عملية التشريع المحلي الممنوحة لمجالس المحافظات حسب الدستور وقانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21 لسنة 2008م المعدل رغم مجمل التعديلات والتفسيرات والاجتهادات القانونية التي حاولت تنظيم هذه العملية اثرت على العلاقة بين الحكومات المحلية والحكومة الاتحادية في مختلف الجوانب وبخاصة المادية مما جعل المحاكم هي الفيصل والحكم...
تختلف الاختصاصات والصلاحيات التي تمنح للوحدات الادارية المحلية المكونة للدولة من حيث السعة ابتداءً ومن حيث العلاقة بينها وبين الحكومة المركزية-الاتحادية في العاصمة توسطاً بل وحتى من حيث التسمية وطبيعة تكوين المجالس فيها واساليب اختيار الاعضاء ما بين انتخابات ام التعيين او الخلط والدمج بين الاسلوبين انتهاءً.
لذا فقد تتمتع تلك الوحدات الادارية في الدولة الاتحادية- الفيدرالية بصلاحيات اكبر وعلاقة غالبا ما تكون خارج خانة الوصايا الادارية وتكون ضمن العلاقة التعاونية وتسمى بحكومات محلية بغض النظر عن وجود بعض حالات الاستثناء في دولة ما فيما يخص تلك التسمية ومنخها بريطانيا مثلاً، وعلى العكس تماماً فإن الدولة الموحدة- البسيطة لا تمنح تلك الوحدات الا قسطا ضئيلا من الصلاحيات وتحدد العلاقة بينها وبين تلك الوحدات بعلاقة صارمة تصل الى حد الوصايا الادارية عليها استناداً الى جملة من الاسباب والحجج التي تقدمها الحكومة المركزية منها الحفاظ على وحدة الدولة وعدم الخروج عن المسار العام والخوف من التجزئة التي من الممكن حدوثها للدولة في حال منحها الكثير من الصلاحيات.
ولا تشذ الحالة العراقية قبل وبعد عام 2003م عن الطريقتين اعلاه فقد مرت الوحدات الادارية المحلية في العراق بتحولات كثيرة سواءً من حيث الصلاحيات الممنوحة لها او طبيعة ونوعية علاقتها بالحكومة المركزية في العاصمة، بل وحتى في تسميتها ما بين ادارات وحكومات محلية كما ان آلية الاختيار للأعضاء فيها والمجالس التي تمثل كل وحدة اختلفت ما بين طريقة الدمج بين الانتخاب والتعيين او التعيين فقط، الا ان التحول الابرز لها كان بعد عام 2003م والتغيير الذي شهده العراق في كافة المجالات ومنها المجال الاداري، حيث منحت تلك الوحدات المحلية صلاحيات كبيرة لم تألفها من قبل كونها تمثل احد مكونات الدولة العراقية الجديدة حسب الدستور العراقي النافذ للعام 2005م.
اذ منحت الوحدات الادارية المحلية الخاصة بالمحافظات غير المنتظمة بإقليم جملة من الصلاحيات المالية والادارية الكبيرة في النصوص الدستورية ومن ثم القانونية الخاصة بها والتي تنظم عملها وطبيعة تلك الصلاحيات وعلاقتها بالحكومة المركزية والتي تعدت بعض الاحيان جانبي الادارة والتمويل واقتربت اكثر من التشريع، وان اختلفت الآلية بين التشريع المحلي وبين التشريع التي تختص به السلطة التشريعية الاتحادية الامر الذي ثار ولا زال يثير العديد من الاشكاليات القانونية بين الطرفين مما جعل من المحاكم الفيصل بينهما في تلك الامور.
مما جعل الامور تصل في بعض الاحيان الى العلاقة التقاطعية لذا برزت مجموعة من التساؤلات في حينها ولا زال البعض منها على الرغم من مرور (17) سنة على التجربة اذا ما حسبناها منذ عام 2008م، منها على سبيل المثال لا الحصر ماهي الرؤية والظروف التي دعت الى منح الوحدات الادارية هذه السعة في الصلاحيات؟، وما الغاية من منح الوحدات الادارية صلاحية التشريع؟، كيف تسير العلاقة بين الحكومة الاتحادية والوحدات الادارية؟ وهل اسست النصوص الدستورية والقانونية المسار الصحيح لطبيعة تلك العلاقة؟، وماهي اجراءات التشريع المحلي؟ وماهي مراحله؟، وما أثر التشريع على العلاقة بين الحكومة الاتحادية والمحلية؟.
