ليست العلمانية من المقولات والمفاهيم البسيطة التي يمكن مناقشتها دون النظر العلمي إلى عامل التاريخ، الدين، الاجتماع الثقافي والسياسي والقومي المفرز لها، فالتعدد الواقع في علة الوجود، يجعل دائرة التناول المتمركزة حول السبب الواحد تبسيطاً لا يؤدي إلى أية غاية علمية مهما وفّرت لصاحبها من ارتياح نفسي...
بقلم: خالد ياموت
يواجه الفكر العربي الإسلامي المعاصر في تناوله لمسألة العلمانية إشكالاً نظرياً عويصاً، يمكن تلخيص مضمونه في السؤال التالي: كيف ننطلق من مقدمات معرفية مختلفة للوصول إلى مرجعية معرفية موحدة؟
ليست العلمانية من المقولات والمفاهيم البسيطة التي يمكن مناقشتها دون النظر العلمي إلى عامل التاريخ، الدين، الاجتماع الثقافي والسياسي والقومي المفرز لها، فالتعدد الواقع في علة الوجود، يجعل دائرة التناول المتمركزة حول السبب الواحد تبسيطاً لا يؤدي إلى أية غاية علمية مهما وفّرت لصاحبها من ارتياح نفسي. يتحتم علينا منهجياً ألّا نطلق أحكاماً جاهزة حول هذه القضية المركبة، لذلك سننطلق نظرياً من فرضية علمية، تؤكد أن تناول مسألة العلمانية ونقيضها، إنما ينبثق من البناء المعرفي الهوياتي الذي تنسجه العوامل المتعددة المشار إليها سلفاً. إضافة إلى هذا الجانب المعياري سنتابع إنجاز العلمانية في الواقع وتنظيرات علم الاجتماع الغربي حول هذه المسألة، لنتناول في الأخير المأزق المعاصر للعلمانية، وظهور تيار ما بعد العلمانية.
العلمانية: التاريخ ومنهج طرح القضية
لمعالجة مفهوم العلمانية معالجة جدية سنعتمد التعريف المعرفي للمصطلح بمعناه العريض، والذي يعني الكلي والنهائي، المقابل للجزئي. هذا البناء التصوري ميزة تنفرد بها الرؤية المعرفية/ الإبستيمولوجية، خاصة وأنها تعني توضيح المقولات القبلية في الفكر الإنساني(1)، مما يعني وجود قاعدة خلفية قيمية لجميع الأفكار، "ومن ثم فإن هنالك بعداً معرفياً كلياً ونهائياً في أي خطاب تحليلي، مهما بلغ من الحيادية والتجريدية والسطحية والمباشرة"(2).
إن دراسة العلمانية تنطلق من هذه الرؤية، لذا فهي تحتاج إلى نموذج تفسيري جديد، يتجاوز النظرة الضيقة المعرِّفة لها بأنها فصل للدين عن الدولة.
من أجل ضبط المصطلح لا بد من رده إلى أصله اللغوي، مع استحضار مستمر لعلاقته (بعائلة) من الكلمات تشترك معه في الجذر نفسه، وأكثرها أنتج في نفس فترة ظهور مصطلح العلمانية.
ومن منطلق علم تاريخ الأفكار، فإن العلمانية (secularism) مشتقة من الكلمة اللاتينية (Seculum) التي تعني عصر أو جيل، لتتخذ مع القرون الوسطى معنى هو (العالم) أو الدنيا (في مقابل الكنيسة). وظل هذا المعنى في حياد تام في البداية، حيث قصد بعلمنة ممتلكات الكنيسة، نقلها إلى سلطة غير دينية - سياسية - أي الدولة.
في فرنسا خلال القرن الثامن عشر، اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية العلمانية، مصادرة غير شرعية لممتلكاتها، أما وجهة نظر فلاسفة التنوير الممزوجة بالمادية والإلحاد فقد اعتبروا نزع الملكية أمراً شرعياً. وبعد الثورة الفرنسية "نحت العلمانية الغربية منحى وسطياً يختلف بوضوح عن الاتجاه اللاديني ويدافع عن التسامح الديني، ولا تقوم العلمانية بهذا المعنى المعاصر على الفصل بين الدين والدولة كما هو شائع لدينا، وإنما على الفصل بين الكنيسة ونظام الحكم"(3).
لقد خاضت العلمانية كحركة سياسية، معركة تحرير العقل الغربي من هيمنة اللاهوت والميتافيزيقية، والعزوف عن معالجة الأمور الدنيوية بالعقل والتجربة، فانعكس التطور الفكري الداعي إلى إشاعة العلم وإخراجه من يد الكنيسة وتحكمية رجال الدين، فظهرت المؤسسات الخاصة، وتمأسست قطاعات اقتصادية مهمة تشكل عصب المجتمع، فراعت العلمانية نفسها الشروط السوسيو-سياسية التي تطورت فيها، فحدث نوع من التوافق والمساومة بين الدولة الحديثة، والمعاصرة، مع المركزية الدينية المتمثلة في الكنيسة.
فتمتعت الدولة بالهيمنة على الدنيوي (أزعم أن العلمانية هي سيطرة الدولة على الدين وليس فصل الواحد عن الآخر)، تاركة للكنيسة، والمؤسسات الدينية، إمكانيات واسعة للاشتغال داخل المجتمع، وفي نشاطها التبشيري الخارجي، دون أن يحدث هنالك أي تعارض مع الحريات التي رسخها التطور الديموقراطي الغربي(4).
