المطالبات الشعبية برزت في اكثر من مناسبة مطالبة بالتخلي عن النظام البرلماني والتحول الى الرئاسي او شبه الرئاسي وان كانت تلك المطالبات مبنيـة على قناعات من عجز النظام الحالي في تحقيق متطلباتهم ورغباتهم، ومنها متعلقة بالعدد الكبير لأعضاء مجلس النواب وامتيازاتهم، وثالثة ترى في النظام البرلماني عقبـة في التطور...
يعد النظام البرلماني واحدا من أقدم الانظمة السياسية في العالم في الوقت ذاته تعد بريطانيا مهد هذا النظام، فكرة النظام قائمة على الفصل بين السلطات الثلاث، فهناك ثلاث سلطات الاولى تشريعية والمتمثلة في برلمان ذات مجلسين أحدهما يهتم بالدولة بأكملها والاخر خاص بالوحدات الادارية المكونة للدولة، وان اختلفت التسميات من دولة الى اخر ما بين مقاطعات وولايات ومحافظات واقاليم واللاندر وغيرها.
كما ان الدول ذاتها المتبـنية للنظام البرلماني تختلف في طريقة تكوين المجلس من حيث العدد والانتخاب وهو امر طبيعي خاص بكل دولة وظروفها وعوامل اخرى، وتلجأ اليه الدول بمختلف اشكالها سواء موحدة ذات سلطة مركزية او اتحادية ذات سلطة لامركزية او ثالثة تتراوح في عدم التركيز الاداري، اما السلطة الثانية فتتمثل في التنفيذية والتي تتألف من جزئيين احداهما يحكم صوريا والآخر فعليا، اما السلطة الثالثة فهي القضائيـة والتي غالبا ما تكون مستقلة عن تلك السلطتين واقعيا.
تتحدد العلاقة بين تلك السطات دستوريا من خلال وجود آليات ووسائل خاصة بكل سلطة تجاه الاخرى خاصة فيما يخص التشريعية والتنفيذية، فالدساتير تعطي اهمية كبيرة لهذه العلاقة وذلك يرجع الى طبيعة عمل كلا السلطتين وحفاظا على التوازن بينهما وعدم التعدي من قبل احداهما على الاخرى، فوسائل الرقابة البرلمانية المتمثلة في السؤال والاستجواب والاقالة وسحب الثقة منها هي سلاح التشريعية تجاه التنفيذيـة في حال الاخلال بالواجبات او وجود تهم تخص الحكومة بكامل او جزء منها، في مقابل ذلك تعطي تلك الدساتير صلاحيات ووسائل للتنفيذية منها حل البرلمان سواء من قبل رئيس الجمهورية او رئيس الوزراء مع وجود شروط تختلف من دولة الى اخرى.
هناك تجارب برلمانية عديدة استمرت لسنوات واخرى لم تستطيع الصمود جراء عدم تنظيم العلاقة بين السلطات مما جعل النظام في جميعه يعاني من خلل في اكثر من مرة، وقد يصل الى الانسداد اذ تتعطل كل مؤسسات الدولـة وتتوقف مصالح المجتمع مما يفضي في النهاية الى المطالبة الشعبية بالتخلي عن النظام، فبريطانيا صاحبة الامتياز الاول في تبني هذا النظام ورغم آليات التوازن التي تحكم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية الا انها عانت لأكثر من مرة لتوتر في تلك العلاقـة لكن سرعان ما استطاعت التغلب عليها ذلك يرجع الى طبيعة الحياة الحزبية وكيفية تقاسم السلطة فيها.
اتجهت دولا ذات انظمة برلمانية مؤخرا الى التخلي عنه والاتجاه الى الرئاسي في محاولة منها لتصحيح المسار من تلك الدول تونس التي كان النظام الدكتاتوري حليفها طوال السنوات الماضية منذ الاستقلال وحتى العام 2011م الذي كان من حصة الحبيب بورقيبة بـ(31)سنة وزين العابدين بن علي بـ(23) سنة ليتم بعدها التحول الى النظام الديمقراطي الجديد بعد ان شهدت بداية ثورات الربيع العربي في ذلك العام، بعد ذلك تبنت تونس النظام البرلماني ذات المجلس الواحد بعد ان كان ذات مجلسين، وما بين حل البرلمان وتجميده من قبل رئيس الحكومة تخلت تونس في النهاية عن ذلك النظام واللجوء الى الرئاسي بعد الاستفتاء على الدستور التونسي بنسبة مختلف عليها بين المناصرين والمعارضيـن، فنسبة خمسة وتسعون في المئة من المقترعين في الاستفتاء يصوتون بـ"نعم" لدستور الجمهورية الجديد في ختام استحقاق يمثل الخطوة الرئيسية في مبادرة الرئيس التونسي لـ"تصحيح المسار"..