وبغض النظر عن الاسباب والمسببات والعوامل الداخلية والخارجية التي دعت الى ان تكون الحكومات المحلية في العراق بهذه الصورة فإن الضرورة تقتضي العمل على رؤية مشتركة تختلف عن تلك التي كانت عند صياغة الدستور النافذ وتعديل سعة الصلاحيات الممنوحة للوحدات الادارية وعدم التذرع بالخوف من عودة الدكتاتورية والمركزية، اذ ان تلك الرؤية لم تكن مدركة لتلك المسألة مما جعل العلاقة تسير في اكثر الاحيان وفق المسار التوتري وعدم التعاون بسبب النصوص الدستورية التي تعطي الاولوية للوحدات المحلية في حال الخلاف بينهما، فإجراءات التشريع المحلي هي ليست ذاتها في التشريع الاتحادي سواء من حيث الاجراءات او المراحل لذا فقد كان احد اسباب توتر العلاقة بين الطرفين مما يتطلب معالجة ذلك كله وفق التعديلات القانونية المنظمة لطبيعة عمل الوحدات المحلية.
فعند النظر والتمعن في مراحل التشريع المحلي ومدى اختلافها عن التشريع الاتحادي نجد من اللازم التعريف باختصاصات وصلاحيات المجالس اذ أن مجالس المحافظات غير المنتظمة بإقليم تتمتع بهذه الصلاحية والاختصاص دستورياً وقانونياً حسب نصوص دستور عام 2005م ومن ثم قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21لسنة 2008 وتعديلاته (رقم 15 لسنة 2010- رقم 19 لسنة 2013 - رقم 10 لسنة 2018) وهي على انواع فمنها ما يتعلق بالتشريعات الادارية المحلية ومنها على سبيل المثال تشريع النظام الداخلي لكل محافظة وان كانت هناك اختلافات في هذه النظام ما بين المجالس سواء من حيث المواد والصياغات والمصطلحات او حتى في كمية المواد التي يتضمنها (فمثلاً النظام الداخلي لمجلس محافظة الديوانية يتكون من 60 مادة، والنظام الداخلي لمجلس محافظة البصرة يتكون من 120 مادة بعدما كانت 65مادة وفق التعديل الاخير في عام 2024)، فضلاً عن ذلك فمجالس المحافظات لها الصلاحية في تشريع قانون لاستحداث اقضية ونواحي او تغيير اسماءها.
وفضلاً عن ذلك فلها الصلاحية في التشريعات المالية ضمن الرقعة الجغرافية الخاصة بها ومنها على سبيل المثال الرسوم والغرامات شرط عدم تعارضها مع القوانين الاتحادية، كذلك فيما يتعلق بالموازنة المحلية من حيث قراءة مشروع الموازنة قراءتين اولى وثانية في جلستين منفصلتين والمصادقة عليه واجراء المناقلة بين ابوابها بموافقة الاغلبية المطلقة لعدد الاعضاء على ان تراعى المعايير الدستورية في التوزيع لمركز المحافظة والاقضية والنواحي ورفعها الى وزارة المالية الاتحادية لتوحيدها مع الموازنة العامة الاتحادية المصادقة عليها إلا ان هذه الصلاحية ولدت العديد من المشاكل والتقاطعات بين بعض المجالس والحكومة الاتحادية بسبب ضعفها القانوني في سن تلك التشريعات مما اثر على طبيعة العلاقة بين مكونات الدولة العراقية مما جعل الطرفين تتجه الى تفسيرات المحكمة الاتحادية ومجلس شورى الدولة.
وفيما يتعلق بمراحل التشريع المحلي الممنوح لمجالس المحافظات بموجب الدستور والقانون وان كان يختلف في بعض الجزئيات عن الاتحادي سواء في خصائصه او اثاره وقواعده الا انها في المجمل من الناحية الشكلية تتمثل في ثلاث مراحل هي اقتراح مشروع القانون المحلي ومناقشته، التصويت عليه واقراره ومن ثم المصادقة عليه ونشره ونفاذه، حسب ماتناوله الباحث (اسماعيل صعصاع واخرون) في بحثه تشكيل المجالس المحلية في القانون العراقي دراسة مقارنة.
ورغم ان التشريع المحلي يأتي بصيغة مشروع وليس مقترح وهذا يعني حسب الدستور العراقي النافذ بأنه مقدم من السلطة التنفيذية اذ فرق بين مقترحات ومشاريع القوانين والجهات التي تقدمها، يتضح لنا انها تقدم من السلطة التنفيذية وبما ان السلطة التنفيذية في المحافظات تتمثل في المحافظ فقد اهمل المشرع مقترحات القوانين والتي تقدم من السلطة التشريعية المحلية، ولعل ذلك وقع في خانة السهو التشريعي او المكرمة التنفيذية للمحافظ، او لعلها ترجع الى مبررات ومسوغات الفقه التشريعي التي ترى في السلطة التنفيذية بغض النظر عن كونها محلية او اتحادية انها الاقرب والاكثر معرفة بالقوانين وتعديلها ومعرفة ثغراتها، الا ان الواقع وحسب الانظمة الداخلية لبعض مجالس المحافظات غير المنتظمة بإقليم، تقدم مشاريع القوانين من قبل رئيس واعضاء المجلس اي السلطة التشريعية وليس المحافظ، لذا يتطلب الامر معالجة تشريعية اتحادية من خلال سن نظام داخلي موحد لكل مجالس المحافظات وصياغة العبارات القانونية الصحيحة لتفادي الاشكاليات وتحسين العلاقة التعاونية بين المحافظات والحكومة الاتحادية.
