q
يتركز القدر الأعظم من مجرات الكون البالغ عددها 200 مليار مجرة حول ثقوب سوداء هائلة الحجم، قد تصل كتلة أحدها إلى كتلة مليار شمس كشمسنا. وكثير من هذه الثقوب السوداء خامل، إلا أن قليل منها لا يزال آخذ في النمو والاتساع، بابتلاع الغاز من محيطه وإطلاق نفثات قوية من الأشعة...
بقلم: لِيّا ماركوتُلي

يدل إشعاع منبعث من نفثة من الجسيمات فائقة السرعة، أطلقها ثقب أسود عظيم الكتلة أن هذه الجسيمات يتسبب في إسراع اندفاعها موجات صدمية تنتشر على امتداد النفثة، وتكسبها سطوعًا يضاهي 100 مليار شمس.

يتركز القدر الأعظم من مجرات الكون البالغ عددها 200 مليار مجرة حول ثقوب سوداء هائلة الحجم، قد تصل كتلة أحدها إلى كتلة مليار شمس كشمسنا. وكثير من هذه الثقوب السوداء خامل، إلا أن قليل منها لا يزال آخذ في النمو والاتساع، بابتلاع الغاز من محيطه وإطلاق نفثات قوية من الأشعة. ولا يستطيع سوى عدد أقل من هذه الثقوب السوداء النشطة عظيمة الكتلة أن يطلق نفثات قوية من لُبّه. وتتألف هذه النفثات من دفقات فائقة السرعة من الجسيمات التي تسطع بشدة وتستطيع أن تقطع مسافات تصل إلى 100 ضعف عرض المجرة التي أتت منها. فما الذي يحث تلك الجسيمات في المقام الأول على الاندفاع هكذا لتتمكن من بث كل هذه الطاقة؟ يفيد يانيس ليواكِس وفريقه البحثي في بحث نُشر مؤخرًا في دورية Nature، أن هذا الاندفاع يتولد من موجة صدمية تنتج بصورة طبيعية حين يصطدم هذا التيار السريع من الجسيمات الخارجة مع مواد أبطأ حركة تسير باتجاه النفثة.

وتجدر الإشارة إلى أنه في أوائل ستينيات القرن الماضي، اكتشف العلماء فئة جديدة من الأجرام الفلكية، باتت تُعرف بـ«المصادر الراديوية شبيهة النجوم» أو «أشباه النجوم». وكما يوحي الاسم، لاحظت أولى عمليات الرصد أن تلك الأجرام تبدو كنجوم، إلا أنها انتبهت أيضًا إلى سمة غريبة بهذه الأجرام، إذ كانت أشعتها تسطع سطوعًا شديدًا في نطاق الترددات الراديوية، كما أن بعض خيوط طيف انبعاثاتها المرئي بدت غريبة2 وبعيدة كل البعد عن تلك التي تصدر عن أطياف النجوم "العادية". وسرعان ما أدرك العلماء أن تلك المصادر الراديوية لم تكن نجومًا على الإطلاق، وإنما ثقوبًا سوداء عملاقة تقع وسط مجرات تبعد عن الأرض بملايين وربما مليارات الفراسخ الفلكية3.

وبعد عدة عقود، مع تطوُّر علم الفلك الراديوي، وإطلاق أولى الأقمار الصناعية المخصصة لرصد الانبعاثات في نطاق ترددات الأشعة السينية وأشعة جاما، تبيَّن أن هذه الثقوب السوداء قادرة على إطلاق نفثات الطاقة القوية تلك من لُبّها. ويمكن النظر إلى تلك النفثات على أنها أقماع، تتنامى سرعة الجسيمات المشحونة فيها إلى أن تقارب سرعة الضوء، وتطلق كميات هائلة من الطاقة على هيئة إشعاعات. وعندما تتجه تلك النفثات صوب الأرض، يُطلق على شبيه النجم الذي ولدها «نجم زائف متوهج»، ويمكن حينها رصد الضوء المنبعث من النفثات، بجميع الأطوال الموجية الممكنة، بدءًا من الموجات الراديوية وحتى أشعة جاما.

ومنذ أن اكتُشفت هذه الدفقات، انصبت جهود كبيرة على فهم آلية تكوُّنها. وإحدى التقنيات التي يشيع استخدامها لذلك هي تقنية قياس الاستقطاب، وتعتمد على الطبيعة الموجية للضوء. وهي ببسيط العبارة، تقنية تقيس إلى أي مدى تتفق موجات الضوء المنبعثة من مصدر ما في اتجاه ذبذباتها، فإذا كانت ذبذبات الموجات تسلك اتجاهات عشوائية، كما هو الحال في ضوء مصباح كهربي، فإن الضوء لا يكون مستقطبًا. أما إذا اتجهت ذبذبات الموجات كلها في اتجاه معين، فإن الضوء يكون على درجة عالية من الاستقطاب. على سبيل المثال، يُستقطب ضوء شاشة الحاسوب بقوة في اتجاه أفقي. لهذا، لا نستطيع أن نراه عبر بعض النظارات الشمسية المستقطبة للضوء، التي تُصمم بحيث تحجب الذبذبات الأفقية.