على المستوى اللغوي انتقلت الكلمة الفرنسية (لائيك/laïque)، التي تعني، خاص بجمهور المؤمنين المشكلين لطبقة متميزة إلى اللغة الإنجليزية. أما laïcisme فتعنى نظام سياسي يقصي نظام الكهنوتية عن الدولة. أما فعل laïcize فيعني نزع الصبغة الكهنوتية عن القانون، والتعليم خاصة. فيما تعني laïcization نقل وظائف رجال الدين إلى رجال لهم تدريب، وتكوين دنيوي لا علاقة له بالدين...(5)
وعلى هذا النحو تطورت العلمانية الفرنسية المؤسسة على تعليم علماني، وبخصوصية بالغة ضمنت بقاءها وبقاء الثقافة السياسية لرجال الثورة، الشيء الذي يفسر اصطدامها المتكرر مع الدين إلى اليوم.
الأنساق التصورية للعلمانية
إن الخطوات المنهجية الموصلة لإدراك مفهوم العلمانية لا يقتضي استحضار علم تاريخ الأفكار، والمدلول اللغوي المتطور للمصطلح فحسب، بل إن فهم معنى العلمانية يتوقف على فهم تلك العلاقة القائمة في المجالات الدلالية لفعل Secular المتداخلة مع أفعال أخرى.
وبناء على (الموسوعة البريطانية)، فإن هنالك عائلة من الأفعال في اللغتين الفرنسية والإنجليزية تبدأ بالمقطع de، وهذه الأفعال تصف التحديث العلماني. أول هذه الأفعال التي يتطرق إليه مؤلف مدخل التحديث في الموسوعة هو فعل deconstruct(6).
أما فعل demystify، ويقصد به نزع السر عن الظواهر. فهو حسب المسيري "أن يقوم الإنسان بتفكيك الظواهر الإنسانية وردها إلى قوانين الحركة المادية العامة... وبذلك يتضح أن الإنسان إن هو إلا كائن طبيعي/ مادي"، وهذا التحوير المادي للإنسان يرفع عن داخله ما يحتويه من أسرار وغيب، ويلغي الجانب المحيط بالإنسان، ويجعل من هذا الأخير مركز الكون(7)، فيغيب الإله ويتأله الإنسان. ومن الأفعال القريبة إلى هذا المعنى فعل desunk (كشف حقيقة الأسطورة)، أي ما يشير عادة إلى تلك العملية الهادفة إلى تحطيم المثاليات والأحلام... النبيلة التي قد يشعر بها الإنسان، والغاية من كشف حقيقة الأسطورة(8)، هو ترك الإنسان يكتشف حقيقة دوافعه المادية.
أما يعري ويكشف.. الذي يعبر عنه فعل denude، فيستهدف إيصال الإنسان إلى حقيقة باعتباره كائناً مادياً طبيعياً لا يختلف عن غيره من الكائنات الطبيعية، فهو خاضع للقانون الطبيعي، وليس له مجاله الخاص، وفكرة مركزية الإنسان هي محط افتراء ووهم لا أقل ولا أكثر(9)، حيث استندت إلى الزيادة الإنتاجية دون الاعتبار بالقيم الإنسانية، فأصبح المعيار المادي هو المركز والمطلق الذي به توزن جوانب الحياة العامة، لتصبح المرجعية العليا هي المادية المطلقة(10). وحين تصل إلى هذا المستوى ترفع أو بالأحرى تلغى جميع المحرمات، والحدود الموضوعة أمام السلوكات الإنسانية، أخلاقية كانت أم إنسانية، فنزع القداسة في هذه الحالة تصبح متتالية تتحقق تدريجياً، فتفرض الواحدية المادية على الكون ويُسرَّى قانون واحد على كل الأشياء، فتظهر الإمبريالية كنزعة للغزو، ويتحول العالم إلى مادة نافعة يجب توظيفها لحساب الإنسان الذي ينظر بدوره إلى المعرفة كأداة لزيادة عنصر التحكم(11).
أما (dehumanization) "فتعني إنكار وقمع تلك الصفات والأفكار والنشاطات التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، ومنع تحقيق الإمكانيات الإنسانية للإنسان (في مقابل خصائصه الطبيعية المادية التي يشترك فيها مع غيره من الكائنات)"(12) وهو ما يعني في النهاية طمس إنسانية الإنسان ومركزته مادياً، وإفقاده القدرة على تجاوز الحتميات الطبيعية. وهذا النمط من التفكير نجد له تعبيرات معاصرة مثل حتمية قانون السوق... حيث يصبح هذا الأخير يتحكم في السلوك الإنساني، وإن اقتضى قانونه تجاوز الأخلاق وما هو إنساني فإن ذلك يصبح مشروعاً.. وينتهي الأمر بإنكار الحرية عن الإنسان، لأن نظام الفصل هذا لا يعني فصل الدين عن السياسة، أو الدولة أو الاقتصاد... بل فصل الخصائص الإنسانية عن السلوك والشعور الإنساني، وهي صيغة وصلت إليها العلمانية خلال القرن العشرين.
من الأفعال ذات الصلة بالتحديث المعلمن فعل decenter(13)، الذي يقصد به إزاحة الإنسان عن المركز، وتعويضه -أي الإنسان- بأي شيء آخر، وتنتهي عملية التنحية هنا بأن يصبح كل شيء هو مركز الكون، وانتشر هذا التصور المعلن لموت الإنسان كنتيجة حتمية لإعلان موت الإله (عند نتشه)، وهذه الرؤية العلمانية "تنكر وجود أي مركز وتنفي أي إطار مرجعي" وتعلن ميلاد الحرية التامة، والخضوع التام لقانون الصدفة، ونظام فلسفي خالٍ تماماً من الفلسفة، والإنسانية، والمطلق(14).
وبما أن العلمانية عملية تفكيكية خضع لها التصور الإنساني فإن إسقاط السمات الشخصية التي يعبر عنها فعل depersonalize يمثل اتجاهاً واضحاً في العالم الحديث، وقد حقق ويحقق نسباً عالية من التنميط، ويغير الخصائص الفردية الحسية والمادية والسلوكية للإنسان، لتخضع لقالب واحد تندثر من خلاله فكرة الفردية لأنه ليس هناك ما يميز الفرد كفرد متفرد(15).
ورغم دقة هذه المصطلحات، فقد اعتمدت على تقديم زاوية واحدة من ظاهرة العلمنة الواقعة اجتماعياً، لذلك فظهور عدد كبير من المصطلحات يشير إلى جانب من جوانب الحداثة العلمانية، الذي نجم عنه في النهاية بناء تصور شامل للحياة يتبنى الرؤية المادية، وعرف تطبيقاته الأولى مع النجاح السياسي للعلمانية.
العلمانية عودة أخرى إلى المفهوم وإشكالاته
بعد هذا التناول الأولي للعلمانية، سنحاول تقديم وجهة نظر أكثر تفسيرية على الشكل التالي: العلمانية ما هي؟ علاقتها بالمقدس والترشيد، ثم سنتحدث عن العلمانية بنوعيها العلمانية الجزئية والشاملة، لنختم بمأزق العلمانية المعاصرة أو ما يطلق عليه بما بعد العلمانية الذي سكه جون كين.
يرى المفكر الإسلامي عبد الوهاب المسيري أن العلمانية اتجهت نحو مزيد من التركيب والإبهام مع التعريف الذي جاء به جون هوليوك الذي عرفها بأنها "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض"(16). والملاحظ على هذا التعريف انطلاقه من مرجعية مادية واضحة، فالحديث عن إصلاح حال الإنسان لا يتم إلا وفق رؤية للعالم تتحدد معالمها وفق مرجعية معينة، وأن هذا يفترض وجود نموذج متكامل ورؤية شاملة للكون، وهو ما تمثله العلمانية. ومن ثم "ألا يعني تبني الطرق المادية تبنياً للرؤية المادية للإنسان"، وهل من الممكن "إصلاحه" بالطرق المادية. "ألا يعني هذا رفضاً كاملاً للإيمان، وليس مجرد عدم التصدي له كما يدعي هوليوك؟"(17).
بالنسبة للمسيري فالقضية تتجاوز قطاع من قطاعات الحياة، ومن غير العلمية الحديث عن الدائرة الصغيرة -فصل الدين عن الدولة-، دون استحضار الرؤية الكاملة الكامنة في التصور العلماني، إن الأمر كما وقع في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر، لا يتعلق بفصل الدين عن الدولة بل يتعلق أساساً بالمرجعية، ومن شأن إعمال المنهج التجزيئي المس بالرؤية العلمية لعلاقة السياسي بالديني.
السؤال المركزي الذي يمكن وضعه في ظل الحديث عن العلمانية، هو لمن المرجعية العليا، للدين أو الدنيا أو هما معاً؟ إن فكرة الجوهر -المرجعية-، هي الركيزة الثابتة في كل خطاب بما هي رؤية للعالم في أعلى مستويات التجريد، ويمكن الحديث عن مرجعيتين في هذا الإطار: الأولى تؤمن بوجود الإله وما فوق المادة، وبالتالي فهي مرجعية نهائية متجاوزة، وأخرى تحتكم إلى المادة وهي بذلك مرجعية كامنة، لأنها ترتكز إلى نقطة داخل العالم المكتفي بذاته(18).
فإذا انتقلنا إلى تعريف العلمانية، فإن أول ما نلاحظه هو "أن القاسم المشترك في كل المفردات في جميع المعاجم يجعل الأمر الذي يوصف بأنه (علماني) يرتبط بشكل أو بآخر بهذه الدنيا وهذا الزمان، الآن وهنا، ولا يشغل باله بأي أبعاد أخرى ولو لم ينكرها"(19).
حسب معجم أكسفورد فالمباني العلمانية (على سبيل المثال)، هي المباني المكرسة للأغراض الدنيوية، والمدرسة العلمانية: "هي تلك التي تعطي تعليماً غير ديني"، والواضح أن العلمانية تحمل هنا مدلولاً سلبياً، فهي تعني "غير كهنوتي"، و "غير مقدس" وليس بالضرورة معادياً للدين أو المقدس. إذن هذا التعريف يلزم الصمت تجاه الدائرة الكلية الشاملة -فصل الدين عن الحياة-، ويحصر نفسه في الدائرة الجزئية الصغيرة، التي تنظر إلى علاقة الدين بالسياسة فقط(20).
إلا أن المتاعب النظرية تلاحق هذا التعريف، لأن العلمانية ليست غير دينية وحسب، بل تعني بالضرورة ما ينتمي للآن وهنا، وهذا الزمان والمكان، وهذا ما يؤكده معنى كلمة (Sécularison) الإنجليزية، والتي تعني العصر أو الجيل أو الدنيا...(21) مما يجعل معناها أكثر اتساعاً في نطاقه ويوصله إلى الدائرة الشاملة الممتلكة لرؤية شاملة للكون، وما يتفرع عنه من تصورات معرفية وقيمية. فـ"العلمانية تعرف باعتبارها العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لابد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة [الدنيا] وتستبعد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى [ الآخرة]"(22).
ويمكن القول حسب رؤية معجم أكسفورد: إن الدين، والبعد الديني، لا يتمتع بالوجود الحقيقي، لأنه لا يقدم رؤية شاملة للكون، ولا يمثل المرجعية العليا والنهائية، كما أنه غير قادر على حل مشاكل الدنيا، ومن ثمة فالمادة هي المرجعية الأصلية، والقول بالعلمانية يتضمن استبعاد الدين في المرحلة الأولى، وإنهاءه في المرحلة التالية، ولكن كيف يمكن القضاء على الدين؟ من الواضح أن المعجم لا يقول ذلك بصراحة لكن الأكيد أن استبعاد التصورات الدينية يجعلنا أمام سيادة تصورات هذه الدنيا -(العصر) أي العلمانية- لوحدها(23).
من الزاوية السوسيولوجية يقدم معجم علم الاجتماع المعاصر ثلاثة مواد لتوضيح مصطلح العلمانية: فهي (علماني secular) و (علمنة secularization) و (مجتمع علماني Secular society)، وكلمة علماني في واقع الأمر (لا علاقة له بالدين non- religions)(24).
ويستمر المعجم في الحديث عن العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة، حيث يذهب (ج.م G.M. yinger) أن هذه الكلمة تشير إلى تلك "الاعتقادات والممارسات التي لا علاقة لها بالجوانب غير النهائية للحياة الإنسانية"، هذا التعريف لا يمتد إلى المنظومة المعرفية ولا يجعل الإيمان العلماني بقوة الإيمان الديني(25). غير أن المعجم يبين فيما بعد أن العلماني هو "العقلاني أو النفعي بشكل خالص أساسي"، ثم يضيف إلى هذا التعريف الغامض والهلامي تعريفاً آخر، يجعل من العلمانية منظومة متكاملة تحتوي على الميتافيزيقيا، "مما يعني أن قضية فصل الدين عن الدولة هنا هامشية، بل فرع تابع لمنظومة تأسيسية قاعدية وأصلية، ناظمة لشؤون الحياة، وهو ما يظهره بجلاء معجم علم الاجتماع المعاصر حينما يورد في مقال (للأري شاينر) مفاهيم للعلمانية كلها تتحدث عن المرجعية النهائية، فهي تنطلق من كون العلمانية هي: انحسار الدين وتراجعه، لكن سرعان ما ينتقل صاحب المقال المعنون (بمفهوم العلمنة في البحوث التجريبية) إلى الحديث عن الفصل بين المجتمع الدين"(26).
ثم يعود ليخلط الفصل بين الدولة والدين والمجتمع بقوله بالتركيز على الحياة المادية بل التطلع إلى مستقبل روحي، وهي دعوة تخلق تقابلاً حتمياً بين الحياة المادية وما هو روحي. بمعنى آخر، فإن المجال السياسي والاقتصادي يخضع للتحكم المادي ولا يترك تدبيره للنزعة الروحية. في المرحلة الثانية يذهب المعجم في منهجه (التحكمي والتسلطي)، إلى القول باضطلاع منظمات غير دينية بالوظائف الدينية، مما يجعل التنظيم الديني، ومأسسة شؤونه، في حياد تام مع السياسة أمراً مستحيل الوقوع(27)، فهذا الوضوح في الرؤية للمفهوم جعلت من المعجم يتحدث عن اختفاء فكرة المقدس، بمعنى حلول التفسيرات العقلية محل التفسيرات الدينية في كل شيء. هذا وكأن العقل قادر على كشف أغوار جميع الظواهر المادية، وتحديد كل ما ينفع البشر في حياتهم الدنيوية. في المرحلة الأخيرة يقول المعجم (بالنظرية الإحلالية) فيرى أن العلمانية تعني إحلال المجتمع العلماني محل المجتمع المقدس(28).
إن ما يقدمه المعجم هنا لا يتعلق بالمجالات الضيقة كالسياسة والاقتصاد، بل تعبير عن إجابة كلية، ترتكز إلى فلسفة العلمانية التي هي نفسها الميتافيزيقيا، ولا تعترف بالدين، إلا الذي تنتجه هي من تصوراتها المادية، وعبرت عنه الفلسفة الغربية الحديثة بالدين الطبيعي.
العلمانية فلسفياً
من الزاوية الفلسفية، هناك ثلاثة فلاسفة يعتبرون ثلاثي المتتالية العلمانية المتعينة، أبدعوا في البناء الفكري العلماني الغربي، فاسبينوزا انتهى إلى تحويل "العالم إلى منظومة واحدية [لا تقبل التماثل] رياضية مصمتة، الله فيها هو الطبيعة، والإنسان فيها لا يختلف عن أي شيء في الكون"(29)، إننا بالتالي في ظل حلولية كمونية واحدية اختصرها اسبينوزا في عبارته "الإله أي الطبيعة"(30) مع الفلسفة النتشوية تطورت فكرة الإله لتنغمس كلية في عالم الموت، فالعالم الذي يكون فيه الإله قانوناً طبيعياً ثابتاً هو عالم موت الإله، فأعلن بذلك نهاية الثنائية -الطبيعة والإله-، ويصل بالنسق الفلسفي العلماني إلى الواحدية الكاملة المؤمنة بعالم لا ضمان فيه لأي شيء، و "خال من المعنى لا قيمة فيه ولا غاية، لا كلية فيه ولا مطلقات"(31)، والإله محض مادة، وهذه الأخيرة سائلة لا قانون يحكمها غير القوة، ولا وجود إلا للأجزاء "فيموت الإله وتسقط فكرة الكل ذاتها"(32). وإذا تجاوزنا البعد الإلحادي لعبارة نتشه الشهيرة "لقد مات الإله" ونظرنا إلى تضميناتها المعرفية الخاصة، فإن واقع الأمر يجعلها تعني ما يلي:
1- نهاية فكرة الإله المتجاوز والمفارق للمادة: المجاور للطبيعة والتاريخ، الذي يمنح الكون تماسكاً وهدفاً نهائياً، أي نهاية فكرة المركز الكائن خارج المادة، فهي حلولية كمونية كاملة.