لم تقف مسألة التحول والتخلي عند تونس فسبقتها تركيا التي حولت نظامها السياسي البرلماني الذي لازمها اكثر من تسعون عام او اكثر، الا ان تركيا لم تتحول دفعة واحدة وانما تم عبر مراحل الى رئاسي فبداية حولته من برلماني الى شبه رئاسي يتم انتخاب رئيس الجمهوريـة من قبل الشعب مباشرة اذ تكونت السلطة التنفيذية من رئيس الوزراء ورئيس الجمهوريـة وهو ما لا يرغبه حزب العدالة والتنمية التركي المسيطر على الحكم ومن ثم التحول من شبه الرئاسي الى الرئاسي ذات الصلاحيات الكبيرة لصالح التنفيذية على حساب التشريعية مدعيا اي الحزب ان عملية التحول ستسهم في تسريع القرارات بدلا من الائتلافات الضعيفة في النظام البرلماني مما يعني في النهاية ان الرئاسي يشجع الديمقراطية ويدعم الاستقرار السياسي ويكًون حكومة قوية ورصينة، الا ان تلك المبررات لا تراها المعارضـة بل العكس من ذلك تماما، فمنذ التعديلات الدستورية التي اجرتها تركيا على دستورها عام 2017م والتي تم تطبيقها على الانتخابات في العام 2019م اضحت حينها تركيا دولة ذات نظام رئاسي.
وفيما يخص الحالة العراقية فلم يحدد الدستور النافذ بوضوح آليات السلطة التنفيذية في مواجهة التشريعية ولعل ذلك يرجع الى طبيعة صياغة الدستور والظروف التي لازمته وحتى اللجنة التي صاغته مما افضى في النهاية في الوصول الى محطات مغلقة تهدد التجربة العراقية البرلمانية بالكامل بل ان المطالبات الشعبية برزت في اكثر من مناسبة مطالبة بالتخلي عن النظام البرلماني والتحول الى الرئاسي او شبه الرئاسي وان كانت تلك المطالبات مبنيـة على قناعات من عجز النظام الحالي في تحقيق متطلباتهم ورغباتهم، ومنها متعلقة بالعدد الكبير لأعضاء مجلس النواب وامتيازاتهم، وثالثة ترى في النظام البرلماني عقبـة في التطور واهدار للأموال وعدم الفائدة، ورابعة تريد التخلص من وجود البرلمان اصلا والذهاب الى الرئاسي او شبه الرئاسي ظنا منها انهما يخلوان من وجود البرلمان.
فمثلا حل البرلمان العراقي الذي نظمته المادة (64) من الدستور العراقي النافذ لعام 2005م والتي نصت على ان حل البرلمان يجري بإحدى طريقتين: إما بطلب من رئيس الحكومة وموافقة رئيس البرلمان، أو بطلب من ثلث أعضاء البرلمان على أن يجري التصويت على حله بالغالبية، وهناك من يرى امكانية الحل من خلال طلب رئيس الوزراء وموافقة رئيس الجمهورية واخرون يرون خلاف ذلك فالأمر في جميعه مقتصر ومنحصر بيد مجلس النواب ذاته حتى في حال تحقق الطلب لرئيس الوزراء وموافقة رئيس الجمهورية.
فعلى الرغم من تباين والاختلاف في النماذج والتجارب اعلاه سواء من حيث شكل الدولة واختلافه ما بين اتحادية فيدرالية وما بين موحدة مركزية وما بين ذات قدم في التجربة واخرى حديثة وما بين وجود اعراف تحكمها وتنظم العلاقة بين السلطات واخرى ذات دساتير مصوت عليها وان اختلفت طريقة التصويت، وحتى طبيعة التحول في البداية من الدكتاتوري الى الديمقراطي واختيار البرلماني لنمط إداره الحكم وتقاسم السلطات فهي الاخرى مختلفة بينهما تماما، اثبت النظام البرلماني فشله في تلك الدول وهدد استقرارها السياسي وعطل مصالح مجتمعاتها مما حرى بها تركه والتحول الى آخر وان كان صوريا يختلف عما هو واقعيا وذلك يرجع الى طبيعة كل دولة والسلطة الحاكمة فما موجود في الولايات المتحدة من نظام رئاسي ناجح لا يمكن تعميمه على دول أخرى.
الخلاصــــــــة: فشل الانظمة البرلمانية من حيث تنظيم العلاقة بين السلطات كان ولا يزال السبب الرئيسي في التخلي عنه والتحول الى اخر تكون السيطرة فيه للتنفيذية على التشريعية وان اختلفت تلك النسبة بين دولة واخرى حسب ما محدد دستوريا وما يفرضه الواقع من خلال الممارسات العملية لكلا السلطتين، مما يستلزم في التجربة العراقية تعديل المواد الدستورية الحاكمة لطبيعة العلاقة بين التشريعية والتنفيذية لصالح الاخيرة خاصة فيما يتعلق بحل البرلمان والا فإن الانسدادات السياسية التي تواجهه التجربة ستبقى مستمرة بكل مناسبة انتخابية وان سلمت في مرة فإنها لا تكون كذلك في اغلبها، وستكون المطالبات الشعبية اكثر قوة في التخلي عن النظام البرلماني والتحول الى اخر مهما اختلفت نوعيته ما بين شبه رئاسي او رئاسي او حتى ما يطلقه البعض من المقاطعين لشكل النظام الحالي وتبني (النظام الدينقراطي).
اضف تعليق