ويمكن الوقوف على نوع العملية الفيزيائية التي ينتج عنها سطوع مصدر نجمي فيزيائي معين عن طريق دراسة استقطاب الضوء الصادر منها، فكل عملية مختلفة ينتج عنها مستوى مختلف من الاستقطاب. وأصبحنا بفضل قياسات الاستقطاب4،5 نعي أن الضوء المنبعث من النفثات الصادرة من الثقوب السوداء النشطة عظيمة الكتلة، في كل نطاقات التردد، بدءًا بالترددات الراديوية وحتى ترددات الأشعة السينية، يصدر عن إلكترونات عبر ظاهرة انبعاث تسمى «الإشعاع السنكروتروني». ويتولد هذا الإشعاع حين يتسبب مجال مغناطيسي في انحناء مسار جسيمات مشحونة تتحرك بسرعة مقاربة لسرعة الضوء. إذ تفقد الجسيمات مع انحرافها عن اتجاهها، قدرًا من الطاقة على هيئة ضوء، ويكون ذلك الضوء مستقطبًا.

جمعنا تلك المعارف على مدار عدة عقود، لكن فهمنا للسبب الذي يجعل تلك الجسيمات تُصدر أشعة فور أن تتركز في هيئة نفثات مخروطية ظَل قاصرًا. ومن هنا، احتجنا إلى أداة قادرة على قياس استقطاب الضوء عند ترددات الأشعة السينية. وقد جاء «مرصد تصوير قياس استقطاب الأشعة السينية» Imaging X-ray Polarimetry Explorer، الذي أُطلق في ديسمبر من عام 2021 تحقيقًا لهذه الغاية6. فكان أحد أول ما استهدف رصده نجمًا زائفًا متوهجًا شديد السطوع، أُطلق عليه اسم «ماركاريان 501» Markarian 501، ولا يبعد عن الأرض سوى بـ140 مليون فرسخ فلكي. ويُعد هذا أول نجم زائف متوهج نرصده بعدسات مقياس لاستقطاب الأشعة السينية. وقد كانت نتائج عمليات الرصد التي أفاد بها ليواكِس وفريقه البحثي مبهرة.

أخذ الفريق البحثي قياسَين لاستقطاب الأشعة السينية، وتوصل عبر مقارنتهما مع بيانات قياسات استقطاب الموجات الراديوية والضوء المرئي إلى أن ما حث الجسيمات المتدفقة في المقام الأول على الاندفاع هو موجة صدمية انتشرت في اتجاه خروج الجسيمات (الشكل 1). وتنشأ هذه الموجات الصدمية بصورة طبيعية حين تصطدم الجسيمات التي تتحرك بسرعة تقارب سرعة الضوء بمواد أخرى أبطأ حركة في طريقها7،8. وتفقد الجسيمات التي تتحرك عبر هذه الموجات الصدمية أقصى قدر من الطاقة سريعًا في صورة إشعاع، منتجة أشعة سينية مستقطَبة، ومع ابتعاد الجسيمات عن الموجة الصدمية، ينخفض تدريجيًا تردد الضوء الذي تشعه، ويقل استقطابه.

وتُعد نفثات النجوم الزائفة المتوهجة إحدى أقوى مسرعات الجسيمات في الكون، ويستحيل تخليق الظروف المنتجة لها على الأرض. لذا، هي بمثابة "المختبر" الأمثل لدراسة فيزياء الجسيمات. وقد رصَدْنا إلى الآن آلافًا من النجوم الزائفة المتوهجة، بجميع الأطوال الموجية على اختلافاتها، غير أننا لم نتوصل قبل اليوم إلى آلية توليد هذه الجسيمات وإسراع تدافعها. وبيانات قياس تعدد الأطوال الموجية واستقطاب الضوء التي يوردها ليواكِس وفريقه البحثي تثبت بصورة قاطعة آلية تسارع الجسيمات في النجم الزائف المتوهج «ماركاريان 501»، وهو ما يجعل النتائج التي حصلوا عليها نقطة تحول فارقة في فهمنا للنجوم الزائفة المتوهجة.

وهذه القفزة الهائلة للأمام تجعلنا أقرب لفهم طبيعة منظومات هذه الجسيمات شديدة التسارع، وهي منظومات انصب جام تركيز كثير من الأبحاث على دراستها منذ اكتشافها. وقد صار بمقدورنا أن نتطلع إلى أن تتيح لنا تقنيات قياس استقطاب الأشعة السينية دراسة عدة أنواع من النفثات، لمعرفة إذا ما كانت هذه الموجات الصدمية مشتركة بين جميع مصادر الانبعاثات الموجية الفلكية. ويبقى بعد ذلك أن نستكشف ما إذا كانت الإلكترونات وحدها تنتج كل أنواع الترددات الضوئية التي نرصد انبعاثها من أشباه النجوم الزائفة، وصولًا إلى أشعة جاما الأعلى ترددًا، أم أن جسيمات مشحونة أخرى (البروتونات مثلًا) تنتج ذلك السطوع9. وسيكون حل هذا اللغز بمنزلة محطة بارزة في هذا المجال، ولا شك أن قياس استقطاب الأشعة السينية سيلعب دورًا محوريًا في اكتشافه.

اضف تعليق