2- إنكار وجود أي حقيقة ثابتة متجاوزة لعالم التجربة المادية المباشرة وعالم الصيرورة.
3- كل هذا يعني إنكار فكرة الكل ذاتها، باعتباره كياناً متماسكاً يعلو على الأشياء، أي إنكار فكرة المركز الكامن في المادة.
4- العالم إذن أجزاء لا تشكل كلًّا ولا مركز لها.
5- كل هذا يعني إنكار فكرة العام والعالمي والإنساني بشكل عام.
6- كل هذا يعني نهاية الميتافيزيقيا، بل ونهاية فكرة الحقيقة، فالقضاء على بقايا الميتافيزيقيا المتمثلة في الحديث عن الكل المتجاوز أدى إلى القضاء على الحقيقة(33).
ويتضح (معمار) الفكر الواحدي المادي المعلن للعلمانية أكثر عند جاك دريدا، فإذا كان نتشه أعلن موت الإله، فإن دريدا يعلن موت كل الأنظمة باستثناء نظام الفوضى وغياب المركز، الشيء الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى اختفاء الإنسان(34). فالمنظومة التفكيكية التي أعلنها دريدا لم تترك جانباً من جوانب الحياة فارتقت إلى عقيدة شعائر ونسق على المستوى النظري على الأقل.
في المرحلة التاريخية الموالية لهذا الفكر الفلسفي، ظهر ماكس فيبر كعميد وقائد للمدرسة السوسيولوجية الغربية، فأعاد إلى الواجهة السياسية إشكالية الديني والسياسي، غير أن فيبر رأى أن الفكرة الدينية هامشية وأن المرجعية العليا وضعية، وجاء بمفهوم الترشيد (rationalization) ليعني به العلمنة(35).
وترجع أصول كلمة الترشيد إلى العبارة الألمانية (wertrationelle) التي يمكن ترجمتها بـ(رشيد في علاقته بالقيم) وهو يعادل (تقريباً) (الترشيد التقليدي)، ويعني أن المرء لا يتعامل مع الواقع بشكل ارتجالي أو جزئي، بل بمنهج متكامل بنسق يحمل مجموعة من القيم الأخلاقية المطلقة (القيم الأخلاقية المقصودة هنا معلمنة). وكلمة مطلق عند فيبر في واقع الأمر تعني أن هناك مرجعية نهائية تعرّف الترشيد المادي بأنه تزايد الضبط المنهجي على كل مجالات الحياة مما يستوجب التحرر من القيم (وهو ما يعني انتفاء العامل الأخلاقي)، وهذا يقوم على تصورات عملية وقواعد ومبادئ عامة، هي نفسها تقوم على استبعاد الولاءات التقليدية والحماس الكاريزمي، والوسائل السحرية، والمرجعيات المتجاوزة لعالم الحواس والمادة (وهنا تختفي بالضرورة فكرة الإله، والميتافيزيقيا الدينية)... فنصل إلى إدراك الإنسان كون العالم يتحرك وفقاً لقوانين عقلانية مادية قابلة للاكتشاف، أي كامنة فيه، (وهذا يعني التمركز حول المادة حتى تصبح هي الميتافيزيقا الجديدة)، وبالتالي يعتبر القوى الأخرى [الدين] غامضة غير محسوبة مستعصية على الفهم(36).
يذهب ماكس فيبر أن هناك خصوصية للحضارة الغربية تجعلها تتجه نحو الترشيد، الذي وصفه بأنه نزع السحر عن العالم. إن هذه المنظومة الفكرية تخلق مجتمعاً متطوراً رشيداً مهدداً بالقيود قال عنه فيبر: "لا أحد يعرف من سيعيش في هذا القفص في المستقبل لعله في نهاية هذا التطور الرهيب سيظهر أنبياء جدد تماماً"، يضيف فيبر عن حالة التحكم في المجتمع أنه سيسود فيه "متخصصون لا روح لهم، حسيون لا قلب لهم. وهذا اللاشيء سيتصور أنه وصل إلى مستوى من الحضارة لم يصل إليه أحد من قبل"(37) وتحدث هذه العملية من جراء الترشيد الداخلي حيث ينظر الإنسان إلى ذاته بمنظور الدولة له، "وبالطريقة التي ينظر إليه بها العالم الطبيعي لا باعتباره إنساناً مركزياً (ربانياً)، وإنما باعتباره مادة طبيعية توظف، وكياناً قابلاً لعملية البرمجة والتنميط التي خضعت لها البيئة الاجتماعية وأعضاء المجتمع، وذلك حتى يتفق كل شيء ومصلحة المجتمع، ويتسق والنموذج الواحدي المادي والقيم العلمية الرشيدة الصارمة والمرجعية المادية"(38).
لقد وصف فيبر الترشيد بأنه "تحويل العالم بأسره (الإنسان والطبيعة إلى حالة مصنع)، أي تحويل العالم إلى نسق آلي منظم، يتم استخدام كل شيء فيه بكفاءة عالية، خاضعة للحسابات الكمية"(39) وعملية الترشيد أو ما يطلق عليه المسيري التطبيع تجعل من كل شيء دائر في إطار الطبيعة لا يخرج عنها مطلقاً، وبما أن العلمانية عملية بنيوية تحققت بظهور الدولة العلمانية القومية، فإن جميع الأنساق المؤثرة في بنية الدولة تمت علمنتها في إطار ما يطلق عليه المسيري -دائماً- بالثورة العلمانية الكبرى.
