد كونه نوعاً من النهي عن المنكر(31) (فيجوز لعامة الناس بإذن الفقيه على رأي(32) ولا بإذنه على رأي آخر).
ويوضح ذلك أكثر: ان الأب له ولاية ضرب الابن في مقام التأديب (بشرط ان لا يوجب أسوداداً ولا اخضراراً ولا احمراراً وإلا كانت عليه الدية إضافة إلى الحرمة) وكذلك المعلِّم بشرط إذن الاب – على رأي – فهل يصح للأخ مثلاً إذ رأى ذلك ان يضرب آخاه تأديباً؟ كلا لأن هذا الحق من مختصات هذا المقام، وان جواز فعل من الأفعال لشخصٍ من الأشخاص لا يكون دليلاً على جوازه لشخصٍ آخر.
ولعله من مقتضيات مرحلة التأسيس
الوجه السادس: انه يحتمل ان تكون لمرحلة التأسيس مدخلية في جواز أو وجوب أفعال، وحيث كنّا فيما بعد تلك المرحلة فلا يصح الاستدلال بفعلهم عليهم السلام على جواز السباب أو وجوبه في زمننا هذا.
كتدرجية نزول الأحكام
توضيحه: ان لمرحلة التأسيس خصوصيات تقتضي إيجاب أمور أو تحريم أمور أو عدم إيجاب ما هو واجب أو عدم تحريم ما هو حرام، ومن الأدلة على ذلك تدريجية نزول الأحكام: حيث ان النبي صلى الله عليه واله وسلم لم يوجب الصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة،... الخ ولم يحرم الخمر والخنزير والدم إلا على امتداد سنين متطاولة في مكة المكرمة ثم في المدينة المنورة.. وقد نزل حكم تحريم الخمر مثلاً تدريجاً في أربع مراحل، فهذا كان من مقتضيات مرحلة التأسيس (بل يكفي احتماله) ولذا لا يجوز لنا ان نستند (بفعله صلى الله عليه واله وسلم) على جواز ذلك لنا أيضاً بان نحرِّم على من دخل في الإسلام توّاً الخمر تدريجاً! أو نوجب عليه الواجبات على امتداد السنين! فنوجب عليه الصلاة أولاً ثم بعد سنين نوجب عليه الصوم وهكذا!!
مثال: كسر النبي صلى الله عليه واله وسلم للأصنام؟
مثال آخر: النبي الأعظم صلى الله عليه واله وسلم كَسَر الاصنام، فهل يصح الاستدلال بفعله هذا على جواز أو وجوب ان نكسر الأصنام أيضاً؟ كلا إلا إذا قام دليل لفظي على تعميم الحكم، اما فعله صلى الله عليه واله وسلم بمجرده فلأنه لم تحرز جهته (وانه كان لأن المرحلة تأسيسية فلا بد من ان يقوم بذلك كي يلقي الدين بِجِرانه ويستحكم التوحيد في بلاده أو انه كان شعبةً من شعب مقام نبوته أو مقام ولايته، حتى إذا تمّ التأسيس وشُيِّدت دعائم الدين كان المرجع قاعدة الإمضاء ((يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ))(33) وقاعدة الإلزام ((أَلْزِمُوهُمْ بِمَا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ))(34) مثلاً.
فإذا لم يجز التأسي حتى بكسره صلى الله عليه واله وسلم الأصنام إلا بعد إحراز الفقيه الجامع للشرائط (وليس العامي كما سبق) لجهة عمله وانطباقها علينا فما بالك بمثل السباب؟
التدريجية طوال 260 سنة
ثم ان المستظهر ان (التدريجية) امتدت على مدى مائتين وستين عاماً أي انها لم تكن مختصة بالنبي صلى الله عليه واله وسلم بل امتدت إلى تمام فترة حضور المعصومين عليهم السلام والدليل على ذلك: ان الكثير من الأحكام والتخصيصات والتقييدات وردت عن الإمامين الباقرين عليهما السلام، وسواء أقلنا بتدرجية (بيان) الأحكام أم بتدرجية (تشريع) مخصصاتها ومقيداتها فان ذلك العمل (البيان أو التشريع التدريجي) مما لا يجوز لنا فعله والتأسي به صلى الله عليه واله وسلم.. ألا ترى اننا لا يجوز لنا ان نحجب عن المسلم أو عمن أسلم المسائل الشرعية؟ وان الواجب ان نفتح له طريق المعرفة بها جميعاً ولو عبر إعطائه الرسالة العملية أو الكتب المصدرية أو شبه ذلك؟ ولا يجوز لنا ان نتذرع بعمل المعصوم عليه السلام وانه كان عملهم على البيان التدريجي للأحكام طوال عشرات السنين فيجوز أو يجب علينا ذلك أيضاً!
تدريجية بيان الأحكام أو تدريجية تشريعها؟
تنبيه: المشهور تدريجية بيان الأحكام لا تدريجية تشريعها ونزولها، أي ان النبي صلى الله عليه واله وسلم أودع كل التشريعات لديهم عليهم السلام فذكروها بالتدريج، لا انهم شرّعوا تلك الأحكام بتفويض من الله تعالى أو من النبي صلى الله عليه واله وسلم لهم بعد ان حدد لهم الأسس والقواعد، وقد أوضحنا ذلك في كتاب (المعاريض والتورية) فراجع.
ولا يتوهم من القول الآخر (الذي يذهب لتشريع الأحكام) ان القائل به يقول بكونهم أنبياء، كلا وألف كلا، بل يقول بان النبي صلى الله عليه واله وسلم منحهم كافة العلوم الدخيلة في معرفة ملاكات الأحكام الشرعية بنحو العلة التامة فكان لهم الإيجاب والتحريم على طبقها، ويقرّب ذلك إلى الذهن ما يفعله علماء السنة من القياس والاستحسان وسدّ الذرائع.. لكن الفرق ان قياسهم واستحسانهم ظني من غير معرفة بكافة ملاكات الأحكام ومزاحماتها وموانعها وآثارها الحالية والمستقبلية، بينما الأئمة عليهم السلام يفعلون ما يتوهم انه شِبه ذلك عن معرفة بكافة الملاكات إذ ((أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا))(35) فإذا جاز لعلمائهم ذلك وهم أدنى منزلة دون شك حتى لديهم من الإمام الصادق عليه السلام مثلاً فكيف لا يجوز للإمام الصادق عليه السلام ذلك؟
التأسي بفعل المعصوم بعد إحراز عشر جهات(36)
وصفوة القول: ان على من يستند إلى صدور السباب من المعصومين عليهم السلام إحراز عشر جهات مَضَت ستة منها، وستأتي بقية أخرى، فان أحرزها كلها عمّ ذلك إلينا وصحّ الاحتجاج بفعلهم على جواز أو وجوب السباب لنا أيضاً وإن لم تحرز حتى جهة واحدة لما عمّ ولما جاز.
بل نقول: انه إن شككنا فان الأصل هو الحرمة: توضيحه: ان الأصل الأولي العام، وكما سبق، هو حرمة سبّ الآخرين وقد خرج منه ما أُحرِزت جهاته العشر فإن شككنا في جهة فان الأصل العام (وهو الحرمة) هو المحكم.
وذلك يجري في المقام، فانه إذا أحرز ان هذا الشخص من أهل الريب والبدع عمّه الحديث السابق، ولو شك فيه فان التمسك بالرواية حينئذٍ لتعميم جواز السب أو وجوبه لهذا المورد والشخص يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. فتدبر. وللحديث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق