"تداخل المخاطر" قد يؤسس لخطوة جديدة من مراحل بناء العلاقات الدولية، وتعاطي الدول فيما بينها في اطار المجتمع الدولي، وفق منظور مختلف كليا عما نشهده اليوم، مقارنة بالعقد القادم من الزمن، ومع ان تداخل المخاطر والتنسيق المشترك بين الدول عسكريا واقتصاديا من اجل دفع التهديدات المشتركة ليس بالأمر الجديد، او المستغرب، سيما وان هناك الكثير من التكتلات والاتفاقيات الموقعة بين عدة دول لمنع أي تهديد يمس مصالحها او الدول الأعضاء المشتركة في هذه الاتفاقات، لكن حتى هذه الاتفاقات والاحلاف العسكرية لم تكن يوما من الأيام واسعة النطاق، بمعنى انها لم تكن عالمية التوجه، حتى وان كانت الدول الراعية لها او المنطوية تحتها دول كبرى، بخلاف ما يجري اليوم ويتم التمهيد له بقوة، فتداخل المخاطر الإرهابية على مستوى العالم، واتساع حجم الرقعة الجغرافية للمعركة، اليوم، قد يؤسس مفهوما جديدا على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، وربما حتى على أساس التعاطي مع الثقافات الأخرى والأديان المختلفة ضمن المجتمع الدولي.
في العقدين ونصف الماضيين نجحت الولايات المتحدة في الاستفادة من تداخل المصالح الاقتصادية لفرض عقوبات اقتصادية عالمية، لإخضاع الدول المخالفة عبر سياسية العزلة الاقتصادية القاسية، وهو ما نجح في العراق، وينجح أيضا في إيران، وحتى روسيا اليوم بعد الازمة الأوكرانية، ويبدو ان سياسية العقوبات الاقتصادية والسياسية أدت الكثير من الفوائد المرجوة منها، فبدلا من استخدام القوة العسكرية التي غالبا ما تتبعها عواقب وخيمة ماديا ومعنويا، حيث كان على الغرب (وبالأخص الولايات المتحدة الامريكية)، سوى تأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد، ولفرض هذه العقوبات ومدى فاعليتها، ينبغي انخراط جميع دول العالم في هذا النظام الاقتصادي المتداخل والمعقد، وهو ما تحول الى واقع حال بعد التطور التقني والصناعي والاقتصادي في او اخر القرن الماضي.
كان لانتشار تنظيم ما يسمى (الدولة الإسلامية/داعش) وتوسعه في العراق وسوريا، إضافة الى تهديده المباشر لمصالح الدول الغربية، السبب المباشر في تداخل المخاطر الأمنية، بعد ان دخل ما يسمى مجاهدو اوربا والغرب كطرف أساسي في التطرف والعمليات الإرهابية، إضافة الى أكثر من 50 جنسية أخرى، وقد انتقلت العديد هذه من العمليات الإرهابية الى داخل هذه الدول الغربية (الولايات المتحدة الامريكية، كندا، بلجيكا، السويد، فرنسا، بريطانيا، استراليا) وان كانت بصورة فردية (الذئاب الجهادية المنفردة)، الا ان التهديد بقيام عمليات كبيرة تستهدف منشئات ومواقع حيوية ارتفع بشكل هدد الأمني القومي لتلك الدول (حيث رفع الكثير منها مستوى التأهب الأمني الى درجات غير مسبوقة)، فيما ارتفع مستوى الخلاف الاجتماعي والعنصري (بين المواطنين الاوربيين من أصول غربية وغيرهم من المهاجرين والمسلمين) كرد فعل على الهجمات الأخيرة التي وقعت في هذه الدول، وبدأت على شكل اعتداءات فردية ضد المسلمين والجوامع، إضافة الى المسيرات المناهضة للمسلمين والتي انطلقت من المانيا.
في احدى اللقاءات التلفزيونية مع وزير الخارجية العراقي الدكتور (إبراهيم الجعفري)، أشار الى ان "تداخل المخاطر" داخل المجتمع الدولي أصبح امرا أكثر فاعلية وتعاطي بين الدول من "تداخل المصالح" بفعل الإرهاب العالمي الذي ولدته قضية داعش والتصدي لها، وأضاف "لم تعد قضية داعش في اي مسرح من المسارح التي ظهرت فيها أمراً محلياً إنما هي أمر تتداخل فيه الإرادات الداخلية والخارجيّة إقليمية ًأو دولية، وكل وحدة يوجد لديها فهم لكيفية التعامل مع هذا، وتحسب حساباته، بالنسبة لنا نحن نبحث عن مشترك سواءً كان بتحقيق المصالح أم مشترك في الخطر الذي يواجـه داعش، ونبني على هذا"، ومن الواضح أيضا، ان من نتائج التداخل في المخاطر الأمنية التي لا تستثني دولة بعينها من العنف والتطرف العالمي، تشكيل "التحالف الدولي" الذي دعت اليه الولايات المتحدة الامريكية ( وانضمت اليه عشرات الدول الغربية، إضافة الى بعض الدول العربية) بعد احداث التاسع من يوليو/حزيران في العراق، وفق استراتيجية الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" والتي طبقت لاحقا (في شهر سبتمبر من العام الماضي)، اثر انهاء الخلاف الداخلي على تشكيل الحكومة العراقية ذات التوجهات الجديدة.
عالميا، أصبح التركيز قويا على العمل المشترك من اجل منع المخاطر التي تتداخل فيما بينها بشكل غير مسبوق، بحيث أصبح التهديد الأمني الذي يعصف بأغلب دول الشرق الأوسط او شمال افريقيا لا يختلف كثيرا عن التهديد الأمني الذي قد يهدد دول الاتحاد الأوربي او الولايات المتحدة او الغرب بصورة عامة، بل في الحقيقية قد يكون انعكاس صريح له، وهذا ما دفع عشرات الدول الغربية للتزاحم في مساعدة العراق بالأسلحة والضربات الجوية والتدريب وتقديم المشورة والنصح العسكري والأمني، كما ان التهديدات الأمنية التي يفرضها تداخل المخاطر هو من يعيد ترتيب العلاقات المتوترة بين العراق ودول الخليج، ربما، الى اجوائها الطبيعية، فحركات الجهاد العالمي او (المد الجهادي)، وخصوصا تنظيم داعش، قامت بخلط الأوراق، واحرجت المجتمعات الغربية ونسيجها الاجتماعي، والغت الحدود الإدارية لطموحاتها التوسعية، وهاجمت الجميع، الامر الذي تطلب التحرك سريعا في مواجهة خطر داهم يهدد المجتمع الدولي ككل، انطلاقا من الشرق الأوسط.
وقد أوضح "جيمس جيفري" (هو زميل زائر في زمالة فيليب سولوندز في معهد واشنطن والسفير الأمريكي السابق في العراق) حول طول امد الحرب مع الإرهاب او داعش تحديدا بالقول "لا يمكن الإجابة على سؤال (كيف سينتهي الأمر؟) بسيناريو وجدول زمني واضحين ولا حاجة إلى الإجابة عليه لتبرير استخدام "المطارق" العسكرية في حالات الطوارئ، ومع ذلك فإن الواقع السياسي ودبلوماسية التحالفات تتطلب إجابةً ما، إن أفضل جواب في الوقت الراهن هو أن برنامجاً -الذي يتم تطبيقه عند الضرورة ما بعد إطار العراق وسوريا وتنظيم (الدولة الإسلامية) ليشمل تحديات أخرى تواجه النظام الدولي- سوف يمدد الوقت المتاح للشرق الأوسط لكي تتوصل المنطقة إلى الحداثة والتغيير الداخلي اللازمان لترسيخ مبدأ الدولة القومية وتوفير مثبطات محلية للعنف والاضطرابات، هذه ليست بصيحة قتال تحث على تحقيق المجد، إنما هي خطوة تتمتع بميزة كونها قليلة للتحقيق".
اضف تعليق