فعلى المستوى الديني، تعمل عملية الترشيد، والتطبيع، والتحديث، على تغيير بنيته الداخلية فيصبح:
1- النسق الديني منسحباً من العالم الخارجي، ويصبح مسألة خاصة بالضمير بين الإنسان وربه، بمعنى أنه مقطوع الصلة بالأنساق الاجتماعية، أو الفكرية أو السلوك الإنساني، ليشبه الانتماء الديني الانتماء إلى نادٍ للعب الشطرنج بتعبير المفكر الفرنسي ماكسيم رودنسون.
2- ابتعاد الإيمان الديني أمام تعرضه لموجة العلمنة على الله -الخالق-، وعادة ما يأخذ هذا الشكل من التعلمن صفة الإصلاح الديني فتعاد صياغة النسق الديني بحيث يتم الادعاء، أن الوصول إلى فكرة الله تحل من خلال دراسة الطبيعة وقوانينها دون حاجة لوحي.
3- تحول المؤسسات الدينية في المجتمع إلى مجرد جماعات ضغط.
4- يصبح التفكير الديني الذي تمت علمنته فاقداً للبعد المجازي المركب، ويصبح أحادياً ذا بعد واحد تماماً مثل العقيدة العلمانية المتمركزة حول المادة.
5- تفقد الشعائر الدينية معناها الخارجي، ولا تعبر عن طاعة المخلوق للخالق وابتغاء مرضاته، "وإنما النجاح في الدنيا مع استخدام الديباجات الدينية"(40).
وهذا لا يعني أن عملية العلمنة لا تمس إلا الجانب الديني، بل كل جوانب الحياة حتى الأحلام والجنس الذي يمكن اعتباره نموذجاً للتفسير، بل إن هذا الموضوع يعطينا مفتاحاً لفهم آليات العلمنة، التي فصلت بشكل غريب هذه الفطرة الإنسانية إلى قطاعات مستقلة الواحدة عن الأخرى، بحيث أصبح الجنس نشاطاً لا علاقة له بالإنجاب ولا الحب، مما يفقد القطاعات بعدها الباطني، وتصبح نشاطات برانية(41)، ويصل الأمر إلى "لا علاقة للمرء بمن يحب".
نحن والعلمانية أو من هنا نعلم
من اللازم اليوم على الفكر العربي الإسلامي الخروج من بوتقة التاريخ الماضي، ومواكبة حركة العلمانية عبر تاريخها الغربي فليست -العلمانية- فصل لقطاع السياسة، أو الاقتصاد... عن الدين، والركون إلى هذا التعريف المتجاوز، البسيط، لم يعد مقبولاً في الفكر العلماني الغربي، سواء في المنظومة العلمانية المعاصرة أو عند تيار ما بعد العلمانية الذي يتزعمه البروفسور جون كين. ولتجاوز مطبات الفكر السياسي العربي الإسلامي المعاصر حيال قضية العلمانية، فإن المسيري يقترح في أطروحته المعرفية الحديث عن علمانيتين(42):
الأولى أطلق عليها اسم العلمانية الجزئية: ويحمل هذا النوع رؤية جزئية إلى الواقع، بحيث لا تصدم الكليات والنهائيات التي يتبناها المجتمع، فهي بذلك لا تعادي الدين بل تقر له بالوجود، وتمنحه حرية الحركة (!) مثله مثل سائر الأفكار والمبادئ، وهي تعني في المدرسة الغربية فصل الدين أي الكنيسة عن الدولة، بحيث تصبح هذه الأخيرة دولة مؤسسات تنتشر فيها جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، بما فيها الدينية، التي تخضع للقانون (الوضعي طبعاً)، وهذا القانون يكون متفقاً عليه وفق الأسس الديموقراطية، التي تعطي حق الاعتراض، والالتزام بقرارات الأغلبية.
فالعلمانية الجزئية لا تمنع التدين، والالتزام بالشعائر الدينية، ولا تسلب المتدين حرية العبادة، أو تأسيس جمعيات أو أحزاب دينية(43)، ولا تتدخل في شؤون الفرد الخاصة، بل تلتزم الصمت حيال كثير من أمور الحياة العامة كذلك. وهو ما يؤكد تركها للحيز الإنساني للإنسان يتحرك فيه إذا شاء ذلك.
والعلمانية الجزئية هنا باختصار كما يعرفها المسيري "هي علمانية تطالب بفصل الدين عن الدولة وحسب، والدين هنا يعني المؤسسة الدينية التي تحتكر لنفسها الكتاب المقدس ومفاتيح الخلاص والجنة"(44).
أما النوع الثاني، أي العلمانية الشاملة: فهي تعبر عن رؤية العالم، بحيث تسعى إلى تنظيم كل مناحي الحياة، لتصل إلى إحساس الفرد الباطني، إنها تعتني بكامل حياته الخاصة والعامة، لتعطي للمجتمع صورتها الواحدية عن الوجود، تصورياً وتصرفياً، فليست القضية عند العلمانية الشاملة فصل للدين عن الدولة أو الكهنوت عن السياسة، بل إحلال نظام، ورؤية تسقط كل المطلقات والغائيات والإنهائيات (وهو ما يؤكد أن هذا النوع من العلمانية مثله مثل الدين الإسلامي فيما يخص الرؤية المتكاملة للحياة)، غير أنها تتناقض مع الإسلام، لأنها تسقط رؤيتها الميتافيزيقية الخاصة على الحياة، وتؤكد على فصل كل القيم الدينية، والأخلاقية والإنسانية... عن العالم.. وتصفي بذلك تركيبة الإنسان، ومقدرته على التجاوز -بتعبير المسيري-، فيختفي الإنسان الفرد، الحر، الواعي، المسؤول أخلاقياً واجتماعياً... وتنزع القداسة عن العالم (الإنسان والطبيعة)، فيسقط في قبضة الصيرورة المادية، ويظهر الإنسان الطبيعي(45)، ومعه الدين العلماني.