وفي جنبة المناقشة والتصويت فقد اختلفت مجالس المحافظات وحسب انظمتها الداخلية في المدة الزمنية ما بين القراءة الاولى والثانية لمشروع القانون فضلاً عن آلية وكيفية التصويت على مشروع القانون ككل او جزئياً اي بصورة مفردة لكل مادة، ومن ثم معالجة الاشكاليات في حالة عدم التصويت على احدى المواد من خلال معالجتها واعادة التصويت عليها مرة اخرى في جلسة ثانية.
وتكمن جملة من السلبيات في هذه الحالة منها الوقت الكبير الذي يستغرقه تشريع القانون منذ اقتراحه وتسليمه الى رئيس المجلس وعرضه على اللجنة القانونية ومن ثم درجه على جدول الاعمال ومن ثم القراءة الاولى والثانية والرجوع مرة اخرى الى تعديل المواد المختلف عليها وعرضها مرة اخرى والتوافقات السياسية الاتحادية وانعكاساتها على تلك المشاريع، فضلاً عن الصورة السلبية المعكوسة عن اعضاء مجالس المحافظات وثقافتهم القانونية عند المواطن المحلي الذي كان ولا زال يرى فيها حلقة زائدة ولعل ماطرح اعلاه احد اسباب ذلك الاعتقاد الشعبي.
فالمادة (47) من النظام الداخلي لمجلس محافظة الديوانية تنص على يختص المجلس بالصلاحيات التشريعية والقانونية الاتية اولاً: أ-إصدار التشريعات المحلية والأنظمة والتعليمات واللوائح لتنظيم الشؤون الإدارية والمالية بما يمكن الهيئات التنفيذية المحلية لإدارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الإدارية وبما لا يتعارض مع الدستور ب-تعديل بنود النظام الداخلي بناءا على اقتراح هيئة الرئاسة او ثلث أعضاء المجلس وبموافقة الأغلبية المطلقة لعدد أعضائه،ج- تقدم مشروعات القرارات من قبل المحافظ أو إحدى لجان المجلس أو احد أعضائه.
ثانياً: نقض القرارات وإيقاف الإجراءات التي تتخذها السلطات التنفيذية والمجالس المحلية في الاقضية والنواحي التابعة للمحافظة إذا وجد فيها ما يتعارض مع التشريعات النافذة.
ثالثاً: المصادقة على مذكرات التفاهم والاتفاقيات والعقود التي يبرمها المحافظ مع المنظمات الوطنية والأجنبية غير الحكومية.
ما يهمنا هو البند اولاً من المادة اعلاه فقد فرق المجلس بين مشاريع القوانين ومشاريع القرارات، فقد منح الاولى لمجلس المحافظة حصراً واما الثانية فقد جعلها مشتركة بين المحافظ ولجان المجلس والاعضاء، ولو رجعنا الى الفرق بين القانون والقرار لوجدنا ان القانون هو قواعد عامة ومجردة تصدر من السلطة التشريعية، واما القرار فهو إفصاح الإدارة في الشكل الذي يحدده القانون من إرادتها الملزمة بما لها من سلطة عامة بمقتضى القوانين واللوائح، وذلك بقصد إحداث مركز قانوني متى كان ممكناً وجائزاً وكان الباعث عليه المصلحة العامة.
وفي مرحلة الاصدار والنشر في الجريدة الرسمية الخاصة بكل مجلس محافظة اذ اتاح قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21لسنة 2008م المعدل لمجالس المحافظات اصدار جريدة رسمية لنشر قوانينها وتعليماتها وانظمتها ولوائحها، اذ اختلفت التسميات الخاصة بكل جريدة مثلاً مجلس محافظة الديوانية سماها (وقائع الديوانية) فضلاً عن التصميم الفني والشكلي لكل منها، وما يهمنا هو آلية نشر القانون المحلي فيها اذ ان هناك تداخلاً بين الجهة المصدرة والمشرعة للقوانين ما بين المجلس ورئيس المجلس من جهة والمحافظ من جهة اخرى.
خلاصة القول ان عملية التشريع المحلي الممنوحة لمجالس المحافظات حسب الدستور وقانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21 لسنة 2008م المعدل رغم مجمل التعديلات والتفسيرات والاجتهادات القانونية التي حاولت تنظيم هذه العملية اثرت على العلاقة بين الحكومات المحلية والحكومة الاتحادية في مختلف الجوانب وبخاصة المادية مما جعل المحاكم هي الفيصل والحكم في هذه المنازعات مما يتطلب في النهاية تنظيم هذه العلاقة بآليات وتعديلات وحذف عبارة مجلس المحافظة سلطة تشريعية وحصر التشريع بالسلطة التشريعية الاتحادية او وضع آلية للتشريع المحلي موحدة لجميع مجالس المحافظات وعدم تركها لاجتهادات وعدم المعرفة مما يؤثر على سير التشريع المحلي واختلاف آلياته ومراحله من محافظة الى اخرى.
اضف تعليق