عملت المركبة الجوَّالة «بيرسيفيرانس» Perseverance، التابعة لوكالة «ناسا»، على حفر صخور رسوبية وجمع أربع عينات لبية صغيرة منها، ببقعة تشكلت فيها هذه الصخور، واحتضنت فيما مضى بحيرة على سطح المريخ. وتُعد هذه أولى الصخور من هذا النوع، من جملة صخور العوالم الأخرى التي جمعها علماء الفلك...
بقلم: ألكساندرا ويتزي
منذ شهر يوليو الماضي، عملت المركبة الجوَّالة «بيرسيفيرانس» Perseverance، التابعة لوكالة «ناسا»، على حفر صخور رسوبية وجمع أربع عينات لبية صغيرة منها، ببقعة تشكلت فيها هذه الصخور، واحتضنت فيما مضى بحيرة على سطح المريخ. وتُعد هذه أولى الصخور من هذا النوع، من جملة صخور العوالم الأخرى التي جمعها علماء الفلك، الذين تحمسوا لجمعها بالنظر إلى أن اثنتين من عيناتها - على الأقل - يرجح أنهما تحويان مركبات عضوية.
وعلى الأرض، غالبًا ما تُعزى المواد العضوية – وهي تتمثل في أنواع معينة من الجزيئات التي تحتوي على الكربون – إلى كائنات حية، على الرغم من أنها قد تتشكل ضمن عمليات لا تلعب الكائنات الحية دورًا فيها.
ومما عزز الضجة الإعلامية التي ثارت حول هذه العينات اللبية، أن مركبة «بيرسيفيرانس» جمعتها من دلتا قديمة في فوهة «جيزيرو» Jezero على سطح المريخ، حيث ألقى نهر قديم برواسبه، وربما بمواد أخرى، لتشكل طبقات في تلك الفوهة. وتزخر عادةً مناطق دلتا الأنهار على كوكب الأرض بالكائنات الحية. فإذا وُجدت حياة في نقطة ما بتاريخ تلك الفوهة، فلعل الفرصة المثلى لعثور وكالة «ناسا» على أحد أشكال الحياة السابقة على ظهر هذا الكوكب تسنح ممثلة في هذه العينات.
حول ذلك، تقول تانيا بوساك، اختصاصية البيولوجيا الأرضية من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في مدينة كامبريدج الأمريكية، إن جمع هذه العينات اللبية "رائع"، إن آمل العلماء يومًا في سبر ألغاز كتلك.
وفي السنوات القادمة، تعتزم وكالة «ناسا» ووكالة الفضاء الأوروبية، إرسال مركبات فضائية أخرى إلى فوهة «جيزيرو» لالتقاط العينات اللبية التي جمعتها مركبة «بيرسيفيرانس»، والعودة بها إلى الأرض، حيث من المزمع أن يعمد علماء الفلك إلى تحليلها باستخدام تقنيات مختبرية متقدمة. ومن المرتقب أن تغدو هذه العينات لدى وصولها إلى الأرض بعد عام 2033 أول عينات على الإطلاق تعود بها بعثة فضائية من المريخ.
تعقيبًا على ذلك، قالت لوري ليشين، مديرة «مختبر الدفع النفاث» في مدينة باسادينا بولاية كاليفورنيا الأمريكية، في مؤتمر صحفي وجيز عقد في الخامس عشر من سبتمبر الماضي: "لكي ننهض بهذا التحدي وبتحمل التكاليف المترتبة على بعثة للعودة بعينات من المريخ، نحتاج إلى جلب مجموعة كبيرة من الصخور. وقد كانت بدايتنا في ذلك مبشّرة".
البحث عن صخور رسوبية
حطَّت مركبة «بيرسيفيرانس» عند فوهة «جيزيرو» التي يبلغ عرضها 45 كيلومترًا في فبراير من عام 2021. وتستهدف المركبة بالدرجة الأولى البحث عن دلائل على وجود حياة سابقة، ووجهتها الرئيسية هي دلتا النهر سالف الذكر، والتي يبلغ عمرها 3.5 مليار عام، حيث تحولت الرواسب إلى صخور قبل وقت موغل في القدم.
قضت مركبة «بيرسيفيرانس» أكثر من عام وهي تشق طريقها إلى الدلتا، لتجري أهم الدراسات التي استهدفتها. وبعد هبوطها عند مسافة معينة من الدلتا، أبعد مما أمل فيه العلماء القائمون على المهمة، تجولت المركبة قاع فوهة «جيزيرو»، حيث عثرت على صخور نارية تشكلت مباشرة من صخور منصهرة، أو من نشاط بركاني، وهو ما أثار دهشة الباحثين. إذ توقعوا العثور على صخور رسوبية في قاع الفوهة، الذي كان فيما مضى قاعًا لبحيرة.
لكن لم تتحقق هذه التوقعات إلا مع بلوغ مركبة «بيرسيفيرانس» أخيرًا الدلتا في إبريل من عام 2022. فخلال الأشهر القليلة الماضية، جمعت المركبة الجوَّالة عينتين لبيتين من أنواع مختلفة من الصخور الرسوبية التي تشكّل حافة الدلتا.