هذا الشكل من العلمانية يعتبر عملية إحلالية، تزيل كل شيء: الدين والمقدس، إنسانية الإنسان، مقوماته الأخلاقية، والاجتماعية، وتحشره في كل مادي خالص، ليتحوسل الإنسان (إي يصبح وسيلة)، ويتمركز حول اللذة، والاستهلاك. وبكلمة، يختزل الإنسان وقيمته في الحياة إلى الحيز الطبيعي، حيث يصبح مثله مثل أي موجود طبيعي في السوق مادة استعمالية.
ولا يخفى على كل باحث في هذا الموضوع أن المشاكل الرئيسة التي يعاني منه الفكر السياسي العربي الإسلامي المعاصر، هو معالجته للعلمانية من داخل منظومة الفصل والوصل بين الدولة والدين، مما يختلف مع مسار العلمنة التاريخي، كما لا يراعي الواقع السياسي، والسلوكي المعلمن كما أنتجته التجربة السياسية الغربية الحديثة، والمعاصرة، "ولذلك -يقول المسيري- أقترح أن تناقش مسألة العلمانية لا في إطار فصل الدين عن الدولة وإنما في إطار المرجعية النهائية للدولة"(46).
فالعلمانية الشاملة بالخصوص تفرض هذا النوع من المعالجة للموضوع، ولابد من النظر إلى المرجعية أهي كامنة أم متجاوزة. "فالعلمانية (الشاملة) قد لا تكون إلحادية أو معادية للإنسان على مستوى القول والنموذج المعلن... ولكنها على المستوى النموذجي الفعال، ومستوى المرجعية النهائية، تستبعد الإله، وأية مطلقات من عملية الحصول على المعرفة..."(47)، الشيء الذي يفسر كون العلمانية الشاملة "رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كلي ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة"(48)، بمعنى آخر "هي رؤية للكون شاملة تتخلل كل شيء، وتسم عالمنا الإنساني بميسمها المادي (ولذا أسميها العلمانية المادية أو العدمية) ولا يمكنها أن تتصالح مع الدين أو مع منظومات أخلاقية تتسم بقدر من الثبات، فهي ملتزمة بشيء واحد: قوانين الحركة المادية"(49).
مأزق العلمانية وما بعد العلمانية
رغم فعالية النموذج العلماني على مستوى الواقع الغربي، ومساهمته الكبيرة في إنتاج مجتمع تسود فيه الديموقراطية والحداثة، فإن ذلك لا يعني مطلقاً أن العلمانية مشروع محدد المعالم، بل متتالية اتسعت دائرتها حتى مسَّت كل جوانب الإنسان -في إطار العلمانية الشاملة-، بحيث لم تعد هنالك الحياة الخاصة أو العامة، فاقتحام العلمنة وتحققها التدريجي وتغطيتها لمزيد من المجالات كرس إشكالية المفهوم، و"جعل الدال - العلمانية، قاصراً عن الإحاطة بالمدلول"(50)، من جهة أخرى أدى سيطرة النموذج العلماني الفعال إلى خلخلة المجتمع الغربي، وأصبحت المنظومة المعرفية الواحدية المادية مهيمنة على التفكير، فزادت الجريمة، وانتشر الاستثمار في البشر، وعادت بقوة تجارة الرقيق الأبيض، فأصبح قطاع الدعارة نشاطاً فوق وطني، وفي الوقت نفسه قطاعاً منتجاً ومساهماً في بناء الاقتصاد الوطني، وأصبحت المصلحة العليا للدولة من المنظور العلماني تشرعن تدمير الإنسان (القضية الصومالية.. الأفغانية والعراقية...)، وأصبح النقاش مركّزاً حول المادة، فيما أن التكنولوجيا العسكرية تطورت بطريقة جعلت من أرباح الحرب تتجاوز كلفتها(51)، لذا فشلت محاولات المنظمات الدولية الراعية للسلم العالمي في ردع قوى النموذج العلماني الإمبريالي، وأصبح القانون الدولي آلية من آليات إعاقة تقدم الدول الضعيفة، وربما هذا ما دفع المسيري إلى القول بأن الإمبريالية ليست إلا مجرد إحدى تجليات النموذج الغربي الأخلاقي، والعلماني، والإبستيمولوجي. فالعلمانية هي النظرية الأساس، والإمبريالية هي جانبها التطبيقي الأهم"(52).
هذا الوضع الذي وصلت إليه العلمانية على المستويين الإنساني (القطري) (أي إنجازاتها دخل الدولة بالغرب)، وقبولها بالسيطرة واحتواء الآخر (مع القرن التاسع عشر، واستمرت الإمبريالية مع القرن الواحد والعشرين)(53). جعل كثيراً من المفكرين داخل (الجغرافية الفكرية) الغربية يتحدثون عن مأزق العلمانية، وفشلها في الوصول إلى حياة إنسانية تضمن السعادة البشرية، والحقوق الطبيعية المادية، والروحية المعنوية.
