q
الهوية الفكرية لحقوق الإنسان لابد أن تركز على الترابط العقلاني بين متطلبات اللحاق بالتطور الحضاري، والحفاظ على الثقافات المتنوعة كل حسب ثقافته وخصوصيته، كما يلزم الابتعاد عن الإدراكات الهزيلة القائمة على شعارات لم نجن منها غير التخلف والتأخر وجلد الذات وتحميلها مسؤولية النكبات والاخفاقات المتواصلة...

نحتاج على المستوى الفكري اليوم تنظيرات جادة؛ لخلق هوية واضحة المعالم، ننطلق منها لتأصيل مفهوم حقوق الإنسان بما يتناسب والمتغيرات الحاصلة في الحياة والثقافة على حد سواء. ولعل غياب التنظير المعرفي مرده إلى مرجعياتنا على مستوى الموروث والتقاليد.

وهذان المستويان العريقان؛ لعبا دوراً أساسياً وفاعلاً في تشكيل الهوية الفكرية لكثير من المفاهيم الملتصقة بحياة الأفراد.

والواضح الذي لا لبس فيه؛ هو أن مفهوم حقوق الإنسان ليس له أن يتشكل بهوية فكرية يبتعد المنظرون لها عن قيمة الكرامة الإنسانية، فأي فصل لقيمة الكرامة يعني هوية عرجاء لحقوق الإنسان، وهذا النوع من الهوية هو السائد في بلداننا، حيث تنتشر مظاهر كثيرة يُفهم منها ــ ظاهراً ــ أنها من أبجديات الحقوق، لكنها في الحقيقة تطيح بكرامة الإنسان وبقيمته، فيكون الصراع على أشده بين بين ثنائية الحقوق / الكرامة وفق التشكل الهوياتي الذي يفصل بينهما رغم ارتباطهما الوثيق على المستوى الوجداني.

لابد أن تستند الهوية الفكرية لحقوق الإنسان على حقيقة ثابتة مُسَلَّمٍ بها وهي أن كل الحقوق تنطبق على كل البشر دون تمييز، وليس على ما هو معمول به حالياً حين يتم إخضاع حقوق الإنسان لصراع الإرادات التي يختلط فيها السياسي بالاقتصادي، بحيث تكون المصالح الاستراتيجية للبلدان الكبرى منطلقاً لترسيخ المفهوم، حتى وإن جاء الترسيخ بآليات لا علاقة لها بحقوق الإنسان أصلاً، وتقدم لنا المفهوم متجرداً من القيم الأخلاقية، بينما يجب أن يكون المفهوم متداخلاً مع كل المعايير. فالاشتراك بين القيم الأخلاقية والدينية والثقافية والفلسفية يمثل معياراً أساسياً لحياة تكون حقوق الإنسان نواتها.

حقوق الإنسان وغموض الخطاب

حين تلعب الإرادة السياسية دوراً في صياغة خطاب يعنى بحقوق الإنسان؛ فإن من الطبيعي أن يتسم هذا الخطاب بالغموض والتناقض، خصوصاً لو تغلفت هذه الإرادة بمنطق استعماري يتقنع بأشياء شكلية وظاهرية يراها مخدوعون بأنها مرتبطة بحقوق الإنسان وكرامته، بينما هي في جوهرها تسلب الإنسان حقوقه وكرامته.

ولعل الحروب التي تشنها الدول الكبرى بقصديات الهيمنة متذرعة بذرائع الدفاع عن الديموقراطية وحقوق الإنسان مصداق لغموض الخطاب وضبابيته. وأكثر مفردات هذا النوع من الخطاب يتعامل مع مفهوم حقوق الإنسان بانتقائية تنسجم وقصديات الهيمنة التي تشن من أجلها الحروب التدميرية والوحشية، وبالتالي يكون الخطاب أداة لترسيخ القوة، عندها سنصل إلى حالة من نبذ المفهوم المتشكل من مفردات الخطاب الغامض، ونعود ندور في فلك الاستفهام عن كيفية فهمنا لحقوق الإنسان.

وفي حال أردنا أن نتبنى خطاباً واضحاً بعيداً عن الغموض الذي لفلفته قصديات الهيمنة وغيرها؛ يلزم أن يكون الخطاب متصالحاً مع السياقات الاجتماعية التي ينتج فيها، وبخلاف ذلك سيكون الخطاب استكمالاً لسلسلة التناقضات السابقة. وهذا لا يعني عدم الإيمان بعالمية أو كونية مفهوم حقوق الإنسان، لكن الإيمان بكونية المفهوم ينبغي أن يراعي الخصوصيات والثقافات المتنوعة لبني البشر.

ويمكن ان نأخذ قضية اندماج الأقليات المهاجرة لمجتمعات وأوروبا وغيرها كمثال لقضية حقوق الإنسان المتماهية مع السياقات الاجتماعية، فقد فشلت في أكثر من مرة، وأكثر من بلد، قوانين حاولت إرغام الأقليات المهاجرة على الاندماج في حياة المجتمعات التي هاجرت إليها، وسبب هذا الموضوع إشكاليات كبرى ــ حظر الحجاب مثلاً ــ ،وهو ما أفرز صراعاً خفياً بين هويتين اجتماعيتين، سرعان ما صار صراعاً ظاهراً بين توجهات دينية للاجئين، وأخرى علمانية لمواطني الدولة التي استقبلت اللاجئين، وأعاد من جديد السؤال حول حقوق الإنسان، والكيفية التي يتم بموجبها فهمها، وبذلك صار غياب الهوية الفكرية لمفهوم حقوق الإنسان سبباً لتشظي الهويات الاجتماعية وخصوصياتها، الأمر الذي يستدعي وقفة تنظيرية جادة من جوانب ثقافية وعلمية وفلسفية، تعيد إنتاج المفهوم، وتصوغ له هوية فكرية تقترب من متطلبات الفرد، والمتغيرات التي تتسارع حوله.

الهوية الفكرية لحقوق الإنسان لابد أن تركز على الترابط العقلاني بين متطلبات اللحاق بالتطور الحضاري، والحفاظ على الثقافات المتنوعة كل حسب ثقافته وخصوصيته، كما يلزم الابتعاد عن الإدراكات الهزيلة القائمة على شعارات لم نجن منها غير التخلف والتأخر وجلد الذات وتحميلها مسؤولية النكبات والاخفاقات المتواصلة، وننطلق صوب تأسيس الرؤى الناقدة والمحللة التي تضع أسباب الاخفاقات على طاولة النقد الجدي، فالمواجهة الشجاعة للأزمات أفضل من تأجيلها، أو الهروب منها.

اضف تعليق