إحدى العينتين جاءت من نتوء صخري يعرف باسم «نتوء سكينر الجبلي»، وتتكون من حجر رملي دقيق الحبيبات، يشبه نوعًا من الصخور التي تُشاهد في بقاع كثيرة على الأرض. وفي اللقطات المُقربة للعينات اللبية داخل أنابيب جمع العينات بمركبة «بيرسيفيرانس»، تبدو هذه العينة ذات لون فاتح، ومرصعة بحبيبات مستديرة من مادة داكنة. ويرجح أن النهر القديم الذي كان فيما مضى يصب في فوهة «جيزيرو» قد حمل هذه الحبيبات الداكنة من مناطق ربما تبعد مئات الكيلومترات. ومن ثم، فإن دراسة هذه الحبيبات قد تجعل العلماء يحيطون بتاريخ مناطق نائية من المريخ.
فحصت المركبة الجوَّالة «بيرسيفيرانس» الصخور الرسوبية في نتوء جبلي يُسمى «سكينر» (الصخور إلى اليسار ذات الحبيبات الداكنة) وفي نتوء جبلي آخر يُسمى «القط البري» (تظهر صخوره ذات الحبيبات الدقيقة إلى اليمين) حيث نخرت رقعًا دائرية في كلا النتوءين.
الزوج الآخر من العينات اللبية، جُمع حديثًا من بقعة نتوء جبلي تُسمى «القط البري» Wildcat Ridge، تقع على بعد 20 مترًا فقط من النتوء الجبلي المعروف باسم «سكينر»Skinner. وهذه العينات أفتح لونا، وذات قوام أكثر تجانسًا. وتبدو كأنها من أحجار طينية؛ فحبيباتها أصغر حتى من حبيبات العينات اللبية المستخرجة من النتوء الجبلي المعروف باسم «سكينر». وكلما كانت حُبيبات الصخر أدق حجمًا، زادت احتمالية احتوائها على دلائل على وجود حياة سابقة. وتجدر الإشارة إلى أنه على كوكب الأرض، تستقر الحبيبات دقيقة الحجم عادةً في البيئات الرسوبية منخفضة الطاقة، مثل قيعان البرك، التي تختزن الكائنات المتحللة، أو غيرها من العلامات الدالة على وجود صور من الحياة مستقرة في تلك البقعة.
وقد اكتشف العلماء جزيئات عضوية في نتوء «القط البري» الجبلي. إذ حفرت «بيرسيفيرانس» في بقعة مجاورة للمواقع التي استخرجت منها زوج العينات اللبية الأول، دائرة قطرها 5 سنتيمترات في النتوء لتستكشف تركيبته الداخلية، ثم مدت ذراعها الآلية وفحصت تركيب المعادن الموجودة به.
في ذلك الصدد، قالت سوناندا شارما، اختصاصية علم الكواكب من «مختبر الدفع النفاث»، إنه تبين أن هذه البقعة أغنى بالمواد العضوية من أية واحدة أخرى درستها المركبة «بيرسيفيرانس» حتى الآن. ويبدو أن المواد العضوية تتركز في البقع الغنية أيضا بمعادن الكبريتات، والتي يمكن أن تحمل دلائل على وجود الحياة. وقد أضافت شارما أن ذلك يشير إلى أن المواد العضوية ومعادن الكبريتات تزايد تركيزها مع تبخُّر البحيرة التي ملأت فوهة «جيزيرو» فيما مضى.
سعي مستمر
وقد انتقلت مركبة «بيرسيفيرانس» بالفعل إلى بقعة أخرى على سطح الكوكب الأحمر استكشفتها سابقًا، يطلق عليها «البحيرة المسحورة» Enchanted Lake. وهناك، ستعمل المركبة على جمع زوج آخر من العينات من صخور دقيقة الحبيبات، بالإضافة إلى بعض المواد الموجودة على سطح المريخ.
وقبل نهاية العام الحالي، يُرتقب أن تودع المركبة ست عينات لبية أو أكثر على أرض الكوكب، حيث ستخدم هذه المجموعة من الصخور كأول عينات يمكن إقلالها إلى الأرض في المستقبل. وستحتفظ المركبة «بيرسيفيرانس» ببقية أنابيبها على متنها، تاركة بعضها ممتلئًا وبعضها الآخر فارعًا، لتستمر في استكشاف «جيزيرو». وفي نهاية المطاف، سوف تصعد إلى أعلى الدلتا. ومن ثم تخرج من الفوهة لتستكشف التضاريس القديمة الأبعد.
وجدير بالذكر أن مروحية «إنجينيوتي» Ingenuity الصغيرة المرافقة لمركبة «بيرسيفيرانس»، قد استمر عملها لفترة أطول مما اعتقد مصمموها. وقد أتمت مؤخرًا رحلتها الثانية والثلاثين، في حين أنها صممت لتؤدي خمس رحلات فقط. وقد ظلت تحلق مصاحبة لمركبة «بيرسيفيرانس»، وتساعدها على استطلاع مسارات التحرك قدمًا.
اضف تعليق