وتعبيراً عن هذا المأزق شهدت مراجعات العلمانية والحداثة داخل المنظومة الغربية أبعاداً يمكن وصف بعضها بالراديكالية، من ذلك ما يذهب إليه إفنج كريستول (Irving Kristol) حيث أكد هذا المثقف اليهودي الأمريكي في كتابه الأخير حول العلمانية بأن العلمنة >رؤية دينية حققت انتصاراً على كل من اليهودية والمسيحية"، ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال تمت علمنة الدين نفسه، وأصبحت العقائد نوع من المهدئات النفسية التي تساعد الإنسان على تجاوز التوترات التي يفرزها عالم العلمانية المادي. من جهة أخرى بدأت تفقد العقلانية العلمانية (مصداقيتها مع التدريج)، وحسب كريستول فإن ذلك يعود لسببين هما:
1- الفلسفة العقلانية العلمانية تزودنا بوصف دقيق للمسلمات المؤسسة لنسق أخلاقي، لكن الإشكالية الكبرى أن الإنسان لا يقبل الأنساق الأخلاقية من منطق مادي -علماني-، بل من منطق إيماني غير عقلي، واستمرار العلمانية في أطروحتها في هذا المجال أوصلنا إلى (البربرية العلمانية).
2- أفرزت العلمانية عالماً لا معنى له، فجاءت الحركة الرومانسية في القرن 19 كرد فعل على هذا اللامعنى، واليوم ما تزال المدرسة التفكيكية ومدرسة ما بعد الحداثة لا يؤمنان بالعقيدة الإنسانية، وكلها مدارس "تشعر بالازدراء تجاه الفكر الإنساني الهيوماني". في ظل هذا الوضع يخلص كريستول إلى أن العلمانية ستتراجع أمام تزايد الانتماء الديني، وستعود المسيحية بقوة في المجتمع الأمريكي(54)، وهو توقع صادق إذا ما نظرنا إلى التوجهات السياسية والدينية للمحافظين الجدد، والسياسة الخارجية الأمريكية المحملة بشحنة دينية مسيحية قوية، والتي تلعب فيها المسيحية الصهيونية دوراً طلائعياً في صناعة القرار السياسي الخارجي منه والداخلي.
أما الباحثة أجنيس هيلر (Agnes Heller) "فتؤكد أن الحضارة الغربية منذ عصر النهضة قد تلاقى فيها مصادر: المصدر الإغريقي والمصدر المسيحي، وأن هذا التلاقي أدى إلى علمنة الحياة اليومية والمساحة الأخلاقية (الدائرة الصغيرة والكبيرة). والعلمنة في تصورها تفكيك العلاقة بين الإيمان، والالتزام، والكنيسة، "أي الدين بحيث لا يعد أحدهما شرطاً للآخر"(55). من جهة أخرى تعقب العلمنة عملية إحلالية، تم بموجبها إحلال أسطورة الأصل الإغريقي محل أسطورة الأصل الديني، وبذلك تهاوى النسق المطلق لصالح السياق الاجتماعي الذي تم تكريس نسبيته ونسبية معاييره.. وبالتدريج تم تكريس الجسد كأساس للوجود والتحقق والمتعة، وأصبحت (الحرية) قيمة أساسية.
في ظل هذا الوضع كان لابد للبحث عن مرجعية مؤطرة لهذا السلوك، بتعبير أجنيس في كتابها رجل النهضة "نشأت الحاجة لإيجاد دافع الآن وهنا وليس مطلقاً/ متجاوزاً، هذا الدافع هو الأنانية أو تحقق الذات"(56).
أما البروفيسور جون كين الذي طالب بإعادة التفكير في العلمانية، فيرى أن العلمنة كامنة في المسيحية، باعتبار أنها عقيدة أدت ما سماه "ماكس فيبر تحرر العالم من الإيمان، وإزالة الإله من حقل المجالات الطبيعية، ومن مختلف مناحي الحياة"(57)، ويرى كين أن العلمانية "لم تفِ بوعودها لا في العالم الأول (حيث تنتشر العنصرية والجريمة والنسبية الفلسفية)، ولا في العالم الثالث (حيث تحالفت العلمانية مع الفاشية والقوى العسكرية والطبقات المستغلة)"(58).
إن ما حققته العلمانية هو تقليص دور الدين ومن ثم إضعافه وهزيمته، وبما أن القضاء على الدين أمر غير ممكن، فإن كين يتحدث بناء على فشل العلمانية، عن (ما بعد العلمانية) لأنها فعلاً في مرحلة الأزمة(59).
من جهة أخرى يرى جون كين بروفيسور السياسة بجامعة وستمنستر أن هناك حدوداً للعلمانية، فبالإضافة إلى أنها تحولت إلى دوغما سياسية، فإنها بالتأكيد "تحمل تناقضات داخلية لا يمكن القفز عنها، رغم أنها تناقضات لا تصل إلى حد إسقاط العلمانية من الداخل"(60).
التناقض الأول: هو دعوة العلمانية إلى حرية الممارسة الدينية، والاجتماع الديني، وهو ما يجعلها في منافسة (شريفة) مع الدين الذي يملك قوة ذاتية توسعية في المجال السياسي، لأنه يحمل في طياته دوراً ما في عالم السياسة.
أما التناقض الثاني: فيتجلى في إيمان العلمانية (بعدم اليقين الوجودي) الذي يحل محل الإيمان الديني، وهذا لا يحقق الإشباع الروحي.
يضيف بروفيسور السياسة تناقضاً داخلياً آخر للعلمانية، حيث يرى ذلك التقارب بينها وبين الديكتاتورية الذي يتم تحت مسميات عديدة، ويتضح ذلك من خلال النموذجين: التركي والفرنسي. ففي تركيا تتحالف العلمانية ضد المد الإسلامي مع العسكر بدعوى حماية الدستور العلماني، أما في فرنسا فالعلمانية تتحالف مع "ممارسات ديكتاتورية مثل منع الحجاب، أو التضييق على المسلمين تحت مسمى الاندماج أو محاربة التعددية الثقافية"(61).
اضف تعليق